قصة قصيرة.. وادي الصراخ

قصة : د. سناء الشعلان

 

 

كان اسم المكان منذ سنين طويلة هو”وادي الرّمان”، ولكنّ منذ جاء الجدار العازل، وجرّف أراضي الوادي، وقلع أشجاره، وجعله بائداً خاوياً على عروشه أصبح أرضاً فاصلة بين طرفي البلدة التي أصبحت بلدتين صغيرتين بعد أن كانت بلدة واحدة ذات تاريخ طويل موغل في القدم،فغادرت البلابل الوادي بعد أن خسرت أعشاشها الوارفة في حقول أشجار الرّمان، وحمل الوادي متفجّعاً محسّراً اسم”وادي الصّراخ” حين أصبح ملعباً للأصوات المتناجية عبر الجدار العازل حين حرُمت اللّقاء أو المشاهدة أو الحديث عن قرب.

الفلسطينيون أسموه “وادي الصّراخ” تخليداً لمعاناتهم اليوميّة في الصّراخ عبر أراضيه للحديث عن أيّ أمر في ضوء حرمانهم من لقاء أو تواصل،غدا الصّوت هو ألسنتهم ووجوههم وجلودهم وقلوبهم وأطرافهم وأزمانهم ومسافاتهم وآمالهم، ففي هذا الوادي تُسمع الزّغاريد والتّرانيم والأشواق والأخبار والنّكات والأدعيّة والآيات القرآنيّة بل وبعض المقطوعات الموسيقيّة يتبادلها الفلسطينيون الذين حرمهم الجدار من حقهم الإنسانيّ المتواضع في أن يوسدوا يداً إلى يداً،وقلباً إلى قلب،وعيناً إلى عين، وأن يديروا أيّ حديثٍ إنسانيّ مهما كان محدوداً وقصيراً، ولذلك غدا الصّراخ عبر مسافة فاصلة طويلة آخر ما يملكون من حقّهم المهدور الفاني.

في الوادي تُسمع أمّاً تحدّث ابنتها التي فصل الجدار بينهما، وعجوزاً أكلتها سنوات الضّنى والمعاناة تدعو لابنها بالعودة إلى بيته، ويعبق الدّمع في عيني من يسمع صوت طفلة صغيرة تطلب من والدها أن يعيدها إلى بيتها بعد أن علقت خارج الجدار في رحلة زيارة لدار عمومتها، وتبكي له متوسلّة أن يأخذها معه،وأن لا يردّها خائبة وحيدة، فيغرق الأب في نشيج موصول متحشرج لا يملك قوة فيه ليصوغ لها وعداً جديداً يصبّرها به،وهو يعلم أنّ تحقيقه بعيد عسير، وفي أقصى الوادي في أقرب نقاطه من السّياج الشّائك يقف صالح ملويّاً متكئاً على عكازين خشبيين ينغرزان في تجويفي إبطيه،وهو يكابد نفسه كي تنتصب واقفة، ولا تسقط إعياءً بعد رحلة كادحة من بيته حتى الوصول إلى الجدار، وهي رحلة تقتضيه زمناً أكثر من ساعتين،وإن كانت تنقضي في عشر دقائق لماشٍ بحزم وقصد،ولكنّه بالكاد يستطيع أن يجرجر نفسه ليصل إلى هنا،ويدسّ نفسه بين جموع الصّارخين، ثم ينتبذ بصعوبة أقصى الوادي ليكون في أقرب نقطة ممكنة للصّراخ المسموع من هدى تلكم الملاك الحمائميّ الأبيض الغارق ليل نهار في نقيع الموت هناك في مستشفى الهلال الأحمر في مخيم الدّهيشة حيث قابلها أوّل مرّة.

هدى تكبره بأحد عشر عاماً، ولكنّ جسدها النّحيل وعينيها الغائرتين في جمجمتها الصّغيرة، ويديها الصّغيرتين بقدر حفنة لوز أخضر،وابتسامتها الخجولة، وزيّها الأبيض ذا الياقة المرتفعة،تجعلها تبدو أصغر من عمرها بعقد كامل،بل تبدو أحياناً أصغر منه سناً ببضع سنين، ليست جميلة بمقاييس الجمال الباذخة التّسويقيّة التّسليعيّة، ولكنّها آسرة الجمال بمقاييس الجمال الرّوحيّ،حيث طيبتها البيضاء، وقلبها الوردّي،ونفسها المنسرحة دائماً في عون مبذول دائم لكلّ من يطلب عونها لاسيما من المرضى والجرحى الذين تعجّ بهم المستشفى،لذلك يراها صالح حمامة فلسطينيّة بيضاء خُلقت كي تهدل بالتّسبيح للرّب والوطن والإنسان ليل نهار.

كان يتمنّى لو أنّه قابلها هناك في جامعته في القدس القديمة حيث كان شبلاً جسوراً لا يعرف خوفاً أو ضعفاً أو جبناً،كان الأوّل في تخصّصه في الجامعة، والأوّل في برّ والديه العجوزين، والأوّل كذلك في صفوف المتظاهرين والمحتجّين على استبداد الصّهاينة، ولكّن حظّهما غير الموفور جعلهما يلتقيان في أضعف حالاته، وأشدّها عوزاً للشّفقة والرّحمة والعون؛طلقة جرثوميّة واحدة من بندقّية مستدمر( ) صهيونيّ أصابته بالشّلل الدّائم، وبحشد من أمراضّ الدّم السّرطانيّة الدّائمة، أشهر طويلة قضاها هناك على سريره في المستشفى أعزل من كلّ شيء سوى قلبها الكبير، ورعايتها التي لا تعرف فتوراً أو انقضاء أو رحيلاً.

لم يكن في حاجة إلى أن يخبره أهله على جرعات من الحياء والحزن والعطف أنّه أصيب بالشّلل الدّائم، ولن يسير أبداً على قدميه؛فهو يعرف هذه الحالة تماماً، ولطالما رآها في صفوف أصدقائه وأترابه وجيرانه من أبناء الشّعب الفلسطينيّ، كان يعرف أنّه سيظلّ عاجزاً إلى الأبد على الرّغم من دعاء أمه الموصول له بالشّفاء والصّحة؛فطلقات العدو الصّهيونيّ لا تنصاع أبداً لأيّ دعاء أو استجداء أو استرحام، ولكنّه كان يعرف أنّ تلكم النّظرات التي تمطره بها الممرضة هدى ليست نظرات شفقة أو رحمة أو واجب كما كان يصرّ عمّه أبو حسين المرافق له في المستشفى ليل نهار على تسميتها، فقلبه الذي لم يكن قد قرع بعد قرعات العشق،يستطيع أن يدرك أنّ هناك ناراً مقدّسة مشتعلة في قلبها كما هي ذات أوار حارق في قلبه الصّغير العشرينيّ الذي لم يذق من السّعادة إلاّ النّزر منها في مخيمه الغارق في العوز والكدّ والاكتظاظ والأحلام التي لا تتحقّق.

عندما أخبر أهله بنيته بالزّواج منها،وقفوا مشدوهين، ثم عاجلوا قلبه بنخزة لئيمة على شكل تشكيك بأن تحبّه هذه الممرّضة العفيّة، وهو العاجز كلّياً حتى عن ضبط بوله فضلاً عن عجزه عن الحركة أو عن أيّ سلوك طبيعيّ فطريّ كمضاجعة جنسيّة مثلاً.ولكنّه أكّد لهم أنّ حبّهما أكبر من التّوصيفات الاجتماعيّة والمعطيات الوضعيّة، باختصار هو يعشقها، وهي تعشقه، ومن يعشق لا يعرف مستحيلاً أو مانعاً، ولذلك سيكون معها إلى الأبد، وهي قرّرت صراحة وبوضوح أن تكون معه حتى آخر لحظة من حياتها،مضحّية بحقها في الجنس أو الإنجاب انتصاراً لقلبها على مطالب جسدها وحياتها وعالمها.

رثى أهله لسذاجة ثقته في هذا العشق المأمول، وتركوا الأمر للوقت ليداويه بطريقته، وكثيراً ما تكون مداواته مؤلمة وكاوية، ولكّنهم تفاجأوا عندما علموا علم اليقين أنّ الممرضة هدى توافق على هذا الزّواج، وتعدّه الكفيل الأوحد لسعادتها، وباركوا هذا الزّواج بحملة تبرّعات من الأسرة لجمع مهر العروس، فجمعوا بصعوبة ألف دولار كي تكون أوّل عون لهما على الزّواج، وكاد الأمر يتمّ في القريب بعد أن غادر صالح المستشفى، وعاد إلى بيته لاستكمال تجهيز غرفته في بيت أمّه حيث سيكون عشّ الزّوجيّة المنتظر.

وجاء الجدار العازل في ليلة وضحاها ليحبسه في بيته، ويحبس حبيبته في مستشفاها بعد أن قطع الطّريق بينهما، وجعل الأرض أرضين، وصنع بينهما برزخاً من الحرمان والقطيعة، ليكون كلّ منهما حبيساً خلف جهة من الجدار، حاول دون جدوى أن يستقدم حبيبته إليه، أو أن يذهب إليها عبر تصاريح علاج يحصل عليها بمعونة الصّليب الأحمر،ولكنّه ما فتئ يخفق في ذلك المرّة تلو الأخرى،حتى أدرك أنّه حُرم من هدى إلى الأبد.

الطّريقة الوحيدة للتّواصل معها كانت عبر الصّراخ في واديه الحزين، تأتي هي كلّ صباح،ويجرّ نفسه منذ الفجر حتى يصل إليها في الموعد المضروب كي يقف مهدوماً على عكازه بالقرب من الجدار الشّائك،ويصرخ بأعلى صوته: “هدى” أنا أحبّكِ…كِ…كِ”.

فتردّ عليه بجرأة عاشقة لا تعرف خوفاً، ولا لومة لائم في عشقها: “وأنا أحبّك أكثر يا صالح”.

فيسألها بلذّة من يطرح سؤاله الشّهي الحلو لأوّل مرّة:” هل تقبلين بالزّواج بي؟”

فتردّ عليه بفرحٍ شقيّ مرح:” نعم، أقبل بالزّواج بكَ”.

يسعد صالح بموافقتها، وكأنّها يسمعها لأوّل مرّة في حياته، ويشدّ على الألف دولار التي يدفنها في عميق جيب بنطاله الكتّانيّ القديم، فلا تفارقه ليل نهار على أمل أن ينقدها في القريب المداهم لحبيبته مهراً لها، ويبتسم وهو يحلم بملاكه الأبيض وهي ترتدي ثوب الزّفاف الأبيض، وتجري نحوه دون جدار عازل جبّار لا يرحم قلب عاشقين، ويصرخ بعقيرة مشدودة كوتر قوس متحفّز للانطلاق:” هدى” أنا أحبّكِ…كِ…كِ”

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى