مئوية ميلاد عبد الناصر.. والمستقبل

سينشغل البعض بتفسير ذلك الزخم الإعلامى والسياسى وأيضا الفكرى والثقافي، وكذلك الوجدانى الذى يصاحب الاحتفال بمرور مائة عام على ميلاد الزعيم جمال عبد الناصر.. وسيحلو لذلك البعض أن يذهب إلى أنه الحنين المرضى للماضي ، وأنه لون من ألوان السلفية السياسية الذى لا يقل وطأة عن السلفية الدينية، وأنه تعبير عن أزمة متعددة الأوجه تمسك بخناق المصريين فتجعلهم أسرى لتجارب ماضوية لم تخل من إخفاق وفشل وهزيمة رغم إنجازاتها، وأن هذه الأزمة لن تنتهى إلا بالقطيعة الكاملة مع البنية السياسية والفكرية التى ارتبطت بها تلك التجربة، وأغلب ظنى أن ذلك الانشغال سيتحول إلى حملة مضادة أو غارة شرسة تستخدم فيها كل عيارات الذخيرة السياسية من تشكيك وتهوين، وربما إسفاف وبذاءة، لأن هناك جهات من المؤكد أنها انزعجت وهالها هذا الميلاد المتجدد لمن وما اعتبروه كابوسا كان جاثما على صدورهم وصدور آبائهم وأهلهم من قبل، ومما يزيد انزعاجها وهولها هو أنها لم توفر مالا ولا جهدا ولا تواطؤا ولا باطلا ومغالطة إلا وبذلته فى سبيل الاغتيال النهائى لشخصية وفكر ومنهج وسيرة جمال عبد الناصر، بعد أن رحل شخصه منذ ما يقرب من نصف قرن!

وعادة ما لا يملك أولئك المنزعجون المذعورون القدرة الفكرية ولا اللغوية على صوغ المادة الإعلامية التى ستفصل المقولات التى بدأت بها هذه السطور، ومن ثم فسوف يلجأون إلى استئجار الأقلام والأسماء التى ستقوم بالمهمة، وقد يصل الاستئجار إلى مستوى زواج المتعة بين الطرفين.. يعنى مهمة ذات غطاء شرعى يقوم على القبول والإيجاب، لأن للطرفين مصلحة فى المهمة، ولأن بعض الأقلام يدرك أصحابها أن تسويقهم لبضاعتهم مرتبط برضا ومشاركة أولئك الذين لهم ثأر بايت مع ثورة يوليو وعبد الناصر!، وكلما اشتطوا فى التهجم وسبك الحيثيات ازدادت المكافـأة، حتى وإن لم يقدموا جديدا، لأن كل ما كان يخطر على خيال تلك الفئة من تهجم وحيثيات إدانة واتهامات ليوليو وناصر والقومية والعروبة والتحرر، تم إفراغه فى كتابات وندوات ومؤتمرات وإذاعات وتليفزيونات منذ منتصف السبعينيات وحتى عدة أسابيع مضت، عندما قرأنا لكاتب عمود فى إحدى الصحف الخاصة- وصفته منذ فترة بأنه مجهول النسب الاجتماعى والفكري- هجوما على جمال عبد الناصر، لأن الدكتورة هدى عبد الناصر ردت على بعض ما جاء فى مذكرات عمرو موسي!!

وفى ظنى أن آخرين مطالبون برؤية مختلفة لذلك الزخم الإعلامى والفكرى الذى يصاحب هذه المئوية، وتلك الرؤية تستهدف سد الثغرات بين ما بلورته دروس التجربة الناصرية على كل الصعد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والفكرية، وبين متطلبات الحاضر والمستقبل فى مصر والأمة العربية، لأن هناك ما يؤكد استمرار المنطلقات التى انطلقت منها تجربة يوليو وفكر ورؤية عبد الناصر، ومحتمل أن تبقى لأمد يطول، لأن الواقع الجغرافى والجغرافى السياسى والتاريخى والاستراتيجى الذى أفرزها مازال قائما لم يتغير.. ناهيك عن أن التحديات التى جاءت منذ تحددت ملامح الصراع بين قوى التحرر الوطنى العالمى وبين قوى الاستعمار، هى تحديات قائمة، وإن تبدلت أولوياتها وتعدلت بعض ملامحها، ويؤكد ذلك أن القوى الاستعمارية الإمبريالية وضمنها الدولة الصهيونية لم تغير رؤاها ولا استراتيجياتها منذ أمد طويل، ولمن يستخف بذلك أرجوه أن يتأمل مسلك الإدارة الأمريكية، وخاصة الرئيس الأمريكى المعبر الشرعى عن سياسات وتطورات إدارته، الذى لم يتورع عن ممارسة خطاب سياسى وإعلامى بالغ الدلالة على مدى استمرار العقلية الاستعمارية الاستعلائية!.. ومن هنا تبقى التحديات التى واجهتنا فى مسيرتنا الوطنية قائمة، وإن حاول من حاول أن يزعم تغير العصر وأنه لا مجال للحنجورى فى إدارة علاقات مصر الدولية. إن قضايا من قبيل علاقة مصر بالعمق الإفريقي، وعلاقتها بالشرق- أى الهند والصين وشرق آسيا- وأيضا بروسيا، وعلاقتها بتجمعات دولية فى أمريكا الجنوبية لا تزال قضايا مفتوحة وأكثر إلحاحا، وليست صدفة أن يكون لمصر فى الحقبة الناصرية خيوط شديدة القوة مع تلك الجهات فى إفريقيا ووسط شرق آسيا وفى أمريكا الجنوبية، ومن أسف أنه فى الفترة التى استمرت من بعد أكتوبر 1973 وإلى نهاية عهد مبارك تم تقليص دور مصر، وحلت محله أدوار أخرى منافسة فى مقدمتها الدور الإسرائيلى الصهيونى الذى لم يفلت الفرصة، وكان له الوجود المكثف فى دول إفريقية وله علاقات متنامية مع الهند ومع الصين، بعد أن كانت تلك الساحات تعتز بالعلاقات القوية مع مصر عبد الناصر!، وعندئذ يصبح الانشغال بالمستقبل هو الأمر الصحيح عند تأمل ذلك الزخم الإعلامى والفكرى الذى يصاحب مئوية ميلاد جمال عبد الناصر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى