في ذكرى.. غيابه

بقلم : إنصاف قلعجي

كم تبدو الحروف موجعة حين يغطّها القلم في نزيف الجرح، حين تحملنا الذاكرة الحيّة أو الوجدان المكلوم إلى تلك الأيام. يا لتلك الأيام كم حملت لنا من الكبرياء والشموخ.

سأترك ذاك القلم، وتلك الحروف النازفة، وأقتبس بعض ما كتبه الصديق الصحافي العراقي علي الصراف في مقدمته لمذكرات الشهيد صدام حسين بعنوان:” صدام حسين.. السطر الأول من كتاب الأسطورة”.

والصراف، كاتب سياسي وصحافي، “كان معارضا بارزا للرئيس صدام حسين لعدة عقود، لكنه بعد الاحتلال، وقف علنا ليقول بشجاعة وشرف وانحياز مطلق للوطن وللشعب وللضمير، إن كل مواقفه ضد صدام حسين وكل معارضته له وعمله السياسي ضد نظام الحكم الوطني الذي قاده، كان خطأ كبيرا. وعبّر عن ذلك تعبيرا واضحا وجميلا وجريئا في عدة مقالات مهمة منها (رسالة اعتذار إلى دكتاتور رائع، وعشرة أسباب لإعدام صدام وسبب واحد لإبقائه حيا) ومنها هذه المقالة”.( من مذكرات الشهيد صدام حسين ).

يقول الصراف في”رسالة اعتذار إلى دكتاتور رائع”:…. لقد غادرتُ العراق منذ أن أصبحتَ رئيسا. كنت أقول، ممازحا، إن هذا البلد لا يمكنه أن يتحملنا معا. فإما أنا وإما أنت. وكنت ما أزال شابا، فيه من الحماقة أكثر مما فيه من النضج. وفيه من الجهل أكثر مما فيه من المعرفة. وبطبيعة الحال، فقد كنت أقول”.. ومن أنت؟” الآن فقط، أشعر كم أن كلاما مثل هذا، قاس ومروع. والآن أقول”بخجل”.. ومن أنا؟….. سهل جدا القول، إن هؤلاء كانوا هم السبب في تحويلك إلى فرعون متجبر، أو إنهم هم الذين يتحملون جملة الأخطاء التي ارتكبت في هذا الشأن أو ذاك. ولكن ذلك لا يعفيك أبدا من المسؤولية عنهم. فقد كنت أنت نفسك تفترض أن “أهل الولاء” يجب أن يكونوا أقرب إليك من “أهل الخبرة”….. بيد أني، وأنا أنظر لعراق السبعينات والثمانينات من هذا المرتفع الزمني، أدرك أنك كنت تعمّر شاهقا، كانت لديك رؤية خارقة لما يجب أن يكون عليه عراق المستقبل. أشعر أنك كنت عراقيا أكثر من ملايين العراقيين. قسوة نظامك حالت دون أن نرى ما كنت تراه، ربما، ولكنك كنت تمضي قدما…”.

وأعود إلى مقدمة المذكرات وهي بعنوان: صدام حسين.. السطر الأول من كتاب الأسطورة. يقول الصراف:

” ما كان لمحاكمة رجل، تضاربت فيه التصورات والأقاويل، إلا أن تكون شاهدا تاريخيا آخر على تلك القسمة الأبدية بين الحق والباطل.

كان هناك الكثير من وقائع حياة هذا الرجل التي يمكنها أن تدل على معدنه و”طينته” وتكشف عن جذره وجذوته، إلا أن صدام حسين لم يكن واضحا وجليا، في تلك الطينة والجذوة، بقدر ما كان واضحا في سجنه وجليا في محاكمته. هناك، فقط، ظهرت حقيقة الرجل عارية كما جبلها الله في روحه. هناك، فقط، ترك الرئيس هيبة منصبه ليكسب هيبة البطل الأسطوري الذي ما بعده بطل. وهناك ظهر”الدكتاتور” على حقيقته!

ولقد كان دكتاتورا عليهم بشموخه وأنفته وكبره على السلاسل والأقفاص والقيود. يدخل عالي القامة، ويخرج أعلى قامة مما دخل…. ولم يأخذه موت.. كان الأ مر مجرد خدعة صورية، لا أكثر. نعم، وقف أمام حبل المشنقة، ونطق بالشهادتين. ونعم، رأيناه يتقدم مكشوف الرأس، مفتوح العينين، ليرتدي ربطة عنق، خشنة قليلا. ونعم، رأينا الجسد ينزل، ثم الجثمان ممددا. ولكن ابتسامته الأخيرة قالت كل شيء.

كان يعرف أنها السطر الأخير في كتاب المناضل والرفيق والرئيس والقائد والأب، ولكنها أيضا، السطر الأول في كتاب الأسطورة.. ومثلما خدعنا ب”دكتاتوريته”، إذ لم يكن على وجه الحق إلا شديد بأس، فقد خدعنا في”موته”. فهو لم يمت. خطا خطوة.. وابتسم، وانتقل إلى رحاب أخرى، مثلما يصعد المرء سلّما. وكأن المسافة بين الحياة والأبديّة ليست أكثر من تلك العتبة.

نزل الجسد، ولكن الموت لم يأخذه. فابتداء من تلك اللحظة، ولد صدام الآخر؛ صدام الخالد؛ صدام الذي لا يمكن لموت أن يأخذه منا أبدا.

بكينا قليلا، وغمرنا الحزن قليلا، ولكننا ابتسمنا معا… لحظة اكتشفنا خدعة البطل. واحتضناه بقلوبنا كما لم تحتضن روح مناضل من قبل. فأودعنا جزءا منه أمانة بين يدي بارئه، وعدنا، بذلك الجزء الأعز، لنواصل المقاومة. واكتشفنا أنه، كان يبتسم من ناحية أخرى أيضا، ابتسامة تلك السلطة الممتلئة. فهو بكل ما كان يبدو من جبروته البابلي، فقد كان إنسانا حليما ذا بساطة وطيبة يمكن لدموعه أن تسيل على خديه لأي مصاب أو فقدان جلل. وكان يحزن ويضحك ويغضب كما يفعل كل البشر. وكان هش القلب أيضا، إنما بهيبة الرجل وبطول قامة البطل، اللتين لم يضحِّ بهما أبدا.

كان يريد من “شدة بأسه” أن تؤدي غرضا وأن توصل إلى هدف. فانقسم الخلق فيه، بين من يرى”الدكتاتورية” المزعومة بتفاصيل تكاد تكون بلا معنى، وبين من يرى الغرض والهدف بتفاصيل مذهلة في كل جامعة ومؤسسة ومعمل.

وظل القمر واحدا. فمن أي نصف نظرت إليه، فإنه النصف الآخر أيضا.

هكذا، ربما ليجعلك حائرا. وهكذا ليظل شاغلا. وهكذا ليدفع بالعراق قدما، فقدما، فقدما، حتى أغاظ ضده كل الذين في قلوبهم سويداء حقد وأطماع وكراهية عنصرية و…سفل. فالتأموا عليه، وتحالفوا على قتله وعلى تدمير العراق في آن معا…………. وكان لا بد أن يقتل صدام حسين، لأنهم كانوا يريدون أن يقتلوا به طموح العراق إلى القوة والرخاء والمجد. وكنا نرى ذلك السومري يبني ويقاتل ليلاحق عشبة الخلود. ولكن، مثلما خسرها جلجامش الأول لتقع بين أنياب ثعبان تمكن من التهامها قبل أن يصل المحارب إليها بوقت قصير، فقد خسرها جلجامش الثاني لتقع بين أنياب ثعبان أيضا… ولم يكن البطل ساطعا كما كان ساطعا في سجنه وفي محاكمته. في البدء أرادو أن يهينوه، فأهانهم. وأرادوا أن يحاكموا”دكتاتوريته”، فحاكم انحطاطهم ورخصهم وعمالتهم. وأرادوا أن يروه ضعيفا، فكشف لهم عن بسالة محارب لا يرف له، في الحق، جفن. وكان، بفصاحته ووطنيته وثاقب نظرته، هو محامينا الأول، وكل فريق دفاعه كان”فريقا مساعدا”.

صدام في سجنه كان عاريا أيضا. الإنسان تكشفه وتعريه المحن. وقد كشفه السجن وعراه كما لم يفعل مع أي زعيم آخر من قبل. فكان أجمل بشخصيته، وأكثر إقداما بشجاعته، وأنبل بكرمه أمام محامين كانوا يستمدون من”موكلهم” الثبات والقوة، لا العكس، يواسيهم لا أن يواسوه، ويشد من أزرهم لا أن يشدوا من أزره، ويبقيهم على جادة الحق، لا أن يبحثوا عنها معه. وقلائل هم الأحرار الذين منحهم القدر شرف الوقوف تجاه الغزاة تلك الوقفة الجليلة. وقلائل هم الذين يجعل التاريخ منهم علما ومنعطفا…. لقد أريد لتلك المحكمة أن تكون “محكمة القرن”، .. فكانت. إنما كمهزلة مدوية ستظل تتردد أصداؤها على امتداد القرن كله كنموذج لأسوأ ما عرفته البشرية من إهانة لقيم الحق والعدالة والقانون. وستظل عارا يلاحق، بالخزي والسخرية، كل الذين تورطوا بتدبيرها. كان الموت حاضرا في كل لحظة، وفي كل زاوية ومنعطف من زوايا تلك”القضية”. ولم يكن هناك سوى هدف بيّن واحد لكل تلك المهزلة، هو قتل”المتهمين” تحت ستار “قانون” تم تفصيله خصيصا ليكون دغلا من أدغال غابة سكاكين تتهاوى وتترنح لتنهش أجساد ضحاياها غدرا وغيلة وعبثا. وكم كان مما”يمرد” القلب، في بيئة كهذه، أن يبحث المحامون عن استراتيجيات وخطط للدفاع. فالسكاكين كانت هي سيد المسألة، ليست ضد رئيس فقد سلطته بقوة ووحشية، وتحت غطاء ظالم، وبناء على أكاذيب وذرائع باطلة، وليست ضد محامين وجدوا أنفسهم ضحايا للتهديد والقتل والتعليق على أعمدة الكهرباء، بل ضد شعب برمته صار ينحر أبرياؤه، نساء وأطفالا وشيوخا، نحر الخراف على مرأى العالم كله. ولكننا بتلك السكاكين وبغوغائها، نعرف اليوم، كم أننا كنا على حق، وكم أن شهيدنا لم يكن “دكتاتورا” كافيا، إذا جازت عليه هذه الصفة أصلا، وكم أن الوجه الآخر، المضيء، من قمر البناء والازدهار والقوة كان هو الوجه الصحيح للعراق في ظله……

فبرغم أنهم قتلوا أسيرا وشبعوا في جثمانه حقدا، إلا أنهم ظلوا يقتلون ويدمرون وينهبون ويغتصبون حتى لكأنهم كانوا يرون في كل عراقي وعراقية ضحية مبررة لحقدهم…….

هناك، في سجنه، كشفت رجولة الشهيد عن بطل أشد من الفولاذ تماسكا وصلابة. وكان الإنسان فيه روحا للخير والتسامح والوطنية الفذة. فلم يسأل عن انتقام، ولا طالب بثأر، وتنزه عن كل سلطة، وظل “العراق العظيم” هو الخيمة التي تلقي بكلكلها على شغاف قلبه، وتحرك نهضته وحريته دوافع ضميره…

وعندما حانت ساعة الرحيل، خطا خطوته واثقا ومبتسما.

فلئن كنا خسرناه زعيما وقائدا، فقد عدنا لنكسبه بطلا أسطوريا ورمزا.

ومثله فعل رفاقه الآخرون. ومثلهم سيفعل كل رفاق المسيرة إلى الحرية. ف” العراق العظيم”، عراق الخير والتسامح والحرية والرخاء هو عراقهم. إنه الشجرة الخالدة التي، إذا خسرت جلجامشا، فجلجامشا آخر تلد”.

ملاحظة:

كنت قد نشرت قبل فترة قصيدة كان قد أرسلها لي الشهيد صدام حسين من داخل سجنه ردا على رسالة كنت قد أرسلتها له. دفعت أحدهم من داخل لبنان، أن يشتمني على الخاص ويقول “تتظاهرين بأنك مع سورية وفي ذات الوقت تكونين مع صدام حسين؟”. ( هل يتعارضان )وطردني من صفحته.

أعتز بانتمائي العروبي أيما اعتزاز، فأنا مع كل بلد عربي يتعرض للظلم والعدوان والإرهاب. فأنا مع بلدي الأردن،ومع العراق الوطني ومع سورية أمي وأبي، سورية بشار الأسد، ومع فلسطين حرة عربية من النهر إلى البحر، ومع اليمن ال كان سعيدا، ومع لبنان ومع الصومال ومع مصر ومع… ومع.. ولا يستطيع من يشتم ويردح أن ينتزع عروبتي ومبادئي التي نشأت عليها. ومن يريد أن يشتمني، فليغلق بابه في وجهي.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى