الرابحون و الخاسرون في مؤتمر سوتشي

 

عُقِدَ مؤتمر الحوار الوطني السوري في المنتجع الروسي سوتشي الواقع على البحر الأسود ،الذي ترعاه «الدول الثلاث الضامنة» (تركيا وإيران وروسيا)، في موعده المحدد يومي 29و30 من شهر كانون الثاني 2018، بمشاركة شرائح واسعة من الشعب السوري ، ومقاطعة «هيئة التفاوض» السورية المعارضة ، في حين قررالأمين العام  لهيئة الأمم المتحدةأنطونيو غوتيريش إيفاد دي ميستورا للمشاركة في  مؤتمر الحوار السوري .و كان المؤتمر يستهدف  وضع دستور جديد للبلاد، ووقف العمليات العسكرية، والبدء بالعملية السياسية التي تتوقع روسيا منها إنهاء المأساة السورية.

وكان عدد المشاركين الذين حضروا مؤتمر الحوار الوطني في سوتشي ويعكسون شرائح المجتمع في سوريا،بلغ 1292 شخصاً ،و101 شخص من معارضات الخارج، إضافة إلى حضور نحو 34 ضيفاً من الدول الأجنبية المدعوة ،ووفد يمثل الأمم المتحدة مؤلف من 19 شخصاً برئاسة مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سورية ستافان دي ميستورا، وهذا رقم تمثيلي ذو مغزى.فقد جمع المؤتمر تحت سقف واحد ممثلين عن مختلف اطياف الشعب السوري وممثلين عن المعارضة الداخلية والمعارضة الخارجية وممثلين عن العشائر التي تعد مهمة جدا في الحياة الاجتماعية في سورية.

ولم تتأثر أعمال المؤتمر ونتائجه بمقاطعة«هيئة التفاوض» السورية المعارضة ، التي لا تزال تراهن على الولايات المتحدة الأميركية وتركيا ، وهي القوى التي تُغير مواقفها أحياناً بأسرع مما يُبدّل قادتها ملابسهم.وظلت أطراف من هذه المعارضة السورية متمسكة بمرجعيات دولية يعود أساسها إلى بيان جنيف الأول في 2012، وشكل اعتمادها  على الإمبريالية الأميركية و الرجعية العربية ممثلة بالمملكة السعودية ، وعلى تركيا قيداً عليها، إذ ظل الرئيس أردوغان يوظفها في معاركه وصفقاته المكشوفة والمستورة في آن، ويُشرك بعض فصائلها في غزوات تُراق فيها دماء السوريين كما يحدث في عفرين الآن.

غير أن العائق البنيوي لهذه المعارضة يكمن في عدم قدرتها على تغيير منهج تفكيرها في تحليلها ورؤيتها للأزمة السورية ، وعجزها عن البحث  عن نقطة توازن بين التمسك بمؤتمر جنيف ومحاولة بلورة مواقف تتماشى مع التغير الحاصل في ميزان القوى على الأرض، الذي تحول  لمصلحة الدولة الوطنية السورية و حلفائها (إيران وحزب الله وروسيا)، بعد  إلحاق الهزيمة بالمخطط الأميركي –الصهيوني –التركي –الرجعي العربي، الذي كان يستهدف إسقاط الدولة و تقسيم سوريا إلى دويلات على أساس طائفي ومذهبي وعرقي.

فقد تبين بالملموس أن هذه المعارضة السورية التي تبنت «الوثيقة الخماسية» التخريبيّة الأخيرة، التي أعدها وزراء خارجية الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا والسعودية والأردن في مباحثاتٍ تمت في باريس في 23 من شهر يناير/ كانون الثاني الماضي، وقدموها إلى الأمم المتحدة وتطرقت إلى إحياء العملية السياسة في سورية، «العمل على وضع خطة عمل لاستخدامها كركيزة لحل الأزمة»،ووصفها السفير البريطاني السابق في سورية بـ«السخيفة» وذات «الأفكار غير الواقعية»، تشرعن الانتداب الأميركي الجديد لسوريا من خلال إلغاء دور الشعب السوري في تقرير مصيره ،و تقسيم سوريا  بعد تجاوز مسار «جنيف» بالكامل، ومعه كل القرارات الدولية ذات الصلة، ولا سيما القرار «2254»، ثم المحاولة لاحقاً لـ «القوطبة» على «سوتشي» وإسقاطه عبر إلزام «معارضة الرياض» برفض المشاركة فيه.

وقال المحلّل الروسي، ديمتري فرولوفسكي، لمدونة ديوان من مركز كارنيغي للشرق الأوسط في 24كانون الثاني 2018، «يقرّ الكرملين حالياً بأنّ واشنطن، من خلال إقامة منطقة خاضعة لها فوق ما يقارب الـ 25% من الأراضي السورية في الشمال والشرق، تعتزم ضمان دور مؤثّر لها في تسوية سياسية، وفي مستقبل البلاد ما بعد الحرب. كما ستساعد هذه المنطقة الولايات المتحدة على تأمين معقل لها في المشرق، والتأثير على علاقات روسيا بحلفائها الإقليميين. الكرملين مستاء من هذا التطوّر، بل إن مسؤولين روسا يتهمون البيت الأبيض بانتظار القوّات الروسية للقيام بكلّ الأعمال القذرة، قبل القفز في اللحظة الأخيرة والمطالبة بحصته».

لقد مثّل مؤتمر الحوار الوطني السوري –السوري في سوتشي منعرجًا حقيقيًا في مسار البحث عن الحل السياسي الوطني للأزمة السورية من خلال التمسك بالثوابت الوطنية التي تقوم عليها  الدولة الوطنية السورية ، وأحدث اختراقًا حقيقيًا في المسار السياسي لحل الأزمة السورية من دون اعتباره أنه نهاية المطاف، ولم يدّع أحد ذلك أصلاً، لكنه شكّل نهاية مرحلة بالتأكيد ، ومواجهة حقيقية لمخططات الولايات المتحدة الأميركية والمعارضة السورية التي تبنت «وثيقتها الخماسية» التقسيمية والتدميرية لسوريا.وشكّل الاتفاق على بيان ختامي تضمّن الأسس والمبادئ التي ينبغي أن تحكم مستقبل السوريين، تحولاً في الرغبة والإرادة السورية المشتركة في التوصّل إلى حل سياسي، ومثّل  صفعة لمحور الدول الغربية و الرجعية العربية الداعمة لاستمرار الحرب الإرهابية على الدولة الوطنية السورية،وكان محط ترحيب المجتمع الدولي وحتى من المشاركين بطريقة أو بأخرى في استهداف سورية.

و أكّدالبيان الختامي للمؤتمر على ما يلي:

أولاً:استقلال وسلامة ووحدة‏‏ الجمهورية العربية السورية أرضاً وشعباً‏‏، ولا يجوز التنازل عن أي جزء من الأراضي الوطنية ويبقى الشعب السوري متمسكاً باستعادة الجولان السوري المحتل بجميع الوسائل القانونية وفقاً لميثاق الأمم المتحدة والقانون الدولي.‏‏

ثانيًا:على ضرورة الاحترام والالتزام الكامل بالسيادة الوطنية السورية على قدم المساواة مع الدول الأخرى وعدم التدخل في شؤونها الداخلية ووجوب أن تستعيد سورية دورها الكامل على الساحة الدولية وفي المنطقة كجزء من الوطن العربي وذلك وفقاً لميثاق الأمم المتحدة وأهدافه ومبادئه.‏‏

ثانيًا: الشعب السوري هو من يحدد مستقبل بلاده بشكل مستقل وبطريقة ديمقراطية عبر الانتخابات ويمتلك الحق الحصري في اختيار نظامه السياسي والاقتصادي والاجتماعي من دون ضغوط خارجية أو تدخل وذلك وفقاً لحقوق والتزامات سورية على الساحة الدولية.‏‏

ثالثًا:«سورية دولة ديمقراطية غير طائفية تقوم على مبادئ التعددية السياسية والمساواة بين المواطنين بغض النظر عن انتماءاتهم الدينية والعرقية والجنسانية، بحيث تكون فيها سيادة القانون مضمونة بشكل كامل إضافة إلى مبدأ فصل السلطات واستقلال النظام القضائي والتنوع الثقافي للمجتمع السوري والحريات العامة بما فيها حرية المعتقد وتتمتع بحكومة مسؤولة وجامعة تعمل في إطار التشريع الوطني وتتخذ إجراءات فعالة لمكافحة الجريمة والفساد وسوء استخدام السلطة».‏‏

رابعًا:«تلتزم الحكومة بالوحدة الوطنية والسلم الاجتماعي والتنمية الشاملة والمتوازنة مع التمثيل العادل في سلطات الإدارة المحلية،حيث أكدّ البيان على «ضرورة استمرارية وتعزيز عمل المؤسسات الحكومية والعامة بما في ذلك حماية البنى التحتية للمجتمع والممتلكات الخاصة وتقديم الخدمات العامة لجميع المواطنين من دون استثناء وفقاً لأعلى معايير الإدارة والمساواة بين الجنسين، ولدى التواصل مع السلطات الحكومية يجب أن يتمتع المواطنون بآليات تضمن سيادة القانون وحقوق الإنسان وحماية الملكية الخاصة.‏‏

خامسًا:شدّد البيان على أهمية المحافظة على الجيش والقوات المسلحة وأن يقوم بواجبه وفقاً للدستور بما في ذلك حماية الحدود الوطنية والشعب من التهديدات الخارجية ومكافحة الإرهاب حماية للمواطنين حيثما يتطلب ذلك.. وتركز المؤسسات الأمنية والاستخباراتية على الحفاظ على الأمن الوطني وتعمل وفقاً للقانون.‏‏

سادسًا:أعرب البيان عن الرفض الكامل لمختلف أشكال الإرهاب والتعصب والتطرف والتفرقة الدينية والالتزام بمحاربتها بشكل فعال..‏‏

سابعًا:«كل الاحترام للمجتمع السوري‏‏ وهويته الوطنية وتاريخه وقيمه‏‏ الغنية التي ساهمت فيها جميع الأديان والحضارات والتقاليد التي مرت على سورية بما في ذلك العيش المشترك بين مختلف مكونات المجتمع السوري والحفاظ على الإرث الثقافي الوطني بكل أطيافه».‏‏

ثامنًا:محاربة الفقر والقضاء عليه ودعم المسنين وغيرهم من الفئات الهشة من ذوي الاحتياجات الخاصة والأيتام وضحايا الحرب.

وتم الاتفاق في «مؤتمر الحوار السوري» في سوتشي على تأليف لجنة دستورية «بغرض صياغة إصلاح دستوري يسهم في التسوية السياسية التي ترعاها الأمم المتحدة وفقاً لقرار مجلس الامن 2254». وستضمّ اللجنة وفق البيان «ممثلين للحكومة وممثلي المعارضة المشاركة في المحادثات السورية وآخرين» ، حيث تكون فيها حصة المعارضة بحدود «الثلث المعطل»، وأن القرارات في شأن فقرات الدستور ستتخذ بغالبية الثلثين.و تتكون هذه اللجنة الدستورية من 168 عضواً هم مندوبون لمؤتمر الحوار الوطني السوري ، وستنتخب هيئة مصغرة من 25 شخصاً مهمتها صياغة الدستور،ويتم اختيار الرئيس ونائبه وأمين السر من تكوين اللجنة. واتفق المؤتمرون  على ان تكون النسبة في لجنة مناقشة الدستور الحالي ثلثين تدعمهم الحكومة وثلثا للأطراف الأخرى،‏‏ ويتخذ أعضاء اللجنة القرار بأغلبية حول ضرورة المساعدة من خلال الخبراء بطريقة تقديم المشاورات إلى أعضاء اللجنة.‏‏

وعن البيان الختامي لمؤتمر سوتشي، قال دي ميستورا إنه «أقر بالكامل النقاط الـ12 التي كانت قدمتها الأمم المتحدة خلال مفاوضات جنيف وقد تكون أساس الدستور المستقبلي، وهو ما لم يحدث سابقاً خلال المفاوضات». وشدّد على أن إعلان سوتشي «تضمن أن الهدف النهائي للجميع هو تطبيق قرار مجلس الأمن 2254 بشكل كامل» في إشارة الى عدم تعارض سوتشي مع مسار جنيف.وذكر بما قاله سابقاً «أننا لا نريد مساراً موازياً أو منافساً لجنيف، ولذلك ستصبح اللجنة الدستورية حقيقة واقعة ولكن ضمن مسار جنيف وليس في أي مكان آخر». واعتبر أن مؤتمر سوتشي «أصدر إعلاناً قوياً، لكن جنيف ستجعله أكثر متانة».واعتبر دي ميستورا إن اللجنة الدستورية ستنتج دستوراً جديداً «تجري على أساسه الانتخابات البرلمانية والرئاسية»، معتبراً أنها ستكون «المنبر الأول الذي تشارك فيه الحكومة والمعارضة معاً كتابة الدستور».

لم تقل موسكو أن «سوتشي» هو بديل عن جنيف المتعثر ولكن ثمة اختلافات بين المسارين، ففي سوتشي يلتقي ممثلو الشعب السوري بكل مكوناته السياسية والاجتماعية فضلاً عن حضور ممثلين عن أحزاب المعارضة في الداخل والمجموعات المسلحة الموجودة على الأرض والتي وافقت على الدخول في مصالحات وتهدئات أو وقف الأعمال القتالية وصولاً إلى مناطق تخفيف التوتر من أجل الحوار حول مستقبل سوريا ودستورها الجديد ونظامها السياسي المعبر عن تطلعات شعبها، بينما يقتصر جنيف على وجود وفدين فقط هما وفد الحكومة السورية ووفد ما يسمى «المعارضة» التي تدعي تمثيل الشعب السوري مع انعدام تأثيرها على الأرض وارتهانها لأجندات قوى خارجية ووساطة أممية.

‏ الرابحون في مؤتمر سوتشي هم السوريون من الداخل و الخارج الذين آمنوا بالحوار تحت سقف هذا المؤتمر، منذ بدء الحرب، لبلورة الإجماع الأوسع الذي ستتحدد على تخومه حقيقة المواقف والالتزامات والمسؤوليات الوطنية من عدمها. فالذين حضروا مؤتمر سوتشي لم يعتبروه بديلاً عن مؤتمر جنيف ، بل اعتبروه مكملاً له، و أنّه أيضاً سيوفّر لجنيف الأرضية الصلبة والأهم على طريق إطلاق الحوار الجدي والعملي والقابل للتطبيق، وهو سيكون بالتالي الركيزة الرئيسية لتجاوز حالة المراوحة والتعطيل، التي يفرضها واقع التدخلات الأجنبية. فقد أسقط حضور دي ميستورا في المؤتمر الأوراق من أيدي أولئك الذين حاولوا إيجاد تعارض بين سوتشي وجنيف، و أعرب المبعوث الدولي الخاص إلى سورية عن دعمه لمؤتمر سوتشي نيابة عن الأمم المتحدة وأيد قراراته التي ستنفذ بالفعل في محادثات جنيف.

أما الخاسرون ،فهم أولئك الذين لم يحضروا مؤتمر سوتشي ، إذ فضلوا البقاء بعيداً عن التسوية السياسية الحقيقية والعملية الدستورية في سورية بعد أن عزلوا أنفسهم عنها ، و اختاروا الإرتماء في أحضان الإمبريالية الأميركية و الرجعية العربية، اللتان  ترعيان الإرهاب  والإرهابيين، وتريدان استمرار الحرب من أجل كسر صمود الدولة الوطنية السورية المحافظة على ثوابتها  الوطنية والقومية والعلمانية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى