بعد احمد جرار .. حبل الاستشهاد سيبقى على الجرار

الحزن مرفوض، والبكاء محظور، والدمع ممنوع من الصرف، ومفردات النعي والعزاء والرثاء لا محل لها من الاعراب.. ففي حضرة الشهداء تلتمع السيوف، وتصهل الحروف، وتنطلق الاناشيد والزغاريد فقط لا غير.

فلسطين دار عبادة وشهادة.. عبادة الله وشهادة في سبيل الوطن.. اذ ليس هناك في قواميس التقوى ما يمنع الجمع بين حب الذات الالهية وحب التراب الوطني، او يمنع عاشق القبة السماوية من التعلق بامه المقدسية.

احمد بن نصر جرار شهيد ابن شهيد.. قسامي ابن قسامي.. فدائي ابن فدائي مع سبق الاصرار والاختيار.. فهو ثمرة اقتران الشيخ القسام بالحورية الفلسطينية التي بارك الله نسلها المقاتل، ولعن الخونة والانذال ومرتزقة التنسيق الامني.

لاستشهاد هذا الضرغام – ومن قبله باسل الاعرج – نكهة العرس، ومشهد الزفة، ولحن الطلوع المبهر وليس الرجوع الاخير.. فهو مؤشر وعد قريب، وبشارة غد سوف يأتي وليس إمارة امس سوف يمضي، فضلاً عن انه شهادة اثبات على افلاس الخيار السياسي لحل القضية الفلسطينية المزمنة.

كل الشهداء كرماء واحياء عند ربهم يرزقون، ولكن لشهداء فلسطين في الوقت الراهن قيمة مضافة، واهمية مضاعفة.. ذلك لانهم يعانقون الشهادة في الزمن الصعب، والظرف المعاكس، والمناخ الانهزامي والاستسلامي والانتهازي الماحق لمعاني العطاء والفداء.. علاوة على انهم يعيدون لصورة الجهاد والاستشهاد نقاءها وصفاءها ومضمونها السماوي، بعدما عاثت فيها عصابات الارهاب تشويهاً بالفهم وتلطيخاً بالدم حتى جعلتها مرادفاً لجرائم النحر او الانتحار.

على مدى التاريخ الاسلامي كله، لم يتعرض مفهوم الجهاد والاستشهاد للتأثيم والتجريم والتبشيع والتشنيع كما تعرض على ايدي التكفيريين الجهلة والقتلة من اوباش داعش والنصرة والقاعدة ومشتقاتها، ولم يُبتلى هذا المفهوم النبيل القائم على البذل والتضحيات بمثل هذه الكراهية العالمية وسوء الفهم العابر للقارات كما ابتلي هذا الاوان بتأثير اولئك الزعران.. وليس هناك من يعيد لهذا المفهوم صورته الناصعة، وغايته الجليلة، وحقيقته السامية، وتجلياته الاخلاقية، سوى فرسان الحق الفلسطيني واعداء المحتل الصهيوني ونصيره الامريكي.. ذلك لان الشهادة لا تكتسب نورانيتها ومصداقيتها الا من نبل وعدالة المبادئ والمقاصد والدوافع الموجبة لها.

في غضون عام واحد، اصدر الشهيدان باسل الاعرج، واحمد جرار طبعة جديدة من كتاب الاستشهاد الحافل باسماء آلاف الشهداء الفلسطينيين، وقدما نموذجاً متطوراً من نماذج المقاومة المقاتلة والفداء الجسور، حيث امتشقا سيف التحدي الى آخر يوم من حياتهما، واشغلا جيش العدو ومخابراته ما استطاعا الى ذلك سبيلا، وشكلا قدوة وقوة مثال للشباب الفلسطيني الباحث عن الخلاص، ليس من الاحتلال الاسرائيلي فقط، بل من السلطة الامنية العباسية ايضاً.

تدريجياً، ومع تقهقر خرافة الحل السياسي والعملية السلمية، ومع تمادي غول الاستيطان في ابتلاع جغرافيا الضفة الغربية، سوف تفعل الحتمية التاريخية فعلها، وستعاود “ثقافة الاستشهاد” حضورها وانتشارها بين شبان وشابات فلسطين المحتلة قديماً وحديثاً، وستشهد الايام والشهور المقبلة نظائر جديدة وجريئة للشهيدين الاعرج وجرار، وسيثبت اولئك الاستشهاديون الجدد ان العدو الاسرائيلي بات نمراً من الورق، وان جيشه المعهود اصبح من مخلفات الفعل الماضي.

لقد زالت الغشاوة التضليلية التي وضعها تحالف الاسلامويين والموساد على اعين عشرات الشبان الفلسطينيين داخل الكيان الاسرائيلي، لحملهم على مهادنة هذا الكيان القائم على حساب ارضهم ووجودهم، والهجرة – من ثم – الى الديار السورية والعراقية، للالتحاق باخوانهم “الدواعش المجاهدين لنصرة الاسلام” من خلال محاربة الشيعة والنصيريين والمسيحيين والازيديين في حلب والموصل وادلب.. ذلك لان هؤلاء الشباب المخدوعين والمغرر بهم قد اكتشفوا – ولو متأخرين – انهم كانوا في ضلال مبين، وساروا على الطريق الخطأ، وقاتلوا في سبيل الشيطان وليس الرحمن، وآن لهم ان يعودوا الى رشدهم ويكفّروا عن ذنوبهم الارهابية، ويعيدوا تأهيل انفسهم جهادياً واستشهادياً وفق اتجاه البوصلة الفلسطينية واهداف الحرية والتحرير والعودة.

قافلة الكفاح التحرري الفلسطيني مقبلة على حقبة نوعية جديدة.. حقبة استشهادية فريدة وفردية، حيث الاستشهادي المفرد في المعركة الواحدة التي يختارها بدقة، ويخوضها دون توقف حتى النهاية، وبغير ما حاجة الى الانسحاب والاختفاء الذي غالباً لن يطول عن اعين المحتلين وعملائهم في سلطة اوسلو، جراء محدودية مساحة الضفة، وطبيعتها الجغرافية العارية وغير الملائمة كثيراً لادامة حرب العصابات.

عما قريب سيشهد التكنيك الاستشهادي تطوراً جريئاً، حيث يخرج الاستشهادي على حافلة اسرائيلية، او يدهم بؤرة استيطانية، او يكمن لموكب شخصية قيادية امنية او سياسية صهيونية، ويطلق وابلاً من الرصاص وسطوراً من القنابل اليدوية لحصد اكبر عدد من الاعداء، قبل ان يسلم الروح ويدخل فردوس الشهداء.. ويومذلك سوف تُمنى استخبارات العدو واعوانها بالهزيمة المسبقة، ولن تجد من تطارده ثم تحاصره وتتشفى بقتله.

بالبنادق.. بالقنابل.. بالسكاكين.. بالعربات المفخخة، سوف يخرج، في وقت قريب، مئات الاستشهاديين في فلسطين التي عادت تدريجياً لتحتل المرتبة الاولى في جدول الاهتمامات العربية، بعدما سقطت اكذوبة “الربيع العربي”، واوهام دولة الخلافة الاسلامية، وسرابات التفاوض وحل الدولتين المزعوم.. ومن يدري، فقد تؤدي هذه الحالة الاستشهادية العتيدة الى صحوة ضمير وطنية لدى بعض عناصر وقطاعات اجهزة “اوسلو ودايتون” الامنية، ولو تحت جناح السرية وفي اضيق الحدود.

وعليه وبعد استشهاد جرار، فسيبقى حبل الاستشهاد في فلسطين على الجرار، وان غداً لناظره قريب !!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى