جمال عبدالناصر

كأنّه قَبَس من ضوءٍ شعَّ، على حين غرّة، فأنار ظلمة ظلماء غَشِيَت تاريخَ عَربٍ كانوا، تقريباً، خارج التاريخ. وعلى بَغْتَةٍ انطفأ نجمٌ أضاء عتمة ليلٍ بهيم فَغَشِيَ السوادُ فضاءً كاد أن يبارِحَ غموضَه. لم يَقْضِ من المئويّ إلاّ نصفَه ونيّفاً يسيراً ورحل، مخلِّفاً أسئلةً جليلةً كان، هو نفسُه، مَن أفرغ الوسع في جَبْه إعضالاتها. زيارةٌ قصيرةٌ للتاريخ، وإقامةٌ دائمةٌ فيه. فرحةٌ عامرةٌ للأهل بمقْدمه، وحسرةٌ في النّفس على الغياب. تلك قصّته؛ هو الذي أتانا من التاريخ الذي لم يكن لنا، ورحل؛ ليقذف بنا رحيلُه في تاريخٍ لم يعد لنا بعده.

في مطلعٍ عامٍ من نهايات حربٍ عالمية، ولَجَت هزيعَها الأخير، أبصر النور؛ بعد أشهرٍ من «وعد بلفور» المشؤوم ومن تجزئةٍ كيانيّة مزّقتِ الأوصال وفَتَقَتْ نسيجَ موروثٍ توحيديٍّ، خرج إلى الوجود طفلاً يسعى في وطنٍ محتلّ تهيَّأ شعبُه للثورة على الغزاة (1919)، وتكوّن وعْيُه، مع الزمن، في تفاعُلٍ خلّاق مع قضايا شعبه ليستقرّ في لحظةٍ من أواسط الأربعينات على فكرتيْن اثنتيْن لم يَحِد عنهما، منذ انضمامه إلى القوات المسلّحة إلى رحيله إلى سدَّة التاريخ: التحرُّر الوطنيّ والعدالة الاجتماعية. حربُ فلسطين استكملتِ الأثافي بثالثها، وثالثها فكرةُ وحدة الأمّة التي لا يَقْوى عضوٌ منها على البقاء وحيازة أسباب القوّة وهو عن غيره بمعْزِل. ومن حينها اقترنت مفردةُ الأمّة العربيّة مع مفردة الشعب المصريّ في لسانه ووجدانه فَتَلازمَتَا تلازُم الماهية.

من صدفةٍ، أشبه ما تكون بالقَدَر، اقترن اسمُه بالنصر والنُّصرة، ولم تكن سيرتُه في السياسة والنضال والسلطة غيرَ سعيٍ دَائب إلى حيازة النصر: على الفقر؛ على التفاوت الطبقي؛ على الاحتلال الأجنبي وعملائه في الداخل، على الوجود السرطانيّ «الإسرائيلي»، على التجزئة، على الشعور بالصَّغار والدونيّة («ارفع رأسَك يا أخي»)، على الانكفاء الإقليميّ والولاءات العُصبويّة القبليّة والمناطقيّة والطائفية والمذهبيّة، على الجهل والأميّة والمرض والتهميش الاجتماعيّ… إلخ. ولقد أصاب حظّاً غيرَ قليلٍ من النجاح في إِحراز النصر على أكثر من جبهةٍ خاض فيها محمولاً على فكرة الانتصار. ولكنه كَبَا، كَمْ كبوةً، في معارك أخرى خُذِل فيها من عشيرته الأقربين، وكِيدَ له فيها منهم كلَّ الكَيْد!

ثم إنّ سيرته تلك لم تكن غيرَ سعيٍ دائبٍ لنصرة من يحتاج إلى نصرة: من الأمّة ومن الإنسانية المضطهَدَة جمعاء، من نصرة الثورة الجزائريّة وإمدادها بالسلاح والمال، إلى نصرة شعب اليمن ومساعدته على الخروج من العصور الوسطى وبناء دولةٍ وطنيّة، إلى نصرة الشعب الفلسطيني وحركته الثوريّة المسلّحة؛ لتحرير أرضه إلى نصرة حركات التحرّر الوطنيّ في إفريقيا، إلى نصرة سياسات الاستقلال الوطنيّ والحياد الإيجابيّ لتوليد منظومةٍ عالميّةٍ جديدة (جنوبيّة) متماسكة في وجه الأحلاف الاستعماريّة وسياسات التبعيّة للإمبريالية…إلخ. ولقد دفع – ومعه مصر- أغلى الأثمان، لقاء سياسته التحرّرية، حروباً خيضت ضدّه منذ حرب السويس إلى حرب 1967، مروراً بالانفصال واستنزافه في اليمن. إنّه ثمن فكرة النصر المنقوشة لفظاً على اسمه الناصر.

فقيرٌ هو، ابنُ الشعب وابنُ الريف المصري، حَمَل فقرَهُ تذكاراً يَشد انتباهَهُ إلى أحوال شعبِه، ويُنمّي بين جوانحه فكرة العدالة. لقد كان عبدالناصر أوّل حاكم يضاعف مساحات الأرض المزروعة في مصر، ويسيطر على هدْر مياه النيل؛ (بإقامة السدّ العالي)، وأوّل من يوزّع ملكية الأرض على الفلاّحين الفقراء، ويُنجز الثورة الزراعية. وهو، من غير مِراء، أوّل من أقام البنية الإنتاجيّة على قاعدة سياسات التخطيط المركزي وحاكميّة القطاع العام، وإشراك المنتجين (العمّال) في إدارة مؤسّسات الإنتاج.

لكنّ التنمية عنده لم تكن اقتصادية فحسب؛ بل اجتماعيّة في المقام الأوّل، وآي ذلك تعميمُه التعليم – الذي ظل محصوراً في أبناء الأعيان – على نحوٍ مكَّن الملايين من أبناء الفلاحين والشعب من فُرص تحصيله، وعنايتُه بتطوير البحث العلمي وتعهُّد مؤسّساته بالرعاية الرسميّة. وإلى ذلك صَرَفَ كبيرَ جَهْدٍ لتوفير العلاج المجانيّ لملايين المصريين، ناهيك بتوفير السّكن ومحاربة التهميش، وتوفير مناصب العمل، وتحديث البنى التحتية الارتكازية، ورعاية الحياة الثقافية وتطوير مواردها، وتحرير المرأة من هامشيّتها وزجّها في الإنتاج والحياة العامّة.

غيَّر عبدالناصر وجْهَ مصر، في بحر عقدٍ ونصفِ العقد، ومعها وجْه الوطن العربيّ برمَّته، أطلق ما كان مكبوتاً من طاقاتهما، وزوّدهما بالمشروع التاريخيّ النهضويّ، الذي افتقدناه منذ زمن، وفرض هيبتهما في العالم كلِّه. ولم يكن قليلاً أن تتحوّل القاهرة، في عهده، إلى واحدةٍ من أهمّ عواصم القرار المتقدّمة في العالم، لا يُبْرَم شأن في «الشرق الأوسط» وفي «العالم الثالث» دون موافقتها ومشاركتها. ثم ما لبث أن تحوّلت إلى قِبْلةٍ لحركات التحرّر الوطني في العالم، بعد أن بات زعيمُها في زمرة قادة الثورة الكبار في القرن العشرين، تمامًا مثلما باتت الترمومتر الذي تقاسُ به السياسةُ الرسميّة العربيّة التي انعقدت ولايتُها لمصر وسلَّم لها بذلك الجميع تسليماً. ولقد اجتمعت هذه الإنجازات جميعُها؛ لتصنع لعبدالناصر ذلك الرأسمال الكاريزميّ النادر، الذي كان له؛ وذلك السلطان الرمزيّ الذي فاض عن حدود مصر فشمِل العربَ جميعاً: من الماء إلى الماء. وما أحدٌ صَنَع له ذلك الرأسمال، هو وحدهُ صنعَهُ لنفسه بعظيمِ ما أنجزه، بصدْق ما نهض به، وبالقدر الكبير من الشجاعة التي ملأ بها نفسه، كما بالثقة الكبيرة في شعبه وأمّته…، وبعفّةِ النفس ونظافة الكفّ في إدارة الشؤون العامّة. أحبَّهُ الفقراء لذلك مثلما أحبَّهم وأخْلَص لقضيتهم. بَكَوْهُ – حين مات – بكاء المفجوع بصدمة اليُتم. أما خصومه فحاولوا مَحْوَ ذكراه، منذ ثمانيةٍ وأربعين عاماً، وفتحوا على عهده من الحروب ما فتحوه، فما زاد في وجدان الناس إلّا اتِّقاداً. كم كان خصومه يخشونه وهو حيّ، وهم ما فتئوا يخشونه بعد أن أهيل التراب على جثمانه.

أبدًا ليس عبدالناصر من الماضي، ليس وراءنا؛ بل أمامنا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى