هكذا تسلق السيسي حبال احلامه مبكراً حتى وصل كرسي الحكم

في حواره مع صحيفة «واشنطن بوست»، في آب 2013، وفي معرض رده على سؤال محاورته إذا ما كان لديه النية للاستحواذ على السلطة، قال الرئيس المصري الحالي عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع حينئذ: «أنت فقط لا تصدقين أن هناك رجالًا لا يسعون إلى السلطة»، على الدوام حاول السيسي تصوير نفسه بصورة الزاهد في السلطة والمترفع عنها، فالمناصب والتكليفات الرسمية هي التي تسعى إليه عبر المناشدات الشعبية، وليس العكس.

لكن معاينة الأرشيف القريب قد توحي بعكس ذلك؛ إذ ثمة مواقف وأحداث تكشفت فيها رغبة السيسي المبكرة في السلطة، أو تفكيره فيها على أقل تقدير، وكان ذلك قبل أن تلوح له فرصة الوصول إليها في منتصف العام 2013، وهو ما تحاول سبر أغواره السطور التالية، التي تستقصي المواقف الأولى التي مهدت طريق وزير الدفاع إلى قصر الاتحادية.

«الابن الروحي» لطنطاوي

«اسمحوا لي أوجه التحية ليه لوحده.. سيادة المشير حسين طنطاوي»، بهذه العبارة تحدث الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، عن وزير الدفاع السابق، «محمد حسين طنطاوي»، في الذكرى 42 لانتصارات أكتوبر (تشرين الأول)، وهي عادة دأب عليها السيسي الذي حرص على دعوة قائد الجيش السابق في العديد من الفعاليات العسكرية الهامة، كما حرص على الإشادة به بين الحين والآخر، واصفًا إياه بالرجل العظيم، الذي لولاه لما تمكن السيسي نفسه من تحقيق أي إنجازات منذ توليه وزارة الدفاع خلفًا له.

قد تبدو كلمات السيسي ثناءً تقليديًا من مسؤول حالٍ على سلف له قضى في منصبه سنوات طوال، ويحظى باحترام كبير بين الضباط والجنود، أو محاولة لدرء شبهة «تواطؤ» – محملة لدى البعض – مع مرسي للإطاحة بطنطاوي والفوز بالمنصب، لكنها كذلك يمكن النظر إليها كتعبير علني من جانب السيسي عما هو معلوم لأوساط مختلفة من خصوصية العلاقة بينه وبين طنطاوي.

فلفترة طويلة، نُظر إلى السيسي باعتباره «ابنًا» لطنطاوي داخل الجيش، وقد شاع بين الضباط والجنود – حتى من قبل ثورة يناير (كانون الثاني) – أن الضابط الشاب، عبد الفتاح السيسي، مقرب للغاية من وزير الدفاع الكهل، ورأى الكثيرون داخل المؤسسة في السيسي خليفة طنطاوي المرتقب، وحين جاء السيسي إلى سدة الوزارة بقرار من الرئيس السابق «محمد مرسي»، رأى الكثيرون داخل الجيش أن ذلك ليس إلا تسريعًا لسيناريو كان متوقعًا بالفعل؛ ما سهّل كثيرًا من مهمة الجنرال الجديد في بسط نفوذه على أروقة الجيش وضمان ولاء جنرالاته.

رؤى السيسي

«حلمت إني في إيدي ساعة ماركة (أوميغا) عليها نجمة خضراء ضخمة جدًا، والناس بتسألني اشمعنى انت اللي معاك الساعة دي، فقلتلهم الساعة دي باسمي، هي أوميغا وأنا عبد الفتاح، يعني رحت حاطط أوميغا مع العالمية مع عبد الفتاح.. منام ثالث يتقالي فيه هنديك اللي مديناهوش لحد، ومنام آخر مع السادات باكلمه بيقولي أنا كنت عارف إني هابقى رئيس الجمهورية، فقلتله أنا عارف إني هابقى رئيس الجمهورية».

جاءت الكلمات السابقة على لسان السيسي نفسه، في حديث أسر به عام 2013 إلى رئيس تحرير صحيفة «المصري اليوم» حينها، «ياسر رزق»، وقد وجد التسجيل الصوتي لتلك المقابلة طريقه إلى وسائل الإعلام حينها.

لا يعنينا هنا إذا ما كانت رؤى السيسي نبوءات حقيقية أو مجرد أضغاث أحلام أو حديث نفس، إلا أن المرجح – ووفقًا لما هو ملاحظ من حديثه مع ياسر رزق – أن السيسي نفسه كان يأخذها محمل الجد، ولعل تلك الأحلام التي نظر إليها السيسي كـ«نبوءة» قد ساهمت في استنهاض همته وحددت طريقه؛ ليخطو الخطوة تلو الأخرى نحو قصة الاتحادية، مقتنعًا في قرارة نفسه أنه سيناريو حتمي التحقق، وأن الأقدار قد وعدته بالمنصب الأسمى في البلاد، وليس عليه سوى السعي لتحقيق ذلك الوعد.

هدايا الأسواني

في لقائه مع برنامج «المشهد» على تليفزيون «بي بي سي»، يحكي الروائي والناشط السياسي المصري بعض تفاصيل لقاء جمعه في شهور الثورة الأولى بالسيسي – وكان حينها مدير المخابرات الحربية – واللواء محمد العصار، العضوين في المجلس العسكري:

أخبرتهم عن دراسة بحثية قرأتها عن وسائل الثورة المضادة في إجهاض الثورات، كان ذلك خلاصة قراءات كثيرة، وتصورت أن ذلك الأمر سيكون مفيدًا لهم، فقد كنت أعتقد أنهم منحازون للثورة».

ربما لم يكن يعلم الأسواني حينئذ أن السيسي – الذي يقول الأسواني: إنه كان ينصت باهتمام شديد ويكتب كل ما يقوله الأسواني بخصوص هذا الأمر المتعلق بكيفية إجهاض الثورات – قد استفاد بالفعل من تلك النصائح، ليس لحماية الثورة كما أراد الأسواني نفسه، بل لإجهاضها.

وتجدر الإشارة إلى أن السيسي – ومن قبل أن يُعرف عنه أي طموح سياسي – كان حريصًا على مد جسور التواصل مع القوى السياسية المختلفة، إبان عمله عضوًا بالمجلس العسكري ومديرًا لجهاز المخابرات الحربية، ومنها لقاؤه بأبرز نشطاء الثورة، أمثال وائل غنيم، وأحمد ماهر – مؤسس حركة «6 أبريل» – والناشطة أسماء محفوظ، وقد كان كل هؤلاء عرضة لاعتقال السيسي أو للتشويه على يد أجهزة إعلامه بعد ذلك.

رجل “الإخوان”

«أحمل الإخوان المسلمين وأتباعهم مسؤولية تأميني، ومسؤولية إغلاق قناة (الفراعين) كما أحمل المجلس العسكري، بداية من المشير محمد حسين طنطاوي إلى آخر عضو في المجلس، بما فيهم اللواء عبد الفتاح السيسي، مدير المخابرات الحربية، ورجل الإخوان المسلمين في القوات المسلحة، وكل من هو مسؤول داخل القوات المسلحة، أحملهم جميعًا مسؤولية أمني الشخصي».

خرجت تلك الكلمات كالصاعقة من فم الإعلامي توفيق عكاشة، قالها وقت كان السيسي عضوًا في المجلس العسكري؛ لتلقى رواجًا كبيرًا بعد تعيين السيسي وزيرًا للدفاع بقرار من الرئيس السابق «محمد مرسي»، وتشير صحيفة الشروق إلى مقطع فيديو آخر – حُذف بعد ذلك من المصدر – يقول فيه عكاشة: «عبد الفتاح السيسي، رجل الإخوان المسلمين وهو وأسرته بالكامل بين اللي بيلبسوا نقاب واللي بيلبسوا جوانتي، وهو نفسه لو أمور الجيش تسمح له إنه يربي ذقنه كان رباها».

ربما تثير تلك الكلمات من عكاشة – الذي تثور شائعات حول علاقته بأجهزة معينة في الدولة – استغراب البعض؛ بعد أن أثبتت الأحداث عكس ذلك تمامًا، لكن عكاشة نفسه قد أعطى تفسيرًا لتلك التصريحات في حوار لاحق مع الإعلامي «عمرو أديب» حين قال إن تلك التصريحات كانت مبادرة منه لإلقاء الطّعم للإخوان؛ ليصبح السيسي مصدر ثقة بالنسبة لهم، وبالرغم من أن عكاشة قد نفى في ذلك اللقاء أن يكون السيسي على علم مسبق بمبادرته لـ«خداع» الإخوان، إلا أنه قد لمح في لقاء لاحق أن السيسي كان قد علم بتلك اللعبة، وقبِل بها.

والمثير أنه يبدو كون الإخوان المسلمين قد التقطوا الطعم فعلًا؛ إذ سارعت الجماعة إلى الاحتفاء بالسيسي فور صدور قرار تعيينه من مرسي، واصفة إياه بأنه «وزير دفاع بنكهة الثورة».

يبكي في صلاة الظهر

«لم نكن نعرف الكثير عن السيسي، وقد نجح في إيهامنا بمظهر اتضح أنه مغاير للحقيقة؛ فقد كان يحرص على زيارة القصر الرئاسي يوم الاثنين؛ كي يقدم له الشراب؛ فيرفضه بحجة أنه صائم، وكان يشيع هو ورجاله عن نفسه أنه رجل متدين إلى حد التطرف، وأن زوجته وابنته منتقبتان بالكامل، وكنا بالطبع نصدق ذلك، فكيف لنا تكذيب الرجل وقد كان يبكي في صلاة الظهر، بالرغم من أنها ليست من الصلوات التي يسمع فيها صوت تلاوة القرآن لإقناعنا بتقواه وتأثره. هذا في الواقع كان مجرد تمثيل على القيادة السياسية الموجودة».

بهذه الكلمات وصف القيادي في جماعة الإخوان المسلمين «قطب العربي» لشبكة «سي إن إن» ثقة جماعته المفرطة في السيسي إبان خدمته كوزير للدفاع في حكومة مرسي، وهو يتطابق مع ما ذكرته زوجة «خيرت الشاطر» نائب مرشد جماعة الإخوان المسلمين،  بأن زوجها كان دائمًا ما يحدثها عن تقوى وزير الدفاع الفريق «عبد الفتاح السيسي»، وأنه رجل صوام وقوام، على حد تعبيرها.

وفي حين تكشف تلك التصريحات عما اعتبره البعض «سذاجة» مفرطة في تعامل الإخوان مع شؤون السياسة والحكم، فإنها تكشف – حال صحتها – عن «خطة» اتبعها السيسي ربما، ليحظى بثقة مرسي المطلقة، حتى حانت اللحظة الحاسمة؛ ليحل محله في كرسي الحكم الذي لا يتسع لاثنين، ولا لجماعتين.

وزير الدفاع يلتقي بالفنانين

ثمة الكثير من المهام التي يُمكن أن توكل لوزير دفاع دولة ما، ليس من بينها استضافة الفنانين ولاعبي كرة القدم في الثكنات العسكرية، فإذا ما ظهرت لقاءات كهذه، وبغير مناسبة حقيقية تبررها، فإنها قد تشي على الأرجح بأن صاحبها يتطلع إلى ما فوق مهامه العسكرية، وهو ما ينطبق على حالة السيسي.

في 12 مايو (آيار) 2013 استضاف السيسي، في مقر الوحدة التاسعة مدرعات بالمنطقة المركزية نخبة من الفنانين ولاعبي الكرة، أبرزهم عادل إمام، ويحيى الفخراني، وحسين فهمي، وطلعت زكريا، وأحمد بدير، ومحمود قابيل، وشريف منير، وأحمد السقا، وأحمد عز، ومحمد فؤاد، إلى جانب مفكرين وسياسيين، مثل مصطفى الفقي، وعلي السلمي، والكاتب عمر مكرم، ومحمود مسلم، وياسر رزق، فضلاً عن بعض الرياضيين، مثل شوبير، وأحمد حسن، وعبد الحميد بسيونى.

جاء ذلك اللقاء بعد أسابيع قليلة من لقاء السيسي بمجموعة من الفنانين في احتفال أقامته جامعة المستقبل بعيد تحرير سيناء في 28 أبريل (نيسان) بمسرح الجلاء بالقاهرة، وقد شهد كلمة مفعمة بالعاطفة للفريق السيسي، حتى أن الفنان محمد فؤاد قد بكى خلالها، وخرج بعدها المرشح الرئاسي الأسبق «حازم صلاح أبو إسماعيل» واصفًا السيسي بـ«الممثل العاطفي»، وبأنه يستجلب رضا الناس ليعولوا على الجيش مجددًا.

ويمكن القول إن تلك اللقاءات قد آتت أكلها في «تطبيع» أراده السيسي مع الحياة المدنية؛ مهد لاحقًا للقبول الشعبي بالدور السياسي له، ونسرد هنا – على سبيل المثال – ما ذكره الفنان طلعت زكريا – صاحب الموقف المعروف ضد ثورة يناير – الذي أعرب بعد لقاء 12 مايو المذكور عن إيمانه أن «الجيش أصبح السند الذى يعول عليه الجميع في المستقبل، وأية دعوة له تلبيها كل طبقات المجتمع».

ربما تمثل المواقف السابقة غيضًا من فيض المؤشرات التي بدت فيها الطموحات السياسية للجنرال الشاب، والتي لم يلتفت الكثيرون لها في حينها، حتى تمكن السيسي من إزاحة العقبات التي تعوق طريق وصوله إلى عرش مصر، وأطاح بمنافسيه واحدًا تلو الآخر؛ ليبقى وحيدًا على قمة الهرم إلى أجل غير معلوم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى