عبد الناصر اسهم في اطلاق محور عدم الانحياز وصعود حركات التحرر العالمية

 

جاءت قوة الدبلوماسية والسياسة المصرية في عهد عبد الناصر انعكاسًا طبيعيًّا لنهضة مصر على مستويات عدة، كان أولها المستوى الاقتصادي، الذي استطاعت الإدارة المصرية وقتها رفعه في مدى زمني قصير، فحقق قفزة إيجابية للنفوذ الإقليمي والدولي المصري، كما فعل لكامل المنظومة السياسية المصرية، وهي منظومة استطاعت خلال سنوات قليلة أن تكون رقمًا صعبًا في موازين القوى الدولية ومعادلات الصراع على النفوذ، مع سياق دولي وإقليمي، شهد صعود التحرر الوطني وسقوط قوى الاستعمار القديم.

على خُطى فكرة الرئيس جمال عبد الناصر نفسه حول الدوائر الثلاثة التي تقوم فيها مصر وتتماس معها، عملت السياسة الخارجية المصرية في المستويات العربية والإفريقية والإسلامية، استنادًا إلى قوة الدولة المصرية ذاتها، التي توازى إمساكها بمواردها الاقتصادية وتجميع فائض ثروتها وتوجيهه نحو التنمية مع مسار آخر، وهو حيازة القوة العسكرية وإقامة منظومة للعمل الأمني والاستخباري، بالإضافة إلى منظومة إعلامية ودعائية، قامت على أساس فكري يدعمه الواقع، المتمثل في التحرر الوطني ومعاداة الاستعمار ودعم القومية العربية؛ وانطلاقًا من تلك البنية المتكاملة نشطت الدبلوماسية المصرية في فضاءات عديدة، لم تُستثنَ منها أوروبا والولايات المتحدة، الخصوم التقليدية لمصر في ذلك العهد، فاستطاعت السياسة الخارجية المصرية، بالتكامل مع كامل المسار المصري متعدد الأوجه، أن تدّعي وقتها، عن حق، تمثيل مصالح عدد من شعوب العالم والدفاع عنها، فضلاً عن ردع ومناورة الضغط الغربي المستمر و”الحرب الباردة”، التي لم تتوقف ضد مصر حتى يونيو 1967، فكيف تمّ هذا التمثيل؟

منطلَق أممي

دائرة أوسع من الدوائر الناصرية الثلاث وأقدم من حيث الفاعلية المصرية فيها، كانت دائرة ما أُطلق عليها “دول عدم الانحياز”، التي لم تكن حقيقة سوى من “دول الجنوب” في العالم، التي تعرّضت للنهب والإفقار على نحو مكثّف في العهد الاستعماري العالمي، وضمّت في اجتماعها الأول 29 دولة إفريقية وآسيوية بشكل رئيسي، في اجتماع باندونج بإندونيسيا عام 1955، بعد تطوير مبدأ الحركة والاجتماع، نفسه، على يد جمال عبد الناصر ونهرو الزعيم الهندي وتيتو الزعيم اليوغوسلافي، وشملت الدائرة الأوسع تلك الدوائر الثلاثة التي تصوّرها عبد الناصر انطلاقًا من الواقع المصري بخصوصيّته، وكفلت لمصر إيجاد نقاط للقوة والنفوذ القائم على التعاون والمصالح المشتركة في عموم إفريقيا وآسيا، بشكل فتح آفاقًا لتطوير نظرية الدوائر الثلاثة نفسها، وأمدّها بأساس واقعي وعام، فلم يتشكّل اتحاد لدول إفريقيا، التي تأخّر استقلال أغلبها كثيرًا مقارنة بمصر، إلا عام 1963، ولم تتشكل منظمة المؤتمر الإسلامي، التي سُمّيت بالتعاون الإسلامي لاحقًا، إلا عام 1969، وكان لمصر دور تأسيسي قائد في الحالتين.

مصر العربية المشرقيّة

بموازاة تكوين كتلة عدم الانحياز في ذلك العام، كانت مصر تتمدد غربًا وشرقًا، ويغطّي تمددها عمل سياسي ودبلوماسي مكثّف، بما يضمن تحصين موقفها عالميًّا وفي أروقة منظمة ذات طابع استعماري، هي الأمم المتحدة، نحو الغرب، وبالانعكاس على كامل شمال إفريقيا، دعمت مصر الثورة الجزائرية لوجيستيًّا وسياسيًّا، ونجحت في الدفاع عن مشروعية ذلك دبلوماسيًّا، بكفاءة تامّة، ليس فقط بالبناء على “شعار” حق الشعوب في تقرير مصيرها، وإن حضَر ذلك، بل في الأساس بالاعتماد على شبكة كاملة من المصالح الشعبية للدول المستعمَرة، تشكّلت وتبلوَرت فاعليتها في باندونج، ومن الشرق، شهد ذات العام هجومًا صهيونيًّا كبيرًا على غزة والحامية العسكرية المصرية فيها، ليحسم السؤال الذي تردد وقتها داخل النظام المصري الجديد حول نوايا الكيان الصهيوني والكيفية المناسبة للتعامل معه، فتمّ تشكيل وتسليح وتدريب أول كتيبة منظّمة للمقاومة الفلسطينية المسلحة فيما بعد 1948، على يد المخابرات المصرية المُنشأة حديثًا، التي تولّت مهمّة التخطيط، وقام الفدائيون الفلسطينيون بعمليات مؤثرة، استهدفت قوى العدوان الصهيوني في عمق الأراضي الفلسطينية المحتلة، مما كفل ردع الخطر الصهيوني عن الحدود المصرية وصعود قوة مصرية جديدة نحو الشرق وإقليم الشام، أحد أهم الامتدادات الاستراتيجية الحيوية لمصر.

بعد فشل عدوان 1956 أثمرت المقاومة المصرية، العسكرية والسياسية، نفوذًا سياسيًّا طاغيًا في عموم الوطن العربي، بلغ الشعوب المحكومة بالملَكيّات المعادية تقليديًّا لجوهر المشروع الناصري وأهدافه، وجاءت الأزمة اللبنانية عام 1958 بين مؤسسة الرئاسة (وعلى رأسها كميل شمعون) وقطاع غالب من الشعب اللبناني ومعه القوى الوطنية اللبنانية، انعكاسًا لهذا النفوذ، الذي فشل حلف بغداد في الخصم منه حتى قبل المتغيّر العراقي الكبير بسقوط الملكيّة الموالية للغرب هناك وحيازة الضباط الوطنيين للسلطة، فكانت حركة يوليو 1958 في العراق في ذاتها صدى منطقيًّا لقوة السياسة المصرية وشعبيّتها الجارفة، وللوحدة الاندماجيّة بين مصر وسوريا، التي لم يفهمها شمعون إلا بمنطق التهديد لحكمه، بصفته مواليًا للمحور الغربي، مما دفع الولايات المتحدة لإنزال عسكري عاجل على شواطئ لبنان، بالتنسيق مع شمعون، في اليوم التالي لسقوط فيصل العراق، بعد اتضاح فشل وانهيار حلف بغداد.

مصر الإفريقية

في الدائرة الإفريقية كان دعم مصر للتحرر الوطني الإفريقي، سياسيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، مقدمة منطقيّة لوصول القوة المصرية إلى منابع النيل، دفاعًا عن مصالحها الحيوية وتحقيقًا لمصالح مشتركة، يفرضها الواقع، مع دول إفريقيا.

كانت البداية “العملية” الأبرز عام 1958 بتأسيس شركة النيل للتصدير والاستيراد، التي حققت بأعمالها في إفريقيا هدفين بالغي الأهمية: الأول إقامة علاقات اقتصادية تعاونية وفتح أسواق مشتركة في إفريقيا، القارة ذات الإمكانات والثروات المنهوبة استعماريًّا، والثاني الحضور السياسي متكاملاً مع الحضور الأمني والاستخباري، وأثمر الأخير وقاية واستعدادًا عاليًا بخصوص أخطار أمنية وعسكرية صهيونية خُطط لتسللها إلى مصر من الجنوب، مما أثبت استراتيجية الرؤية المصرية حين دفعت بشركة مملوكة للدولة، أصبحت فيما بعد شركة عملاقة، تقيم نشاطًا اقتصاديًّا، وتغطي حضورًا استخباريًّا، على أي حال لم يثمر الحضور المصري في إفريقيا ودعم شعوبها في سبيل تحررها من الاستعمار مصالح مصرية حصرًا، واضطلع الاقتصاد المصري بدور تنموي هام في دول إفريقيا، وكان فارقًا بتوقيته الطليعي المبكر، مما أثمر، تلقائيًّا، نفوذًا مصريًّا لدى شعوب إفريقية عديدة، تطلعت إلى مصر كقوة عادلة حليفة، مما كفل التعاون معها تحقيق مصالح مشتركة ضد عدو مشترك، هو الاستعمار ومنظومته الاقتصادية والسياسية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى