عبد الناصر ونجيب محفوظ
بقلم : محمد حماد
في يوم 23 يوليو سنة 1952 كانت مصر على موعد مع عصر جديد برموزه وقضاياه ومعاركه وانجازاته واحباطاته، كانت مصر تتوق إلى التغيير الذي جاءها يسعى فوق دبابات تقودها نخبة من «الضباط الأحرار»، وخرج الشعب مؤيداً ومناصراً «الحركة المباركة»، وجرت مياه كثيرة في نهر النيل جرفت معها عصراً كان قد انتهت صلاحيته التاريخية، وكان نجيب محفوظ قد أنهى السنة الأولى بعد الأربعين من عمره، وكان قد كتب احدى عشرة رواية، نشرت له منها ثمانية روايات، وبقيت «الثلاثية» حبيسة الأدراج حتى نشرت في 1957.
توقف نجيب محفوظ عن الكتابة مأخوذاً من المشهد الذي تغيرت فيه كل التفاصيل، واستقبل ما يجري مؤيداً وحالماً ومنتمياً ومتأملاً، حتى اكتملت ملامح المشهد الجديد أمامه فاستعاد رغبته في الكتابة وأعاد إلى قلمه روح الناقد الباحث عن الحقيقة والحق، وتوالت أعماله، وكانت ذروة ازدهاره الأدبي في زمن الثورة، نشر خلاله «الثلاثية» وجميع الروايات التي انتقدت الواقع الجديد، وتحولت أعماله الأدبية إلى نصوص سينمائية وتليفزيونية وإذاعية ومسرحية على نطاق واسع وكان عصرها الذهبي في زمن عبد الناصر، ونال من التقدير والتكريم ما لم ينله في زمن قبله ولا بعده، حتى جاءته جائزة نوبل، فانهمرت عليه صنوف التقدير والتكريم.
علاقته بعبد الناصر ورؤيته لعصره واحدة من الموضوعات الملتبسة التي ثار حولها لغط كبير، ولعلنا لا نجاوز الحقيقة إذا قلنا إن ثلاثة أرباع هذا اللغط حول موقف نجيب محفوظ من ثورة يوليو 1952 ورأيه في زعيمها جمال عبد الناصر من صناعة حواري الأديب الكبير ومريديه.
راح كل منهم يصبغ «موقف محفوظ» بآرائه هو الشخصية، فمن كان منهم مناهضاً للثورة ومعادياً لزعيمها استطاع أن يجد في روايات محفوظ وتصريحاته ما يؤكد وجهة نظره وما يثبت عداءه الكامل للثورة.
ومن كان منهم موالياً للثورة مؤيداً لزعيمها أمكنه أن يجد في الروايات نفسها، وفي تصريحات أخرى للرجل ما يؤيد وجهة نظره بشواهد أخرى تثبت عكس ما ذهب إليه المناهضون للثورة، بل جاء بعضهم بأقوال منسوبة إلى الأديب تثبت أنه: «ناصري ولكن مقنع».
والخطأ الكبير الذي يقف وراء هذا اللغط يقوم على خطأ آخر صغير يبدأ بحساب الأديب على ميزان السياسة وليس بموازين الأدب، فبدت آراء محفوظ السياسية متضاربة، متناقضة، يراها البعض سطحية، ووصفها البعض الآخر بأنها تحمل براءة تقترب من السذاجة، بينما تبقى أعماله الأدبية منضبطة على مقياس الأدب يجدها الجميع، مؤيدين ورافضين، أعلى سلم الابداع، ويرونه الأب المؤسس لفن الرواية العربية حتى أن توفيق الحكيم دعا إلى أن يكون للرواية عيد سنوي يكون يومه هو يوم ميلاد نجيب محفوظ.
نجيب محفوظ السياسي قل فيه ما تشاء، واختلف معه كما تشاء، واختلف على هذه الآراء وخذ منه وارفض، لأن السياسة عنده ليست إلا «هوامش» ربما لا قيمة لها على «المتن» الأصلي عنده وهو «الرواية».
**
بدأت علاقة نجيب محفوظ بثورة يوليو بحالة انبهار كبير، أيدها ، وراح يأمل في أن يتحقق الكثير على يدها، وتوقف عن الكتابة لمدة تقترب من خمس سنوات متصلة، وهو يرى أن تلك الفترة التي امتنع نهائياً عن الكتابة أو امتنعت عنه الكتابة، والتي أعقبت قيام ثورة يوليو كانت فترة تحققت فيها الأحلام، يقول : «من الطبيعي إذا شعرت بالراحة والانسجام مع الأشياء كففت عن الانتاج، كنت مع الثورة بدون قيد ولا شرط، كانت تحت يدي سلسلة من الموضوعات الروائية الواقعية تكفي العمر كله، بعد قيام الثورة حدثت حالة موات أدبي كدت أنصرف عن الكتابة الروائية وتحولت الى كتابة السيناريو، فقدت رغبتي بشكل مفزع في الكتابة الأدبية بل فقدت الرغبة في مجرد التفكير فيها».
ليس عنده تفسير لهذا السكوت الأدبي الطويل نسبياً، ربما كانت حالة ترقب، ربما كانت حالة ارتياح مؤقت لخلاص مصر بعد الثورة من مظالم الحكم، كان لابد أن يتوقف ويتأمل ويرصد هذا الجديد الذي يولد وينمو وتتشكل ملامحه الكاملة، حسب أقواله هو فإن «جمال عبد الناصر غيَّر الحياة من جذورها، حرر الشعب من الإقطاع وأصحاب رؤوس الأموال المستغلين ، الذين كانوا يحكمون من وراء الحكام ومن الاحتلال الانجليزي ومن الملك»، ويرى أن هذه النقلة التي حدثت لمصلحة شعب مصر لم تحدث في تاريخه من قبل، يقول: «أعترف أن أكبر نصير للفقراء في تاريخنا كله كان جمال عبد الناصر، وهذا المعيار كان في ذهني، كنت أفرح وأؤيد كل حاجة تعملها الثورة وكنت متحمساً ، بعني ناصري غير معلن».
حاول البعض التهويل من انتقاداته لبعض ممارسات النظام الناصري، وحاول البعض الآخر أن يصوروا حجم المعاناة المرة التي عانى منها نجيب محفوظ في ظل عبد الناصر، وهو الأمر الذي ينفيه محفوظ نفسه في أكثر من حوار وبأكثر من صيغة للنفي، منها الاستنكار لمثل هذا التصور ويقول: «أزعم أن الفن ازدهر إلى حد كبير في العهد الناصري، وجزء كبير من هذا الازدهار يرجع إلى نظام الحكم نفسه، لأنه سمح بهامش من الحرية»، قال هذا في محاوراته مع رجاء النقاش في مطلع التسعينيات بعد أكثر من عقدين على وفاة عبد الناصر.
**
إذا أردت أن تضبط زاوية نظرك تجاه رأي نجيب محفوظ في عبد الناصر والثورة لابد أن تدرك أنه ينطلق في ذلك من أمرين: الأول: تقدير كبير لما جرى ولما انجز، والثاني: نقد قاس للأخطاء، والخطيئة الكبرى في نظره هي غياب الحرية السياسية أو تغييبها على مدار اجراءات الثورة وقراراتها الكبرى.
انظر إليه وهو يقول بكل صراحة: «الثورة أسقطت المجتمع الذي كنت أرفضه وأنشأت مجتمعا حديثاً حققت فيه للشعب مكاسب ايجابية ضخمة ورافقتها للأسف سلبيات كثيرة مقلقة» ، ثم وهو يقول: «التغيير الذي حدث خلال 18 سنة يحتاج إلى 180 سنة»، ثم انظر الى فجيعته الشخصية وقد جاء عليه وقت حسب نص كلامه: «أقسم بالله العظيم اعتقدت أننا أصبحنا دولة عظمى»، ثم تأتي النكسة في سنة 1967 لتجعله يقول إن احساسه هذا كان خادعاَ، وأنه نتيجة لكثرة الدعاية والترويج الاعلامي والتأثير الخطابي، «كنا في حالة غياب الوعي التي تحدث عنها توفيق الحكيم».
«وفدية» محفوظ المعروفة جعلت البعض ينظر إلى موقفه من ثورة يوليو وزعيمها من هذا الشباك الضيق، وحتى ينفي أن تكون مؤاخذاته على الثورة وعبد الناصر نتيجة لموقف شخصي منه يقول: «لقد نلت في عهد عبد الناصر أكبر تقدير، وكرمتني الدولة على جميع المستويات بالأوسمة والجوائز ولا أعتقد أن الثورة تمنح كاتباً كل هذا القدر من التقدير ثم تشعر أنه خائن لمبادئها».
ويضيف: «رغم نقدي لسلبياتها كنت أتمتع ككاتب بحريتي في كل الأوقات، وفي حياة عبد الناصر كتبت ما أريد بكل ما أملك من أدوات التعبير»، وكتبت أشياء اعتبرها البعض جنوناً، في «ثرثرة فوق النيل» تحدثت عن عزلة الشعب عن النظام الحاكم الذي يقوم بكل شيء وكأن الشعب لا وجود له، صحيح الكلام كان على لسان «حشاشين» ولكن لم تنطل الحيلة على الرقباء والمتطوعين فحاولوا إثارة عبد الناصر، المشير عبد الحكيم عامر قال لقد تجاوز الحد ويجب تأديبه وأخبرني أحدهم أن قرار الاعتقال صدر ضدي فتدخل عبد الناصر ليوقف الإجراء.
عرف القصة من الدكتور ثروت عكاشة وزير الثقافة، والذي سأله عبد الناصر: هل قرأت «ثرثرة فوق النيل»، فأجابه الوزير: ليس بعد، فقال عبد الناصر: اقرأها وقل لي رأيك؟، ولما عاد إليه عكاشة قال له: يا ريس إذا لم يحصل الأدب على قدر من الحرية لن يكون هناك أدب، فقال عبد الناصر بهدوء: وهو كذلك، اعتبر الأمر منتهياً.
القصة يروي طرفاً منها سامي شرف مدير مكتب الرئيس عبد الناصر للمعلومات يقول: اتصل بي الفنان أحمد مظهر ليبلغني أن محفوظ يشعر بقلق شديد مما يسمعه من هجوم عليه بسبب رواية «ثرثرة فوق النيل» وأنه لا يجد مبررا لهذا الغضب الرسمي عليه، فهو ليس بأي حال من الأحوال من أعداء الثورة، وأن ما جاء في الرواية من نقد لبعض السلبيات هو نقد من داخل الثورة وليس من خارجها، وطلب الفنان أحمد مظهر من سامي شرف أن يتفضل بعرض الموضوع علي الرئيس عبد الناصر.
عرض سامي شرف الموضوع بكل تفاصيله، وطلب عبد الناصر نسخة من الرواية وقرأها، وكان موقفه أن الرواية فيها نقد، وأن النقد الذي تنطوي عليه صحيح، وأن علينا أن نعترف بوجود السلبيات التي تشير إليها ونعمل على الخلاص منها بدلاً من أن نضع رأسنا في الرمال وننكر حقيقة ما تنبهنا إليه الرواية، وكأنه غير موجود، وقال:
ـ إحنا عندنا كام نجيب محفوظ؟
قصة «الخوف» أحدثت له مشاكل، وجرت على متاعب، مثلما جرى مع قصة “سائق القطار»، يقول: حاول بعض الشانئين ومن في قلوبهم مرض أن يوقعوا بيني وبين النظام الحاكم فأشاعوا أن المقصود هو جمال عبد الناصر وهب فريد أبو حديد للدفاع عني وإنقاذي من وشايات التقارير السرية وخصص افتتاحية مجلة «الثقافة الحديثة» عن المغزى الإنساني في القصة ورفض تفسيرها الضيق.
البطل في قصة «الخوف» ضابط استطاع أن يقضي على جميع «الفتوات»، ولكنه لم يستطع أن يحقق الاستقرار والطمأنينة للناس، وقد رأي البعض أن محفوظ يقصد عبد الناصر، يقول: «أتذكر أنني بعد نشر قصة «الخوف» أوقفني أحدهم في الشارع وسألني عما قصدته في القصة، ربما كان سؤاله بريئاً، لكني كنت أتوجس خيفة».
بصريح العبارة يؤكد الأديب الكبير على أن نقده للثورة يأتي من موقع الانتماء إليها، لم أرفض الثورة مطلقاً، ولم أكتب أي عمل ضدها، كنت أوجه النظر إلى أوجه القصور والسلبيات التي تسيء إلى الثورة، ليس معقولاً أن أكون معادياً للثورة ثم أكتب في «الأهرام»، وأمنح كل هذه الفرص التي حصلت عليها.
**
العمل الوحيد الذي يمكن أن يؤخذ على نجيب محفوظ هو رواية «الكرنك» التي كتبها بعد رحيل عبد الناصر، ونشرت طبعتها الأولي سنة 1974، وكانت هي باكورة حملات صاخبة راحت تهدر على صفحات الجرائد والكتب تحاول هدم كل شيء تم في عهد عبد الناصر، واستهدفت سمعته، ووصلت إلى التشكيك في ذمته المالية، وكتب جلال الدين الحمامصي كتاب «حوار وراء الأسوار» اتهم فيه عبد الناصر بسرقة أموال تبرع بها الملك سعود بن عبد العزيز للدولة المصرية، وحينها انتفض العرب في كل مكان وكان للكويت موقف بارز ضد الإسفاف الذي وصلت إليه هذه الحملات، وقرر السادات تشكيل لجنة نظرت في الأمر، وأصدرت بيانها القاطع بكذب هذه الادعاءات وتلفيقها وفبركتها، فكتب نجيب محفوظ يبدي فرحته الشديدة ببراءة ذمة الزعيم الراحل مما نسب إليه وقال : «لقد أحزنني اتهامه، وغشيتني منه كآبة لا يعلم مداها إلا الله، حتى جاءت البشرى فغابت الغمة وتلاشى الكرب، ولقد تصديت لنقد الزعيم الراحل، ولكني نقدته وأنقده من موقع الانتماء لثورته، مقراً في الوقت ذاته بتراثه الثوري العظيم الذي حرر الفلاح كما حرر الاقتصاد القومي الذي نهض بالزراعة والصناعة، والذي فتح باب العدالة الاجتماعية على مصراعيه».
آخر ما كتبه محفوظ عن عبد الناصر في «أحلام فترة النقاهة»: «وجدتني مع الرئيس عبد الناصر في حديقة صغيرة وهو يقول: لعلك تتساءل لماذا قلَّت مقابلاتنا؟، فأجبته بالإيجاب، فقال: كلما شاورتك في أمر جاءت مشورتك بالاختلاف كلياً أو جزئيا، فخفت أن تتأثر صداقتي لك بهذا الموقف، فقلت: أما أنا فلن تتأثر صداقتي لك مهما اختلفنا».