لماذا هرمت الحركة الوطنية الاردنية وفقدت حيويتها وشعبيتها

شاخت الحركة الوطنية الاردنية حتى نسيت نفسها، وانكرت تاريخها، وفقدت دورها، وخسرت حضورها، وخذلت جمهورها، وتخلفت عن عصرها، وهجرت ميادين النضال وساحات العمل العام.

هرمت هذه الحركة التاريخية العريقة، وتلاشت همتها وفاعليتها وبسالتها الثورية.. فقد كانت مجيدة وباتت رعديدة.. كانت رائدة واصبحت متقاعدة.. كانت طليعية ومبادِرة تتقدم الصفوف وتقدم التضحيات وترفع رايات المعارضة، وامست كسيحة ومتهالكة ومنطوية على بؤسها وعجزها.

غابت عنها القامات العالية والقيادات الكبيرة والجسورة، وباتت تتولى امرها قيادات بيروقراطية باهتة ومعزولة عن الواقع، وليس لها وزن في الشارع، بالنظر الى ان جل “نضالها” محصور في مسيرات محدودة ومرخصة، او مقتصر على بيانات انتقادية خجولة لا تسمن ولا تغني من جوع ولا تحول دون رفع اسعار الخبز الحاف.

اسباب كثيرة تقف خلف افول شمس الحركة الوطنية الاردنية، بعضها ذاتي وبعضها الآخر موضوعي.. بعضها داخلي وبعضها الآخر خارجي، ولكن هذا كله لا يبرر جمودها وقعودها وتقاعسها عن التنبه لكل مستجد طارئ واخذه بعين الاعتبار، ولا يعفيها من مسؤولية العجز عن اعادة تأهيل ذاتها، وتحديث مناهجها وبرامجها وادواتها بما يتلاءم مع المتغيرات الزلزالية التي ضربت المنطقة العربية في نهايات القرن الماضي وبدايات القرن الحالي.

من حاصل وحدة الضفتين عام 1950 انبثقت الحركة الوطنية الاردنية، واثبتت خلال سنوات قليلة موجودية نضالية عظيمة حتى انها اسقطت حكومة حلف بغداد عام 1955، وحشدت اوسع حملة دعم ومؤازرة لمصر عبد الناصر في مواجهة العدوان الثلاثي، ثم انتصرت في الانتخابات النيابية عام 1956 وانجبت حكومة سليمان النابلسي التي تعتبر اول حكومة وطنية في تاريخ الاردن، والتي حررت البلاد من نير المعاهدة البريطانية الجائرة.

على خلفية مشروع الرئيس الامريكي ايزنهاور العنوانه “ملء الفراغ” والهادف لاحلال النفوذ الامبريالي الامريكي محل الاستعمار الكولنيالي الاوروبي، تم اغتيال حكومة النابلسي عام 1957، وضرب الحركة الوطنية بكل قسوة، حيث فُرضت الاحكام العرفية، وحُلت الاحزاب السياسية، وامتلأت السجون والمنافي بالقيادات والشخصيات البعثية والشيوعية والناصرية.. الخ

غير ان هذه الحركة الوطنية التي كانت لا تزال شابة وعفية، سرعان ما استجمعت قواها، واستعادت فاعليتها الكفاحية، وخاضت عام 1963 مظاهرات “الوحدة الثلاثية” التي راح ضحيتها عشرات الشهداء والجرحى، ولكنها نجحت في اطاحة حكومة سمير الرفاعي عن سدة الحكم.. غير ان الطامة الكبرى التي اصابت هذه الحركة تمثلت في عدوان حزيران الذي شطر الدولة الاردنية كلها – وليس الحركة الوطنية وحدها – الى جزءين، واتاح للعدو الصهيوني احتلال، او اعتقال الضفة الغربية التي سرعان ما تغيرت اجندتها النضالية لجهة الانخراط في مقاومة الاحتلال، وتحرير التراب الفلسطيني.

اشتباكات ايلول الاسود عام 1970 اصابت الحركة الوطنية الاردنية في مقتل، وادت – فيما ادت – الى انكماش دور المخيمات التي طالما شكلت القاعدة الشعبية العريضة لهذه الحركة.. ذلك لان المخيمات التي تعرضت لحملة قمع ضارية بعد ايلول قد اضطرت لتبديل اولوياتها وتعديل توجهاتها، حيث اتجهت بعض قطاعاتها نحو العزلة، وانتسب البعض الآخر للفصائل والمنظمات الفدائية، فيما التحق البعض الثالث بتيار الاسلام السياسي الذي كان قد باشر انتشاره، خلال عقد السبعينات، على يد الخط الساداتي في مصر، والمد الوهابي في الخليج، والثورة الخمينية في ايران، والحركات الجهادية في افغانستان وعلى رأسها تنظيم القاعدة الذي انتجه تحالف المخابرات الامريكية والسعودية والباكستانية.

فيما بعد، ازدهرت صناعة التدين السني والشيعي معاً، وانتشرت الجماعات السلفية والاخوانية والجهادية والكربلائية في طول العالم العربي والاسلامي وعرضه، وبضمن ذلك – بالطبع- ساحة الاردن التي شهدت، منذ بدايات عقد الثمانينات، تمدداً وتعدداً لمراكز الاسلام السلفي والسياسي على حساب الحركة الوطنية، ليس في الشارع الشعبي فحسب، بل في الكثير من المحافل النخبوية والنقابات المهنية ايضاً.

انتفاضة نيسان المباركة عام 1989 فاجأت الدوائر الحاكمة والحركة الوطنية على حد سواء، ذلك لانها انطلقت اولاً من مدن الجنوب التي تعتبر الخزان الامني للنظام، واضرمتها قوى وقطاعات شعبية من خارج الاطر الحزبية الوطنية والجماعات السياسية الاسلامية، وقدّمت المطالب والشعارات الاقتصادية والمعاشية على الجوانب السياسية والامنية.

بحكم موازين القوى في الشارع الشعبي آنذاك، كان لا بد للجماعة الاخوانية ان تفوز بعدد وافر من مقاعد المجلس النيابي الطالع من انتخابات 1989 التي استوجبتها انتفاضة نيسان، وان تتبوأ سدة رئاسة المجلس، وان تشارك في حكومة مضر بدران.. في حين اقتصر تمثيل الحركة الوطنية في المجلس النيابي على بضعة مقاعد ظفرت باغلبها شخصيات غير حزبية.

وليس من شك ان قانون الاحزاب السياسية الذي جرى صكه واعتماده في عقد التسعينات، قد اسهم في تدجين الحركة الوطنية الاردنية واضعافها وتمييع مواقفها، عندما تولى ترخيص وتمويل معظم احزابها التي انضبطت تحت سقف النظام، والتزمت جادة المعارضة بادوات الموالاة، او الموالاة بادوات المعارضة فقط لا غير.. ولعل في هذا ما يفسر اسباب مرور قافلة الغلاء الفلكية الاخيرة مرور الكرام، ودونما ردود افعال تتناسب طردياً مع فداحة اضرارها وثقل اعبائها على كواهل المواطنين.

وعليه، فلا بد لهذه الحركة الوطنية الجليلة والحافلة بنضال تاريخي مشرّف، من وقفة صريحة مع النفس، ومراجعة شاملة لمجمل المواقف والحسابات، وارادة حازمة ورغبة عارمة في مباشرة التجدد والتعافي والنهوض، وفق رؤى وافكار وآليات عصرية وحداثية تستعيد بها دورها الريادي المعهود في قيادة الجماهير والقطاعات الشعبية التي بدأت تدير ظهرها لطابور الاسلام السياسي والجهادي، جراء ما خاب بعضه في تجربة الحكم وادارة الدول، وما اقترف بعضه الآخر من مذابح وفضائح وقبائح فظيعة وشنيعة وباعثة على الغثيان !!

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى