قبل ان يذهب الى مزبلة التاريخ .. المخلوع مبارك يصف ابو عمار بـ “الكلب”
كتب جعفر البكلي
“وَقّعْ يا كلب”1.. بهذه العبارة النابية صرخ الرئيس المصري حسني مبارك في وجه رئيس منظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات. حدث ذلك أمام رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين، ووزير خارجيته شمعون بيريز، وفي حضور وزيري الخارجية الأميركي والروسي: وارين كريستوفر، وأندريه كوزيريف. واحمرّ وجه عرفات من وقع الإهانة الفجّة أمام الملأ، وأخذت يداه وشفتاه ترتجفان من الغضب، والإحساس بالقهر والمهانة والفجور الذي يجيء من العرب ذوي القربى، لأجل إرضاء «إسرائيل».
في يوم 4 أيار 1994، كانت قاعة المؤتمرات الكبرى في مدينة نصر تغصّ بالحاضرين الذين وفدوا ليشهدوا توقيع «اتفاقية السلام» بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وفقاً لإعلان مبادئ بيان أوسلو. واختار حسني مبارك أن يكون توقيع اتفاق السلام، وتصفية المشكلة الفلسطينية، في ذكرى عيد ميلاده، وكان يصادف ذلك اليوم. وحرص الرئيس المصري أيضاً على أن يحشد في القاعة كل من له قيمة أو مسؤولية في مصر، فدعا وزراءه، وقادة جيشه، ورئيسي مجلس الشعب والشورى، ورؤساء اللجان في المجلسين المذكورين، والمحافظين، ورؤساء الأحزاب السياسية اامصرية، ولفيفاً مختاراً من الأدباء والفنانين والصحفيين… ولم ينسَ مبارك قادة الكنيسة والأزهر، فاستدعى البابا شنودة والشيخ سيد طنطاوي. بل إن الرئيس استدعى أيضاً الأمين العام لجامعة الدول العربية عصمت عبد المجيد، وحاول الرجل أن يعتذر عن عدم الحضور، باعتباره صار يمثّل جميع الدول العربية، وبعضها غير موافق على اتفاق أوسلو. وسمع عبد المجيد صوت رئيسه السابق في التلفون يجيء حانقاً، ويقول له: «مين دول اللي عايز تجاملهم يا عصمت؟! القذافي أم حافظ الأسد؟!». وتلعثم عصمت عبد المجيد. وفي الموعد المحدد، وصل إلى صالة الحفلة وجلس في مكانه المقرر له، في الصف الأول للضيوف.
كان مصممو الحفلة قد أعدوا عدتهم لتكون عرضاً مسرحياً مبهراً. وبالفعل، فقد سلطت على مسرح القاعة الكبرى الأضواء، وعزفت موسيقى أوبرا حالمة، وزيّنت خلفية المشهد بديكورات تبرز مناظر فرعونية كالأهرامات وأبو الهول، ووضعت مائدة كبيرة وراءها مقعد واحد على خشبة المسرح. وكانت المائدة من الرخام الفخم، وأطرافها مذهبة في شكل أوراق شجر. وكان كل شيء في هذا العرض لافتاً للانتباه. ثم بدأ أبطال المسرحية يصعدون على خشبة المسرح واحداً تلو الآخر: حسني مبارك أولاً يتبعه وزير خارجيته عمرو موسى، ثم وزير الخارجية الأميركي، ومن ورائه وقف مبعوث روسيا، وأخيراً دخل العرائس: رابين وبيريز، يرافقهما عرفات ومحمود عباس. وصفق الحاضرون بحفاوة وترحيب. وبعد خطابات إنشائية عن سلام الشجعان، وأرض الميعاد، وموطن الأنبياء، والمسرى، ونثر الشكر والابتسامات والقبلات… بدأ العرض الجدّي.
تقدم ياسر عرفات أولاً إلى الطاولة، وأخذ ينظر في المحضر الذي عليه أن يوقعه، وتردد قليلاً، وهو يبحث في الأوراق التي أمامه عن شيء ما، وطال بحثه بأكثر من اللازم، والناس الذين من ورائه ينظرون إليه باستغراب. وقطّب الرجل وجهه، ثم أصلح كوفيته، وانهمك في التوقيع. لكنّ منظر عرفات، في هذه «الزفة»، كان مكفهراً، ولم يكن يبدو عليه أيّ انشراح، وكان كالذي اكتشف، أمام المأذون والمدعوين، في ليلة عرسه، أنه وقع التغرير به. قام عرفات بعد أن وقّع عقد الاتفاقية، وجلس رابين مكانه، ونظر في الأوراق، فاحمرّ وجهه تماماً، وبدت على سحنته تعابير السخط والحنق. وبدل أن يوقّع رابين على النصوص التي أمامه، كما يفترض به، التفت وراءه غاضباً، ونادى وزير خارجيته بيريز، ليريه شيئاً في الأوراق. كانت وقائع الاحتفال تنقل على الهواء مباشرة، وعلى شاشات التلفزيونات كلها. وكانت أجهزة الدعاية جميعها قد روّجت أن ما يحدث الآن هو من أهم اللحظات التاريخية في القرن العشرين، لكن بدا واضحاً جداً للناس أنّ شيئاً ما لا يمضي كما يجب في هذا العرض التلفزيوني. وأخذ المشاهدون ينظرون باستغراب إلى هذا العرس العجيب الذي لا يظهر أنّ العريسين نفسيهما قابلان، ولا سعيدان به، بل يوشك أن يشتبك أحدهما مع الآخر، وأمام الملأ.
جاء بيريز إلى حيث يجلس رابين، ومال إليه، ونظر إلى موضع أشار إليه الأخير. وانتقل الامتعاض هذه المرة إلى وزير الخارجية الإسرائيلي. ثم خطا هذا الأخير خطوات نحو مكان مبارك، وأسرّ في أذنه بكلمات. وانتقلت علامات عدم السرور الآن إلى سحنة مبارك. ونظر الرئيس المصري إلى عرفات نظرة سوداء، لكنّ أبا عمار، وقد بدا واضعاً يديه خلف ظهره، وممططاً شفتيه الغليظتين، وعاقداً حاجبيه، لم يكن يريد أن ينظر إلى أحد ولا أن يتكلم مع أحد.
اختار مبارك أن يكون توقيع الاتفاق في ذكرى عيد ميلاده
وتمتم مبارك في أذن شمعون الذي مضى نحو إسحاق يخبره برأي رئيس مصر. ووقّع رابين الاتفاق عابساً، وقام من مكانه، فحيّا الجميع حتى إذا وصل إلى عرفات لم يسلّم عليه، ولم ينظر إليه.
كان سبب الأزمة أن عرفات لم يوقّع كل أوراق الاتفاق، كما يجب أن يفعل، بل اقتصر على توقيع النصوص في الاتفاقية، ولم يلتزم توقيع الخرائط التي تبيّن مساحة أراضي السلطة الفلسطينية في غزة وأريحا. وكان الخلاف على تلك الخرائط بين الفلسطينيين والإسرائيليين لم ينته إلى نتيجة حاسمة، فتقرر تأجيل المفاوضات حول تفاصيلها إلى موعد لاحق، مع الإقرار بمبدأ الاتفاق حولها. واشترط عرفات أن يكتب له رابين خطاباً يرفقه بالخرائط يوم الاحتفال، ويعلن فيه الإسرائيليون أن مساحة أراضي السلطة الفلسطينية لم تحسم، وأنها ما زالت قيد التفاوض والتباحث. وقبل رابين بهذا الشرط. لكن عرفات، في اليوم المشهود، لم يجد الخطاب الموعود مرفقاً بالخرائط، فقرّر أن لا يضع توقيعه عليها. وشعر رابين بأن عرفات المراوغ يحاول أن يتملص من الاتفاق كله، فاستشاط غضباً. ومضى رئيس الوزراء الإسرائيلي نحو الرئيس المصري يشكو إليه ما يحصل غاضباً، ويشير له بيديه إلى أنه لا يقبل بما يجرى. وظهر مبارك، أمام الجمهور الذي تغصّ به القاعة، وكأنه يحاول استرضاء رابين. ثم تكلم حسني مبارك مع عرفات، آمراَ إياه بأن يوقّع على ما اتفقوا عليه، لكن الأخير أخذ يجادل بأن الاتفاقية لم تحسم بعد في أمر الخرائط. وتدخل بيريز لإقناع عرفات بأن يوقّع، لكي تَمضي الاحتفالية على خير، غير أن عرفات لم يكن يصغي إلى أحد. ظلّ عابس الوجه، ويابس الرأس. وأصبح الموقف محرجاً جداً أمام الحاضرين. ولم يفلح كريستوفر ولا كوزيريف في تليين موقف الزعيم الفلسطيني. وسرى التوتر بين الجميع فوق خشبات المسرح، والجمهور ينظر إلى هذا العرض العجيب بفضول. وحاول وزير الخارجية الأميركي أن ينقذ الموقف، فأخذ الميكروفون، وبدأ يلقي خطبة عن «الحَمام والسلام والوئام والانسجام»، ولعله أراد أن يشغل الناظرين وكاميرات الصحفيين عمّا يدور وراءه مباشرة من مشاحنات ومشاكسات ومناكفات. لكنّ منظر المسؤول الأميركي النحيل ذي الملامح الحادة وتقاطيع الوجه القاسية، كان غير مقنع بالمرة في دور رجل السلام الطيّب والخيّر، وحاد جمهور الحاضرين عنه بأبصارهم، ليراقبوا تفاصيل المشهد الطريف الذي وراءه. وجرّب مبارك أن يحرج عرفات أمام الناس، فنادى رئيس البروتوكول، وأسرّ له بأن ينادي عرفات بمكبر الصوت في القاعة، لكي يجلس ويوقّع خرائط الاتفاق. وحصل ذلك بالفعل، غير أن أبا عمار ركبه شيطان العناد، وأخذ يهتف بصوت مسموع أمام الحضور: «لا، لا، لا». وكررها ثلاث مرات. ووجد الجمهور أن أداء الزعيم الفلسطيني دراماتيكي بالفعل، فأخذوا يصفقون له، من دون أن يعرفوا على ماذا يصفقون، ولا ما الذي يرفضه أبو عمار بالضبط. وكان المشهد كله فوق المسرح عبثاً في عبث!
وصعد أحد أعوان كريستوفر أخيراً فوق المسرح ليخبره أنّ ما يجري الآن صار فضيحة، وأنه آن الأوان ليسدل الستار على هذا الفصل البائس من المسرحية، إلى أن يضبط المخرج تفاصيل المشاهد بدقة، ويرجع الممثلون إلى تمثيل أدوارهم في السيناريو المرسوم دون خروج عن النص، أو ارتجال لا طائل منه. وهكذا أُعلن عن استراحة، وهبط الجميع من فوق المسرح إلى الكواليس. وهنالك وجد مبارك أن بإمكانه أن يفجّر غضبه على عرفات، من دون أن يتكلف أمام الناس والمشاهدين الكياسة والرصانة والوقار، فأخذ يصرخ في وجه الفلسطيني بفظاظة شديدة وجلافة: «وقّع يا كلب». ونظر عرفات فوجد نفسه محاطاً بأعداء له من كل جانب. وبدا كما لو أن دموعه ستنهمر من شدة الغيظ. وتمالك نفسه قبل أن ينهار، وخاطب حسني مبارك راجياً، وقال له أنه «سيوقّع الاتفاق من أجل خاطر مصر، ورئيس مصر، وليس لأجل خاطر أحد آخر». لكنّ مبارك لم يقلِّل من ازدرائه، بل مضى يأمره بقسوة بأن يعود فوراً ويوقّع على ما رفضه من قبل. وكذلك عاد أبو عمار إلى خشبة المسرح، ووقّع على الخرائط كاتباً بجانب توقيعه عبارة: «قيد البحث طبقاً للخطاب المرفق». وصفّق الجمهور في قاعة المسرح بشدة على المشهد الختامي السعيد. ونال الرئيس حسني مبارك نصيباً وافراً من تحية الجمهور المصري الرسمي، وأما الختيار الفلسطيني فظل يبتسم، ويلوّح بأصابع يديه بإشارة النصر.
ومن المؤسف أن حسني مبارك ظل – حتى بعد أن انتقل عرفات إلى جوار ربه، بل حتى بعدما تم خلعه، هو ذاته، من الحكم- يستعمل الكلمة النابية نفسها («ابن الكلب») حينما يذكر الرئيس الفلسطيني الراحل. وفي التسجيلات المسربة لموقع «اليوم السابع»، في حزيران 2014، أعاد مبارك شتم عرفات بالعبارة البذيئة نفسها إياها، حينما ذكره في دردشة مع أطبائه في المستشفى العسكري، حيث كان قابعاً أثناء سجنه ومحاكمته.
هوامش:
1ــ أوردت وكالة الأنباء الفرنسية في مساء يوم 4 أيار 1994، العبارة المبتذلة التي وجهها مبارك لعرفات. لكن الأخير أنكر أن يكون قد ناله سباب الرئيس المصري، وكذلك أنكرت وزارة الخارجية المصرية. وفيما بعد اعترف أكثر من شخص شهد الواقعة بصحتها. ومن أسخف ما برّر به أحد المسؤولين الفلسطينيين إنكار عرفات لإهانة لحقت به بالفعل، قوله: «خبر (فرانس برس) لم يكن دقيقاً. مبارك لم يقل له: يا كلب، بل قال له: يا ابن الكلب».