القوى الناعمة، وسائل فعالة لتحقيق النجاح في العلاقات والسياسة الدولية

 

رغم إن الدول مهما كان حجمها تمتلك قوى تقليدية عسكرية وأمنية وسياسية وإقتصادية تستخدمها في بناء سياستها الخارجية وإقامة علاقاتها مع الدول والشعوب الاخرى ، وهي من أهم الأسس التي بنيت عليها العلاقات الدولية لقرون عديدة ، لكن هذه الدول في العصر الحديث بدأت تفتش عن وسائل حديثة وفعالة ، وتبحث عن مصادر جديدة للقوة لإستخدامها في بناء وتعزيز علاقاتها الدولية وفي رسم سياستها الخارجية بدون إلاعتماد على القوى التقليدية التي تمتلكها والتي تسمى بالقوى ( الصلبة ) أي القوى العسكرية والأمنية والسياسية والاقتصادية أو بالاضافة لها ، إيماناً منها بإن حسم النزاعات بين الدول بالقوة الصلبة لوحدها بات أمراً مستحيلاً ، وأثبتت الأحداث إن إستخدام القوة الصلبة من قبل دولة ما ضد دولة اخرى لغرض السيطرة عليها وتطويعها وتكييفها وإقامة علاقات سليمة معها لايمكن أن يتم بمفرده دون الاعتماد على وسائل أخرى سُميت بإلقوى الناعمة لتلك الدولة من أجل كسب حلفاء واصدقاء ليس على المستوى الرسمي فحسب بل ومن فئات الشعب المختلفة أيضاً .

فإذا كانت الدول بحاجة الى استخدام مثل هذا النوع من القوى التي تسمى بالقوى الناعمة بدلاً من القوى الصلبة لإغراء أو إقناع أو جَذِبْ دولة ما واقامة علاقات مع حكومتها وشعبها ، وبناء سياسة متوازنة وناجحة معها ، أو في أسوء الأحوال بدمج القوتين معاً الصلبة والناعمة ، وفق ما يسمى مفهوم ( القوة الذكية ) أي عندما يتم إستخدام القوة التقليدية لتحقيق هدف ما ، يصاحبها وضع استراتيجية من القوى الناعمة عندما تقتضي الضرورة والمصلحة ذلك وفق بشرط تطبيق القانون الدولي والقانون الدولي الانساني …

فإن الاحزاب والحركات وحتى الافراد إضافة الى مايجب أن يوفروه من عناصر القوة المادية والصلبة لتحقيق اهدافهم الوطنية والقومية والانسانية ، فهم أحوج مايكونوا الى إستخدام القوى الناعمة والتي يمتلكون الكثير منها سواءاً في المجالات الفكرية أو الثقافية أو الاعلامية أو الإيمانية أو الروحية أو الاخلاقية أو الاجتماعية أو السياحية أو التراثية والآثارية أو الأدبية أو الفنية ، أو القيم الاعتبارية والموروث التاريخي والنضالي والشعبي لها والعادات والتقاليد في الحياة العامة والبروتوكول ، وفي مجال إستخدام المعلوماتية ووسائل التواصل والتقنيات الحديثة ، أو في مجال إلاتصال المباشر مع قادة الشعوب والمجتمعات لعقد الملتقيات والمؤتمرات والندوات الدولية وتنطيم حلقات النقاش المشتركة ، وإقامة المهرجانات الثقافية والرياضية والشبابية أو النشاطات المتعلقة بالمرأة ، أو في مجال نشر الديمقراطية وحقوق الانسان والحريات العامة والتنمية البشرية والتربية والتعليم والصحة والخدمات الاجتماعية والبيئة وغيرها ، لتوظيفها وتحشيدها من أجل تحسين صورة الحزب أو الحركة أو الفرد أمام شعوبهم وشعوب العالم الاخرى بالعمل والنضال المشترك مع قادة المجتمعات وقواها السياسية والشعبية والمهنية المؤثرة وبما يعزز موقع وموقف الحزب ويقوي علاقاته الدولية في مواجهة التحديات والحملات المضادة ويعاونه في الدفاع عن مصالحه المشروعة.

لقد أصبحت القوى الناعمة اليوم نمطاً من أنماط الحياة الحديثة في التفاعل بين الدول والاحزاب والشعوب في الغرب وفي الشرق وباتت وسيلة فعالة لكسب العقول وتطويع العواطف وتحييد سلوك الشعوب والافراد وكسب ودٌها ومواقفها ، ومما زاد من أهمية القوى الناعمة هو تنوع أنماطها وتعدد أشكالها وابتعادها عن النمط التقليدي المفرط للقوة الصلبة .

فكثيراً ما يتردد الآن مفهوم القوة الناعمة في العلاقات الدولية وإكتسب هذا المفهوم إنتشاراً كبيراً في البحوث العلمية والفكرية والثقافية ، وفي ممارسة الدبلوماسية والخطاب السياسي العام .

وللتعرف على مفهوم القوى الناعمة ، وكيف نشأ هذا المفهوم ؟ وما هي آثاره على العلاقات بين الامم والدول والشعوب والاحزاب والحركات والافراد نستعرض الآتي ؟؟

إن مفهوم القوى الناعمة هو مفهوم حديث في السياسة الدولية ، وضعه المفكر الامريكي ( جوزيف ناي ) الاستاذ الباحث في جامعة هارفارد ومساعد وزير الدفاع الامريكي في عهد الرئيس بيل كلنتون ، لوصف قدرة الدول على الإقناع والإغراء والجذب بدون إكراه وإستخدام للقوة الصلبة المتمثّلة بالقوة العسكرية أو الاقتصادية أو السياسية ، ولقد صاغ جوزيف ناي هذا المصطلح في كتابه الصادر عام ١٩٩٠ بعنوان ( مقدرة القيادة ، الطبيعة المتغيرة للقوة الأميركية ) ، وقام بتطوير هذا المفهوم في كتابه الآخر الصادر عام ٢٠٠٤ والذي أصدره بعنوان ( القوة الناعمة ، وسائل النجاح في السياسة الدولية ) ، وهو المصطلح الذي يستخدم حالياً على نطاق واسع في الشؤون الدولية من قبل المحللين والسياسيين .

وحسب المؤلف فإن القوة الناعمة هي القدرة على جعل الناس أو الدول ترغب فيما أنت راغب فيه ، وأن لا تستخدم الوسائل القسرية لجعلهم يتبعوك ، أي أن القوة الناعمة هي القدرة على الاعتماد على قوة الجذب والإقناع والتأثير والتواصل والتفاعل بدلا من إجبار الدول والشعوب بالقوة التقليدية العسكرية والاقتصادية على اتباع سياسات معينة رغم الحاجة اليها في حالة معينة للدفاع عن النفس أو لفرض السلام الوطني أو الاقليمي أو الدولي.

وبحسب المؤلف أيضاً فإن أهم وسيلة لتحقيق أهداف الطرف الأول عبر إستخدام القوى الناعمة هي إستيعاب أولويات الطرف الأخر وما يفضله ، بحيث تتماهى رغباته مع رغبات الطرف الأول ويتحقق ذلك بسبب ما يمثله من نجاح أو ما يمثله من صنع نموذج يحتذى به.

وإذا كانت مصادر القوة الصلبة هي القوة العسكرية والاقتصادية والسياسية ، فإن مصادر القوة الناعمة هي :

المصدر الأول : الفكر والثقافة والأداب والفنون والموروث الحضاري ، فكلما كان هذا العامل جاذباً للاهتمام سواء في تقاليده الشعبية ، أو في ثقافته العليا كالأدب والفن كلما زاد تأثير القوة الناعمة .

المصدر الثاني : جاذبية المؤسسات والسياسات الناتجة عنها ، والنشاطات الدبلوماسية التي تقوم بها ، وشرعية ممارساتها التي تعزز القوى الناعمة .

إن مفهوم القوى الناعمة قد تبلور في بداية تسعينيات القرن الماضي ، ولكن الدول قد استخدمته منذ عقود طويلة تحت مسميات وعناوين أخرى مثل ( التعاون المشترك والأحلاف والاتفاقيات الثنائية والمساعدات الدولية وغيرها ) .

وكأمثلة عملية على إهتمام الدول بموضوع إستخدام القوى الناعمة في مد الجسور فيما بينها ، فإن الصين لجأت الى زيادة قوتها الناعمة من خلال ابتكار مجالات لهذه القوة وإبرازها ، فرغم التقدم التكنولوجي الهائل للصين وثراء تراثها الثقافي والحضاري ، إلا أن قوتها الناعمة متأخرة دون الكثير من الدول الغربية ، ويقال إنها تستثمر مليارات الدولارات لزيادة قوتها الناعمة بإنشاء معاهد للثقافة الكونفوشية في مختلف دول العالم ، بحيث إنها تخطط لإنشاء ١٠٠٠ مركز بحلول عام ٢٠٢٠ ، والتوسع في استقدام طلبة من مختلف دول العالم للدراسة . إلاّ إن سمعة الصين لازالت غير إيجابية في أوربا وأميركا رغم تقدمها الإيجابي في أفريقيا وآسيا وأمريكا اللاتينية وذلك بسبب الانطباع السائد عن الاستبداد وانعدام حرية الصحافة والرأي وحرية الوصول على المعلومات وشحة مراكز البحوث الدراسات الخاصة .

وفي أميريكا التي تعتبر مركز انطلاق فكرة القوة الناعمة فإن وزير الدفاع الأميركي الأسبق روبرت غيتس تحدث عن الحاجة لتعزيز القوة الناعمة الأمريكية عن طريق زيادة الإنفاق على الأدوات المدنية التي تعزز الأمن القومي الامريكي ، والاتصالات الاستراتيجية وتقديم المساعدة ، وإعادة الإعمار والتنمية في عدد من دول العالم ونشر النموذج والثقافة والعادات والقيم الامريكية ، رغم النزعة الأمريكية بإستخدام القوة الصلبة العسكرية التي استخدمتها الإدارات الامريكية وآخرها العدوان العسكري على العراق واحتلاله وتدميره والذي كان سبباً رئيسياً في إسقاط إستراتيجية القوة الناعمة التي نشأ عليها المجتمع الامريكي إضافة الى الهزيمة العسكرية والسياسية والاقتصادية التي تكبدتها أميريكا جراء تلك الحرب العدوانية.

ووفقا لمسح معهد مونوكل للقوة الناعمة عام ٢٠١٤ ، فإن الولايات المتحدة تبوأت المركز الأول في إعتماد إستراتيجية القوة الناعمة لتحسين صورتها أمام العالم ولإعادة مصداقيتها التي فقدتها أمام الشعوب بسبب عدوانيتها وتدخلاتها العسكرية خارج اطار القانون الدولي كما حصل في العراق . تليها ألمانيا والتي تعتبر دولة رائدة في مجال إستخدام القوة الناعمة من خلال العلاقات والقيم الانسانية وشعار ( صنع في ألمانيا ) وفي مجال الرياضة والسياحة والموسيقى والرسم والابتكار ، ومن ثم تأتي بريطانيا واليابان والبريستيج الفرنسي والحياد السويسري وأستراليا والسويد والدنمارك وكندا .

ويرى الكاتب أن مصدر قوة أمريكا ليس القوات المسلحة والاقتصاد والسياسة والاعلام فقط ، وإنما مجموعة من العناصر الداعمة لهذه القوة ، ويعطي أمثلة على ذلك بأن الولايات المتحدة تجتذب أكبر نسبة للمهاجرين ، والطلبة الدارسين الذين سيحملون عند عودتهم لبلدانهم الكثير من القيم والمبادئ الأمريكية ويمكن أن يكونوا سفراء للثقافة الامريكية ويحتلون في دولهم مراكز القرار . كما تحتل الولايات المتحدة المرتبة الأولى في الفوز بجوائز نوبل في الطب والفيزياء والكيمياء والاقتصاد ، وفي مبيعاتها من المؤلفات الموسيقية التي تشكل الضعف مقارنة مع اليابان التي تحتل المرتبة الثانية ، وتعتبر أمريكا أكبر مصدر للأفلام والبرامج التلفزيونية في العالم ، رغم أن بوليوود الهندية تنتج أفلاما أكثر منها في كل عام .

فأمريكا عندما غزت العالم وفرضت مصالحها ونمط حياتها على كثير من الدول فإن ذلك لم يتم بالقوة العسكرية المباشرة فقط ، وإنما قبل هذا كان بالقوة الناعمة التي تمتلكها مثل السينما وافلام هوليوود ومنظومة إعلامها الرهيبة وقوة إقتصادها ومرونته ، وتأثير مراكز دراساتها وأبحاثها وحتى تأثير مطاعم الوجبات السريعة وموسيقى الجاز وبلوز والروك أند رول والراب الامريكية ، وذلك يتم وفق خطط استراتيجية بعيدة ومدروسة .

وكلنا نذكر كيف أن أميريكا قبل غزو العراق وتمهيدا للغزو والاحتلال ، عندما اتهمت النظام الوطني بالارهاب ، فقد شنّتْ ماأسمته ( حرب العقول والقلوب ) وكان المقصود منها استخدام القوى الناعمة في الاعلام والدبلوماسية والترغيب والترهيب ومنح المساعدات والتسهيلات لتطويع العرب والعالم وكسبهم لكي يتقبلوا مخططاتها العدوانية ، كما ونعرف إن مراكز الدراسات الأمريكية هي التي مهدت لتنفيذ هذا المخطط الذي أدى إلى إسقاط دولة العراق الوطنية ، وخلقَ الصراعات في الأقطار العربية الاخرى .

وبناءاً على ذلك فإن الدول العربية بدون إستثناء وخاصة المحورية منها تملك رصيدا كبيرا من القوى الناعمة المهمة فيما لو تم استخدامها وفق خطط مدروسة واستراتيجيات بعيدة الامد في بناء علاقاتها وسياستها الداخلية والخارجية لكان وضع هذه الاقطار في حال أفضل على الساحة الدولية ولحَمتْ شعبها من حملات الاستهداف والعدوان ، ولما تعرضت لموجات التدمير والخراب .

إن هذا العامل يعتبر من أهم العوامل التي يجب أن تشجع الدول العربية إلى إبتكار وتحشيد واستخدام قواها الناعمة في مواجهة حملات التضليل والتشويه ، وإلى تقديم صورة حقيقية أمام العالم عن أوضاعها وما تواجهه من ظلم وتحديات .

وفي هذا المجال لعل تجربة الإمارات العربية المتحدة تستحق التوقف عندها والاقتداء بها من قبل الدول والاحزاب والحركات والمنظمات العربية عندما أُعلن عن تأسيس مجلس (( القوة الناعمة لدولة الإمارات العربية المتحدة )) وربطه بأعلى سلطة في الدولة ليعمل على تعزيز سمعة الدولة إقليمياً وعالمياً وترسيخ احترامها ومحبتها بين شعوب العالم ، ويختص المجلس برسم السياسة العامة ووضع إستراتيجية القوة الناعمة للدولة ، والعمل على صياغة منظومة وطنية متكاملة تشمل الجهات الحكومية والخاصة لنقل تجربة الإمارات إلى العالم بطريقة جديدة .

أما الاحزاب والحركات الوطنية والقومية ومنها حزب البعث العربي الاشتراكي إضافة لإمتلاكه إمكانات مادية وبشرية مهمة وفاعلة في المقاومة ، فإنه يمتلك الكثير والعميق من ( القوى الناعمة ) الفكرية والثقافية والاعلامية ومن القيم الثورية والروحية والاخلاقية والعلمية ، ومن مستوى الثقافة العليا في مجال السياسة والأدب والفنون ، والثقافة الشعبية وتقاليد العمل الراسخة في الميدان ، والرؤى الاقتصادية والاجتماعية والخدمية ، ومن الرصيد والموروث التاريخي المميز ، والتجربة الواسعة في بناء ورسم مباديء العلاقات والسياسة الدولية ، وفي القابلية على التواصل والتفاعل مع الشعب العربي والشعوب الاخرى … ومن هنا تأتي أهمية إستثمار هذه القوى في إعادة بناء علاقات الحزب على المستوى العربي والدولي بوسائل علمية حديثة ومبتكرة يمتزج فيها التخطيط الواعي مع التنفيذ والاصرار على النجاح ، وذلك بتنظيم الملتقيات وما تتضمنه من فعاليات فكرية وسياسية وإقتصادية وإجتماعية وثقافية وإعلامية وأدبية وفنية وسياحية وتراثية ، وعقد الحلقات النقاشية مع قادة المجتمع الدولي ومنظماته لمناقشة قضايا ومواضيع ذات اهتمام مشترك ، وإقامة المؤتمرات والندوات التخصصية والمهرجانات العربية والدولية في مجال مناهضة الاحتلال وإفشال مشاريعه ومخططاته ، وفي مجال حقوق الانسان وقضايا الشباب والمرأة والتربية والتنمية البشرية والبيئة والصحة والخدمات وغيرها . وأهمية دعم وتشجيع وتسهيل وإسناد هذه الفعاليات من قبل كافة القوى والشخصيات الوطنية ، وتوفير مايمكن من وسائل الدعم والإنجاز ، والتي ستكون مفتاحاً لتحقيق علاقات وسياسات ناجحة ومتوازنة يطمح اليها الجميع .

—————————-

الهدف من المقال : هو إننا كعرب ، دول وأحزاب وحركات ومنظمات وأفراد نمتلك الكثير من ( القوى الناعمة ) فيما لو تم إستثمارها وإستخدامها بشكل علمي سليم ، فإنها كفيلة بتحقيق مستويات متقدمة من العلاقات الحضارية المتوازنة والرصينة مع جميع شعوب ودول العالم ، إضافة الى مردوداتها الاقتصادية والاجتماعية الوفيرة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى