الذكرى الـ22 لاستشهاد الاسطورة يحيى عياش

 

عياش، وحدك يا مهندس المجاهدين تعلو، ترحل إلى الشمس، تمضي إلى قسمات الوجوه، ترتسم على أسارير العائدين، تجمع في كفك المباركة خيوط البطولة والحماس والشهادة، وتصنع بعبقريتك وإبداعك وإرادتك نسيج الأمل العريض، لتفرشه في الشوارع، وفي الحارات، توزعه في تلك الساحات وتحيك منه لكل فتى كوفية حمراء كالتي زينت بها صدرك يوماً، لتكن له وشاحا وضمادة جرح لإكمال مسيرة التحرير.

ميلاده ونشأته

في 22 اذارعام 1966 أطل يحيى عياش إلى الدنيا في قرية رفات قضاء سلفيت، كانت أسرته قد اختارت له اسم يحيى، ولم تكن تعلم أن همة هذا الشبل ستحيى قضية كادت أن تموت، نشأ عياش وتربى على طاعة الله في بيت متدين فخور بعقيدته، وبدا واضحاً منذ نعومة أظافره تمتعه بالذكاء والعبقرية، فقد بدأ بحفظ القران الكريم في السادسة من عمره، حتى أتمه في سن مبكر، ولهذا صمم والده على أن يواصل مسيرته التعليمية، خاصة بعد أن تفوق بحصوله على مرتبة متقدمة بين الأوائل في الثانوية العامة، بعدها تقدم بأوراقه لجامعة بيرزيت في قسم الهندسة الكهربائية قسم الإلكترونيات، ودفعه لذلك حبه وتعلقه بدراسة الكيمياء التي أبحر فيها، وكان خلال دراسته أحد النشطاء الفاعلين للكتلة الإسلامية .

تزوج من ابنة عمه وأنجب منها البراء ويحيى، حاول إكمال دراسته العليا في الأردن إلا أن سلطات الاحتلال رفضت إعطاءه تصريح، الأمر الذي ندم عليه فيما بعد رئيس جهاز المخابرات آنذاك، فعقب قائلا: “لو كنا نعلم أن (المهندس) سيفعل ما فعل لأعطيناه تصريحاً، بالإضافة إلى مليون دولار”.

جهاده وعملياته

مع بداية انتفاضة الحجارة، أرسل عياش كتابا لكتائب القسام يوضح لهم فيها خطته لقتال الصهاينة، وذلك عبر العمليات الاستشهادية، فأُعطي الضوء الأخضر للبدء بالتنفيذ، لتصبح بعدها مهمة عياش إعداد الاستشهاديين والسيارات المفخخة.

في 22 تشرين ثاني 1992 وبعد اكتشاف سيارة مفخخة في إحدى ضواحي تل أبيب، أدرج عياش على قائمة المطلوبين للمرة الأولى، وكانت هذه أول عملية يشرف المهندس على إعدادها.

بعدها أدرك جهاز المخابرات الداخلي الصهيوني “شين بيت” بمسؤولية عياش وراء مقتل عشرات الصهاينة بعملياته التي أشرف عليها، وُضع اسم يحيى عياش كمهندس للعبوات المتفجرة والسيارات المفخخة في 25 نيسان 1993.

عمل يحيى على تطوير أسلوبه في العمليات الاستشهادية عقب مذبحة المسجد الإبراهيمي في فبراير 1994، ففي اليوم الأربعين للمجزرة كان الرد الأول، حيث فجر الاستشهادي رائد زكارنة حقيبة المهندس في مدينة العفولة ليقتل 8 من الصهاينة ويصيب العشرات، لتتوالى بعدها العمليات، فيفجر الاستشهادي عمار عمارنة نفسه بعد أسبوع تقريبا ليقتل 5 صهاينة، وفي 19 أكتوبر من ذات العام، قام الاستشهادي صالح نزال بتفجير نفسه وسط تل أبيب ليقتل 22 صهيونيا.

بعد توالى تلك العمليات وسطوع نجم يحيى عياش، اعتبرته حكومة الاحتلال المسؤول الأول عن قتل اليهود في فلسطين المحتلة، ليصبح بعدها المطلوب الأول لديها.

بعدها قرر عياش نقل نشاطاته إلى غزة وذلك بعد نجاحه في الوصول إليها متنكرا عبر حواجز الاحتلال، وذلك بعد أن كثفت حكومة الاحتلال من ملاحقتها له، واعتقال كل من ارتبط به وشاهده.

رعبٌ للاحتلال وقادته

تحول المهندس عياش إلى كابوس يهدد أمن دولة الكيان وجيشها، حيث بلغ الهلع ذروته حين قال رئيس وزراء الكيان السابق عنه إسحق رابين: “أخشى أن يكون عياش جالسًا بيننا في الكنيست”.

كما وصفته وسائل الإعلام العبرية بعدة أوصاف، كان منها “الثعلب” لذكائه ودهائه في إرعاب الكيان، و”الرجل ذو الألف وجه”، وذلك لقدرته على التخفي والتنكر والإفلات من المطاردة، كذلك أطلقت عليه وصف “العبقري”، وذلك لبصمته الذكية في توظيف الأدوات البسيطة في إعداد العبوات المعقدة.

اختلاف بيئات أم اختلاف إرادات؟

مثلت نهضة المهندس ثورة هادرة اجتاحت القلوب من المحيط إلى الخليج، كان وحده أمة، قاتل كأنه جيش عرمرم، لا يعرف الانكسار أو التقهقر، كانت الضفة الغربية تعيش في واقع مشابه لما هي عليه اليوم، فشامير كان يقول: “الفلسطينيون اندمجوا في سوق العمل الإسرائيلي، والحواجز الأمنية تنتشر على طول مساحة الضفة المحتلة”، وابتزاز الناس بالتصاريح كان يمثل ظاهرة كما هو اليوم، وأكثر من ذلك؛ فقد تشكلت روابط بين القرى والعدو لتسهيل مهامه في الضفة وعمل البعض كوكيل للاحتلال فيما يشبه اليوم التنسيق الأمني، كظاهرة لا تقل خطورة عن روابط القرى يومئذ.

إذن فواقع عام 1993 هو نفسه واقع عام 2018 وإن اختلفت على الفلسطيني المسميات، فما الذي تغير فعلاً؟ إنها ولا شك الإرادة الحرة التي كان يتمتع بها عيّاش، كان يقاتل كأن فلسطين ملك له وحده، لا يتراجع ولا يلتفت للوراء ولا يقف في الصف الأخير، كان في المقدمة دائما، يبتكر أسلوبه الخاص ويبدع وسائله التي تناسب مرحلته وزمنه، وهذا ما ينقص الضفة اليوم، منهج عياش وطريقة عياش وإرادة عياش لا وسائله وطرائقه التي تتغير بتغير الزمان والظروف.

استشهاده

في مثل هذا اليوم اغتيل عياش، يوم الجمعة 5 يناير 1996م، وذلك بعد أربعة سنوات من وضع حكومة الاحتلال برئاسة رابين ملف تصفية المهندس على رأس أولويات حكومته السياسية والأمنية.

فقد تمكن جهاز الشاباك من وضع مادة متفجرة وصلت إلى 50 جم في تليفون محمول لأحد أقاربه، وكان يأخذ التليفون منه ويعيده إليه فشك عياش يوماً في احتمال وضع الشاباك لجهاز تنصت في التليفون ففكه ولم يجد شيئاً، إلا أنه وفي يوم الجمعة الخامس من كانون اول عام 1996 وفي بلدة بيت لاهيا شمال قطاع غزة، كان عياش على موعد مع مكالمة من والده صباح ذلك اليوم، وبسبب انقطاع الخط الأرضي اضطر والده للاتصال عبر التليفون المحمول، وعن بعد تم تفجير التليفون عن طريق طائرة كانت تحلق في نفس الوقت، فاستشهد يحيى على الفور.

في يوم شتوي بارد ارتقى عياش، إلا أن لهيب استشهاده طال كافة المدن الفلسطينية فعمّ الإضراب الشامل مدينة القدس وضواحيها، وألصقت صوره في الشوارع، كما وقعت صدامات ومواجهات عنيفة بين المتظاهرين وجنود الاحتلال، بينما شهدت مدينة رام الله أيضاً إضراباً عاماً ومسيرة جماهيرية حاشدة في صباح يوم السبت، شارك فيها أكثر من 30 ألفاً رددوا الهتافات والشعارات الوطنية، وأحرقوا الأعلام الإسرائيلية.

عياش الفكرة

إن عياش لم يكن حقبة زمنية عابرة في تاريخ الشعب الفلسطيني، بل هو فكرة عابرة للأجيال متوطنة في ضمير هذا الشعب الحي والذي يبدع في كل يوم ويبتكر وسائل النضال وأدواته الخاصة به في مقاومة الاحتلال، عياش وإن رحل جسده، فإن منهجه وفكره وعقيدته وإرادته تسري في شريان هذا الشعب المقاوم، وقد صدق الرنتيسي الشهيد حين قال:

عياش حيٌ لا تقل عياش مات      أو هل يجف النيل أو نبع الفرات

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى