الغوطة الشرقية والمناحات “الإنسانوية” في مجلس الأمن

كي لا نخطئ في التقدير والقراءة السياسية، وكي لا يختلط الحابل بالنابل، أعلن وفي صدر الصفحة الأولى: أنه يولمني أن تجرح دجاجة أو تحرق سنبلة أو عرنوس ذرة أو أن تتألم زهرة في أي مكان على وجه هذه الأرض.. فما بالك أن يقتل طفل أو إنسان مهما كانت جنسيته وقوميته ودينه ولونه وجنسه وعمره!!!.

في هذا الزمن الذي يغص بدمنا منذ قرن ويزيد، علينا أن نفرق بين ثقافتين، سياستين، مقاربتين وأخلاقين فيما يتعلق بحقوق الإنسان وحياة الإنسان.

الأولى: مقاربة سافلة وهابطة ومنافقة بكل المقاييس، لا ترى في الإنسان سوى وسيلة لكي يتواصل القهر والإرهاب والتطرف والهيمنة والاحتلال والخضوع، حيث الإنسان مجرد سلعة دونية، تلك هي مقاربة دول وقوى الاستعمار والهيمنة والرجعية والتخلف.

والثانية: مقاربة نقيضة سياسية وأخلاقية عالية تلازم الإنسان كقيمة عليا حرة ومستقلة تحرس الروح والوطن والحضارة والثقافة الإنسانية الجميلة.. تلك هي مقاربة الأحرار والمقاومات بكل تجلياتها الإنسانية البهية..

بهذا التمييز الحاسم فقط نتجاوز السذاجة كي لا تأخذنا المشاعر المزيفة… لهذا يجب أن نجيد القراءة السياسية بعيدا عن الانفعال والغوغائية.. فليست كل الدموع صادقة… فلا تعني دموع الصياد شيئا وهو يسلخ الطريدة ويشويها على النار استعدادا لسهرة ماجنة… كما لا يعني عويل اللصوص والقتلة شيئا وهم يقتسمون الغنائم… كما ليس بالتأكيد لدموع المغتصب أية قيمة فيما هو يمارس جنونه المرضي مع طفلة.

السؤال هو:هل الإنسان هو فقط من تعترف به أمريكا وغير ذلك لا شئ… أم ماذا!؟.

حين تصبح حياة الإنسان عند البعض، سواء دولا أو مجموعات أو تنظيمات أو أفراد، مجرد وسيلة لتحقيق مصالح وأهداف غير نبيلة مطلقا فإن تفقد ركائزها الإنسانية كلها فتنهار كقيمة أخلاقية وسياسية، تصبح مجرد سمسار للموت والعواطف.

لهذا ليس غريبا أو مفاجئا، بل وحتى من الغباء عدم توقع نصب المناحات وبيوت العزاء في البيت الأبيض وفي بريطانيا وفرنسا وتل أبيب “حزنا وألما” وغيرها على ما يتعرض له المدنيون السوريون في الغوطة الشرقية…

هذا ما نعيشه ونشهده باستمرار في مقاربات الدول الاستعمارية الأكثر قهرا وعدوانية ووحشية وهي تتوسل المشاعر الإنسانية لكي تمرر طموحاتها وأهدافها في استعباد الشعوب والأمم.

إنها بالضبط تشبه ذلك المتسول الذي يعزف على أكثر الأوتار الوجدانية والإنسانية حساسية لكي ينجح في الابتزاز فيستولي على ما في جيب الإنسان حتى ولو كان القرش الأخير…

هنا تفقد القيم معناها النبيل، تصبح مجرد وسيلة سياسية لكي تفرض القوى الاستعمارية مشاريعها.. فلا يهمها أن يقتل الآف أو عشرات الآلاف، المهم أن تنجح في تمرير ما تريد.. وهذا بالضبط هو أخطر انواع الإرهاب، إرهاب الدولة وابتزازها للمشاعر الإنسانية.

لكل هذا نلاحظ أنه في سنوات الصراع الضاري والحرب المدمرة التي تستهدف سورية منذ سبع سنوات أن “المدنيين” في العرف الأمريكي الغربي الرجعي العربي هم فقط من تستوطن في جغرافيتهم المنظمات الأكثر إرهابا ووحشية ودموية، من جبهة النصرة (القاعدة) وداعش وجيش الإسلام الممول من آل سعود، وفيلق عبد الرحمن الممول من قطر ومجموعة نور الدين زنكي التي قطعت رأس الطفل الفلسطيني عبد الله عيسى ذبحا دون أن يرف لإنسانيتها وإنسانية مشغليها جفن، أو ثوار زهران علوش الذين وضعوا أبناء الغوطة في الأقفاص…

الغريب هنا أن المدنيين وفق التصنيف الأمريكي هم موجودون فقط في المناطق التي لا تزال تسيطر عليها أكثر الجماعات الإرهابية دموية ووحشية في سورية… والغريب وفق ذات المنطق الأمريكي أن جميع المدن السورية الأساسية التي تسيطر عليها الدولة السورية ليس فيها مدنيين من دمشق إلى اللاذيقية ودرعا والسويداء وحمص وحماة وطرطوس وحلب…عفوا لقد كان في حلب “مدنيين” يوم كانت تحت سيطرة المجموعات الإرهابية، وأيضا يوم كانت دير الزور وحمص تحت سيطرة داعش وجبهة النصرة…

أما الرقة التي دمرها التحالف الأمريكي بنسبة 95% فلم يكن فيها مدنيين…

المعادلة هي: حيث تقصف الطائرات الأمريكية وحيث تقصف المجموعات الإرهابية لا وجود للمدنيين… إنهم موجودين فقط حيث يتقدم الجيش السوري وحلف المقاومة…

هذا المنطق هو ذاته الذي يحكم الموقف من الاحتلال الإسرائيلي… فلا وجود ل 2 مليون فلسطيني مدني محاصرون في غزة… فالمعادلة هنا هي من حق إسرائيل المدللة و “الإنسانية جدا” ان تدمر غزة عشر مرات وأن تقلب عاليها واطيها لأنها “تدافع عن نفسها…” هنا لا مكان للمدنيين ولا حياة ولا حقوق… بل لا يوجد أصلا وفق هذه المعايير “الإنسانية جدا” في فلسطين كلها أي مدنيين، لا في غزة ولا في الضفة ولا في القدس ولا في الناصرة وحيفا ويافا وعكا… كلهم إرهابيون… فقط إسرائيل “المسكينة” تدافع عن نفسها… وفي سياق دفاعها هذا لا بأس بملايين اللاجئين ومئات آلاف الضحايا ومئات آلاف الأسرى… فذلك نتائج جانبية ل”دفاع إسرائيل” عن “إنسانيتها” ضد 13 مليون فلسطيني لا يوجد بينهم مدني واحد… هكذا يقرر منطق القوة والنفاق… أليس كذلك!؟.

وفق ذات المنطق أيضا لا وجود لملايين المدنيين في اليمن حيث تغير طائرات التحالف السعودي منذ 3 سنوات، لا وجود للأطفال والنساء… فحين تقصف طائرات التحالف السعودي الأعراس وبيوت العزاء والمستشفيات والمدارس … فإنها تقصف فقط مقاتلين وفق منطق المشاعر “الإنسانية الأمريكية”…

وذات الأمر يحدث في أفغانستان وليبيا كما حدث في العراق وفي ملجأ العامرية والفلوجة التي قصفت بالفسفور الأبيض … فحيث تقصف أمريكا وقوات التحالف… لا وجود للمدنيين…!!!!!!.

بالضبط هو ذات المنطق الذي لم ير اية قيمة لمئات آلاف المدنيين اليابانيين في هيروشيما وناغازاكي وهم يذوبون في العصف النووي الذي أمطرتهم به طائرات أمريكا الإنسانية جدا مع نهاية الحرب العالمية الثانية… أو التدمير الشامل لمدينة دريزدن الألمانية… أو حروب حرب الإبادة في فيتنام وكوريا … وحروب فرنسا في الجزائر وسورية وحروب بريطانيا في الهند وغيرها من المستعمرات…

في تلك الحروب الاستعمارية التي ذهب ضحيتها عشرات الملايين من الضحايا لم تكن تلك الدول تقبل بهدنة أو وقفا لإطلاق النار حتى لو مُسحت مدن بكاملها عن وجه الأرض… أما هنا فهم يلازمون بيت الندب في مجلس الأمن ليل نهار لكي ينقذوا ما يمكن إنقاذه من العصابات التي نظموها ومولوها وسلحوها من بين يدي الجيش العربي السوري الذي يواصل تنظيف سورية من كل هذه العصابات ومن يقف وراءها أيضا.

ما أريد لفت النظر إليه في مواجهة البكّائين على المدنيين وحقوق الإنسان في الغوطة السورية الشرقية بديهة بسيطة وساطعة كما سطوع دمنا وحقوقنا المستباحة والمهدورة هي: أن تلك الدول تتكئ في ممارسة إرهابها المنظم على ما راكمته وبنته وأسست له في الوعي الجمعي الداخلي والخارجي، أي تسويق نفسها باعتبارها دولا “ديمقراطية تحمي حقوق الإنسان وترفع راية الحرية”، ولهذا فهي تصر دائما على وصف نفسها بدول “العالم الحر”… وبالتالي فإن من حقها أن تتصرف وكأنها فوق النقد وفوق الحساب… وبالتالي فهي تملك الحق والسلطة الأخلاقية والمعنوية والقانونية لتعاقب غيرها من الأمم والشعوب انطلاقا من معاييرها ومقاييسها هي… دون أن ترى في ذلك أي تناقض أو تعارض مع حقائق التاريخ الثابتة وهي: أنها كدول نهضت وقامت وتطورت عبر قرون من التاريخ الاستعماري العنصري المخيف، حيث أبادت ملايين البشر، واستعبدت الملايين ونهبت ثروات أمم وشعوب بكاملها ولا تزال…

وهذا الإرهاب المخيف لتلك الدول يتحرك كمنظومات قهر شاملة ضد الشعوب والأمم الأخرى تحت رايات وشعارات مشغولة جيدا وبصورة مخادعة … بل وحتى ضمن منظومات قهر مضمرة ضد شعوبها ذاتها.. ذلك لأنها تمارس الإرهاب باسم الحضارة وباسم “المسؤولية الإنسانية”، وكأنها مكلفة من السماء– يا سبحان الله- لتأخذ بيد البشرية وتحميها من ذاتها، إنها تمارس إرهابها وهي تستبطن هذا الدور وترتكز عليه… ومن هناك تنطلق لتمارس أعتى أنواع الإرهاب تحت راية الدفاع عن حقوق الإنسان، والحرية، والديمقراطية…

هذه العملية المنظمة والمنهجية عميقة ومخيفة، لأنها تؤسس ثقافة جمعية تحتل عقول ووعي وفضاء شعوب تلك الدول، فتستولد العنصرية بصورة مباشرة وغير مباشرة. إنها تقوم بذلك في سياق استراتيجية متكاملة ومركبة تضم تحالفا عضويا بين امبراطوريات الإعلام والمال والسياسة… التي تمهد بقصف الوعي لتبرر الغزو والمذابح ضد الشعوب والدول الأخرى بحملات منظمة ومنسقة، وبهذا تهيئ الوعي العام أو الرأي العام الداخلي وبعده العالمي ليصبح ما تقوم به من إرهاب وكأنه مهمة مقدسة تقوم بها لحراسة الإنسانية وقيمها.

ولتحقيق هذا الهدف، فإن وظيفة المنظومة الإعلامية في تلك الدول تركز على خطورة “الدولة أو الشعب المستهدف” من خلال مخاطبة الوعي الغريزي لشعوبها المأخوذة بذاتها ودورها… والمسكونة برعب الحروب… حيث يتم تظهير وتقديم أي تدخل أو حرب ضد الشعوب الأخرى وكأنه تصد لخطر داهم يحيق بمنجزات الدول والشعوب الغربية وقيمها…هكذا تُساق شعوب الدول “المتطورة” نحو الحروب والدمار في سياق أعتى عمليات التشويه والتزوير والكذب… وذلك بعد سرقة واحتلال وعي تلك الشعوب… ومخاطبة حساسيتها وعواطفها النبيلة في الجوهر ليجعلوا منها قوة داعمة ومؤيدة للحروب والإرهاب…هذا هو الإرهاب الأعتى والأقذر والأبشع…

هذا ما عشناه وشاهدناه وتابعناه بالتفصيل أثناء الحرب على أفغانستان، ثم العراق ثم مع بداية ما يسمى “الربيع العربي” في ليبيا ومن ثم سورية… لقد كانت تلك الحروب والتدخلات الكارثية تتم في سياق عملية شيطنة منظمة ومركزة وكثيفة للشعوب والدول المستهدفة… وفي ذات الوقت تظهير الدور الإنسانوي النبيل والمدهش الذي تقوم به جيوش وعصابات تلك الدول الاستعمارية ضد الشعوب الأخرى… هنا بالضبط تختفي وتدفن الدوافع الحقيقية للحروب والغزوات الاستعمارية… حيث تختفي في ظلال هذه الحمى “الإنسانوية” المصالح الاقتصادية الأستراتيجية بما في ذلك أرباح المجمعات والشركات الصناعية العسكرية والنفطية العملاقة وغيرها… تلك الشركات المتوحشة التي تحتاج دائما للحروب لكي تمارس المزيد من النهب ولتراكم المزيد من الأرباح..

هذه الجرائم الكبرى بحق الوعي الإنساني… تكشف كم هو ساذج ذلك الوعي العام، وكم هو ضحل عندما يسكت ويصمت على سياسات تلك الدول ولا ينتبه لكل ما قامت به ولا تزال من دعم وإسناد لكل المنظمات الإرهابية التي تستهدف الشعب السوري والجيش السوري والشعب العراقي واليمني والليبي… وكيف يتظاهرون ضد الإرهاب فيما تبرر كل حكومات”العالم الحر” وأولها أمريكا وكل حلفائها ما تقوم به إسرائيل من جرائم ضد الشعب الفلسطيني تحت الشعار المخزي ” حق الدفاع عن النفس”… كيف؟.

هذا ما يحدث الآن… حيث يقيم البكّاؤون والنوّاحون حفلات الندب على المدنيين في الغوطة السورية الشرقية وكأنهم أحرص من الجيش العربي السوري والدولة السورية على الشعب السوري…

غير أن الهدف أصبح أكثر من واضح وهو أنهم فقط يحاولون أن ينقذوا القتلة الذين يعيديون تدويرهم كالنفايات لكي تستمر دوامة القتل… لكي يبقى قلب الغوطة ودمشق تحت رحمة الموت والتدمير… لهذا نرى أن تلك المناحات الصفيقة لا يرتفع فيها العويل إلا حين يقترب الجيش العربي السوري من اقتلاع عصابات الإرهاب تلك، حينها تبدأ حفلات النواح.. ويستحضر الكيماوي وكأنه أرنب يخرج من قبعات الساحر “ذي الخوذة البيضاء” هكذا بقدرة قادر…

هي محاولات لا تتوقف ولن تتوقف، فكلما فشلوا في الميدان وسحقت عصابات القتل والموت، يرفعون راية المدنيين وحقوق الإنسان، يحملون الجثث وينبشون القبور لكي يستدروا التعاطف لكي تستمر المجزرة.

إذن، بعد سبع سنوات مطلوب أن يعيد الكل حساباته وأن يعيد تفعيل ذاكرته وعقله، فأمريكا اليوم وبعد فشل الأدوات في تحقيق الأهداف تعلن الآن عن أهدافها: تقسيم سورية والاستيلاء على ثرواتها من نفط وغاز وخيرات… المطلوب إضعاف سورية واستنزافها حتى النهاية بحيث لا تعود تشكل اي خطورة على منظومة الهيمنة والاحتلال والقهر والنهب. وهكذا لا يبقى في الميدان سوى النعاج وتجار النفط والكاز… في هذا السياق لا يعني أمريكا وحلفاؤها شيئا حتى لو أبيد الشعب السوري كله…

أما من يواصلون دفن رؤوسهم وعقولهم في الرمال ويصدقون دموع التماسيح في مناحات الندب على عصابات الذبح والحرق وتدمير الحضارة ولصوص المصانع والنفط وأكل القلوب النيئة… فعليهم أن يدركوا أن سورية بجيشها وشعبها وقيادتها وحلفائها لن تعطيهم في حفلات النواح هذه ما فشلوا بأخذه في الميدان.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى