مصطلح “الوضع القائم” في القدس بالمفهوم الإسرائيلي
القدس المحتلة - قدس برس
في منتصف العهد العثماني بات المسجد الأقصى يدار من قبل “ناظر الحرمين الشريفين”، أي المسؤول عن إدارة حرمي المسجد الأقصى في القدس، والمسجد الإبراهيمي في الخليل. وتطور الأمر في نهاية العهد العثماني إلى إنشاء وزارة خاصة للأوقاف كان من مهامها الإشراف على الأقصى.
وبعد الحرب العالمية الأولى واحتلال بريطانيا لفلسطين أُحيلت مهمة إدارة الأوقاف بما فيها المسجد الأقصى إلى موظف تابع للاحتلال البريطاني. واستمر الأمر كذلك حتى تاريخ 20 كانون أول 1921، حين تشكل “المجلس الإسلامي الأعلى” في القدس جرّاء ضغوط المسلمين في فلسطين، وبات هذا المجلس يشكل مرجعية لإدارة المقدسات والأوقاف، قبل قيام بريطانيا بحلّه عام 1937، وتشكيل لجنة لإدارة المقدسات والأوقاف، استمرّت في عملها حتى نهاية عهد الاحتلال البريطاني.
و مع انتهاء حرب عام 1948 سقط الشطر الغربي من القدس (84% من مساحة المدينة آنذاك) بيد الاحتلال الإسرائيلي، فيما تحوّل الشطر الشرقي الذي يحوي المسجد الأقصى إلى الإدارة الأردنية، وأُعلن عام 1950 عن وحدة الضفتين الشرقية والغربية، وباتت الأخيرة التي تضم القدس جزءًا من الأراضي الأردنية وأصبح الأقصى تحت الوصاية الأردنية.
وفي عام 1966، وقبل عامٍ واحد من سقوط بقية القدس تحت الاحتلال الصهيوني، صدر قانون إدارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لعام 1966، والذي أدخل تعديلات بنيوية مهمة في إدارة الأوقاف في الضفتين، فشكّل بذلك البنية الجديدة لأوقاف القدس، التي لا تزال قائمة حتى يومنا هذا.
ويعود اهتمام الهاشميين بملف إدارة وإعمار المسجد الأقصى إلى عهد الشريف حسين بن علي، الذي موّل عملية الإعمار التي أجراها “المجلس الإسلامي الأعلى للأقصى” عام 1924.
و في تاريخ 16 حزيران عام 1967، عقد اجتماع بين وفد الوقف الإسلامي بالقدس وبين وزير الدفاع للجيش الإسرائيلي وقتئذ (موشيه ديان) وذلك بناء على طلب الأخير، ودار في الاجتماع الأوضاع العامة المتعلقة بالأوقاف وبالمقدسات وبالمسجد الأقصى المبارك، وكان مطلب الوفد هو استقلالية الأوقاف والمحاكم الشرعية والإفتاء والشؤون الدينية بشكل عام، وقد أقر وزير الدفاع الإسرائيلي ذلك بأن يستمر الوضع على ما كان عليه سابقًا.
باختصار، يمكن توضيح مصطلح “الوضع التاريخي” للمسجد الأقصى بأنه الوضع الذي كان عليه المسجد قبيل احتلاله مع كامل شرق القدس عام 1967، وقد كان حينها يدار من قبل دائرة الأوقاف والشؤون الإسلامية تحت الوصاية الأردنية، وكانت هذه الجهة وحدها المعنية بتحديد من يدخل للمسجد، والمعنية بأعمال الصيانة والترميم، ولا يشاركها أحد في ذلك، وكانت هي الجهة المرجعية التي تنظر في طلبات زيارة المسجد من غير المسلمين.
تغيّر “الوضع التاريخي” في المفهوم الإسرائيلي
أولًا: حصول تغيير جذري داخل الاحتلال باتجاه دعم فكرة ما يسمى “بالحق اليهودي بالصلاة في جبل المعبد” قانونيًّا ودينيًّا وسياسيًّا وأمنيًّا:
– على المستوى القانوني: عام 1967 كانت المحاكم الإسرائيلية تصدر قراراتها بمنع اليهود من أداء الطقوس التلمودية داخل الأقصى، ولكنها وبدءًا من عام 2003 تحديدًا بدأت تصدر قرارات تجيز لليهود ذلك شرط مراعاة التداعيات الأمنية. وبعد عام 2003 بدأت الشرطة الإسرائيلية تسمح لمن يريد اقتحام الأقصى أو زيارته من غير المسلمين بدخوله من دون الرجوع لدائرة الأوقاف الإسلامية – الجهة المسؤولة رسميّا وحسب الوضع التاريخي عن إدارة المسجد – وذلك من خلال باب المغاربة الذي يستولي الاحتلال على منذ احتلال القدس عام 1967.
– على المستوى الديني: عام 1967 كانت غالبية الفتاوى الدينية اليهودية تحرّم دخول اليهود للأقصى الذي يسمونه “جبل المعبد”، وفي السنوات الأخيرة بدأ عدد متزايد من الحاخامات يجيز ويشجع اليهود على اقتحام المسجد، كما تشكل عام 2012 تحالف يسمى “ائتلاف منظمات المعبد” ويضم عشرات المنظمات اليهودية التي تتبنى فكرة الحق ما يقولون إنه حق يهودي في الصلاة في “جبل المعبد”.
وهذا الائتلاف أخذ على عاتقه تنظيم اقتحامات الأقصى بزخم والدعوة إليها في المناسبات والأعياد اليهودية.
– على المستوى السياسي: شهدت الانتخابات الإسرائيلية عاميْ 2013 و 2015 صعود أعضاء في الكنيست والحكومة يتبنون رسميًّا ما يسمى “بالحق اليهودي بالصلاة في جبل المعبد”، كما شكل صعود حزب “البيت اليهودي” برئاسة نفتالي بينت في تلك الانتخابات رافعة سياسية لطروحات “منظمات المعبد” حيث يتبنى هذا الحزب القوي الذي يشكل ثاني أكبر حزب حاليّا في “إسرائيل” الأفكار الدينية القومية لليهود ومنها ما يزعمون أنهم “حق يهودي في الصلاة في جبل المعبد”.
– على المستوى الأمني: تغيرت مهمة شرطة الاحتلال من منع المتطرفين اليهود من أداء شعائر دينية داخل الأقصى، إلى حماية هؤلاء وحراستهم أثناء اقتحاماتهم للمسجد.
– تكثيف اقتحامات المسجد من أجل فرض أمر واقع؛ اقتحم أكثر من 14 ألف مستوطن يهودي لباحات المسجد الأقصى منذ الأول من آب لعام 2014 وحتى التاريخ ذاته من العام الذي يليه.
محاولات تشريع تقسيم الأقصى:
1 – في منتصف عام 2012 قدم أرييه ألداد عضو الكنيست مشروع قانون لتقسيم المسجد الأقصى زمانيًّا بين المسلمين واليهود.
2 – في 25 شباط 2014، قدّم النائب الليكودي المتطرف موشيه فيجلين مشروع قانون يقضي بإنهاء السّيادة الأردنيّة على المسجد الأقصى ووضعه تحت سيادة الاحتلال الكاملة.
3 – في أيار 2014 أعلن عضوا الكنيست حيليك بار، وميري ريغف، رئيسة لجنة الداخلية في الكنيست، عن نيتهم تقديم مشروع قانون لمناقشة اقتراح يقضي بالمساواة في العبادة بين المسلمين واليهود كما هي الحال في المسجد الإبراهيمي بالخليل.
4 – في تاريخ 5 آذار 2014، أقرّت لجنة الداخلية في “الكنيست” بشكل رسمي إنشاء لجنة فرعيّة تخصصية هي “لجنة تْسُورْ” (اسم رئيسها) مهمتها فحص عملية تنظيم اقتحامات اليهود يوميًا للمسجد الأقصى من أجل تأدية الصلوات التلمودية.
5- في تاريخ 8 أيلول 2015، أصدر وزير الجيش الإسرائيلي قرارًا يعتبر فيه المرابطين والمرابطات وطلاب حلقات العلم في الأقصى “مجموعات خارجة عن القانون”، وأعقب ذلك إعداد “لائحة سوداء” تضم أسماء نحو 45 من المرابطات في الأقصى لمنعن من دخول المسجد.
6- تحكمُ الاحتلال بالدخول إلى المسجد ومنع من تقل أعمارهم عن خمسين عامًا من دخوله في كثير من الأحيان، وإغلاقه في وجه المصلين خلال فترات اقتحامات اليهود (فترتين صباحية ومسائية بواقع خمس ساعات يوميا)، وكذلك احتجاز هويات المصلين على بوابات المسجد، وغيرها.
7- التدخل في عمل دائرة الأوقاف الإسلامية في القدس ومنعها من إجراء أعمال الصيانة والترميم إلا بعد موافقة سلطات الاحتلال في محاولة لفرض نفسها كشريك للأوقاف في إدارة المسجد، فضلا عن ملاحقة موظفيها وإبعادهم عن المسجد.
8- لا يقتصر تغيير الوضع التاريخي على ما هو فوق الأرض؛ فتحت الأرض معركة أخرى يخوضها الاحتلال لتزوير الآثار والتاريخ من خلال الحفريات والأنفاق التي وصل عددها إلى نحو 50 حفرية وتتوزع في محيط الأقصى وأسفله. كما أن الاحتلال كثّف في السنوات الأخيرة من بناء المراكز والمعالم ذات الطابع اليهوديّ في محيط الأقصى وأسفله مستخدمًا بعض الأنفاق التي حفرها ولم يعثر على “آثار يهودية” فيها، وكل ذلك يأتي في سياق مضيّ الاحتلال في بناء ما يزعم أنه “مدينة داود” اليهودية التاريخية.
كل ما سبق يوضح ما هو “الوضع القائم” اليوم حسب المفهوم الإسرائيلي، إنه سيطرة إسرائيلية حقيقية على المسجد وتحكمٌ بإدارته، في مقابل الإبقاء على الوصاية الأردنية ممثلة بدائرة الأوقاف الإسلامية في القدس شكلية بلا دور.
“الوضع القائم” يفترض أن يشير إلى الوضع الذي كان عليه المسجد عام 1967 قبيل احتلاله، وما يحاول الاحتلال فعله اليوم هو تفريغ المصطلح من مضمونه ليعني ما هو قائم حاليًّا بعد سلسلة الإجراءات الإسرائيلية لتكريس سيادة الاحتلال على المسجد.
أبرز المحطات التاريخية ذات الصلة:
1950: الأردن يعلن ضم الضفة الغربية بما فيها القدس ويصبح الوصيّ على المسجد الأقصى وسائر المقدسات.
حزيران: “إسرائيل” تحتل كامل القدس بما فيها المسجد الأقصى، وتستولي على مفاتيح باب المغاربة ولا تزال تستولي عليها إلى اليوم.
26 تشرين أول 1994: توقيع اتفاقية وادي عربة للسلام بين الأردن والاحتلال الإسرائيلي، وقد نصت هذه الاتفاقية في بنودها على أن “تحترم إسرائيل الدور الحالي الخاص للمملكة الأردنية الهاشمية في الأماكن الإسلامية المقدسة في القدس”.
أيلول 2000: شارون يقتحم المسجد الأقصى ما أدى لاندلاع انتفاضة استمرت حتى عام 2005. ومنذ عام 2000 تمنع سلطات الاحتلال أهل الضفة الغربية وغزة من الصلاة في الأقصى إلا بعد الحصول على تصاريح منها.
31 آذار 2013: الملك الأردني عبد الله الثاني والرئيس الفلسطيني محمود عباس يوقعان اتفاقية “الدفاع عن القدس”، التي أكدت تأكيد حق الوصاية الهاشمية على المسجد الأقصى المبارك.
في تموز 2014: اندلاع الهبة الشعبية في القدس على خلفية قتل الطفل المقدسي محمد أبو خضير، وتصاعد الاعتداءات على الأقصى. وفي تشرين ثانٍ 2014 عُقد لقاء ثلاثي ضمّ الملك عبد الله الثاني ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو ووزير الخارجية الأمريكي جون كيري “لتخفيف التوتر في القدس”، وقيل حينها إنه تمّ الاتفاق على احترام “الوضع القائم” في الأقصى.
26 تموز 2015: اقتحام وزير الزراعة الإسرائيلي أوري أرئيل المسجد الأقصى، تلا ذلك سلسلة اقتحامات جماعية في موسم الأعياد اليهودية، وترافقت تلك الاقتحامات مع اعتداءات عنيفة من قبل شرطة الاحتلال على المصلين والمرابطين والمرابطات وتدمير وحرق أجزاءٍ المسجد الأقصى. استمرت المواجهات بين شرطة الاحتلال والمصلين بشكل شبه يومي من 26 تموز وحتى نهاية أيلول ، ومع بداية تشرين أول من العام ذاته (2015) تطورت المواجهات وتكثفت عمليات الطعن والدهس التي قال بعض منفذيها بشكل واضح إنها انتقام للمسجد الأقصى، وتوسعت المواجهات مع قوات الاحتلال لتشمل القدس والضفة وغزة والمناطق المحتلة عام 1948 لتتحول إلى “انتفاضة القدس”.
مبادرة كيري:
في 24 تشرين أول 2015 أعلن وزير الخارجية الأمريكي جون كيري موافقة العاهل الأردني الملك عبد الثاني ورئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو على نصب كاميرات لمراقبة المسجد الأقصى كاملًا، كما أعلن كيري موافقة نتنياهو على أنه “للمسلمين فقط حق الصلاة في الحرم الشريف/جبل المعبد، بينما لأتباع الأديان الأخرى حق الزيارة”.
وتبرز جملة ملاحظات حول هذا الاتفاق:
- الحديث عن “موافقة” نتنياهو هو تغيير للوضع التاريخي لأن ذلك يكرس الاحتلال كطرف شريك في إدارة المسجد.
- كلمة “الزيارة” استعملت كثيرًا في الأوساط الإسرائيلية وهي المعنى الملطّف للاقتحامات.
- لم يُوضح من سيشرف على كاميرات المراقبة إذا نُصبت، وقد أبدت الأوقاف الإسلامية في القدس رفضها لهذه الفكرة كون الاحتلال سيستغلها لمراقبة كل من يدخل إلى المسجد. وفي هذه السياق أعلنت الأوقاف الإسلامية أن الاحتلال منعها من تركيب كاميرات في المسجد يوم 25 تشرين أول ، وهذا يؤكد أن الاحتلال لن يسمح بتطبيق هذه الخطوة إلى إذا كانت تخدمه.
- في 25 تشرين أول 2015، أي بعد الإعلان عن “اتفاقية كيري” بساعات، قال نتنياهو “تعتقد إسرائيل أنه يجب أن يسمح لأولئك الذين يزورون جبل المعبد أو يؤدون الصلاة فيه بالقيام بذلك بأمان واطمئنان من دون أن يتعرضوا للعنف وللتهديدات وللاستفزازات. سنواصل تأمين وصول المصلين السلميين والزوار إلى جبل المعبد وسنحافظ على النظام العام والأمن فيه”.
وهذا التصريح يؤكد أن ما تحدث عنه كيري من موافقة نتنياهو على أنه لغير المسلمين الحق “بزيارة” الأقصى فقط تضليل، فتصريح نتنياهو يؤكد استمرار تأمين وصول المصلين اليهود إلى الأقصى وليس فقط “الزوار”.
- هذا الاتفاق يكرس الاحتلال كمرجعية لإدارة المسجد لأن احترام الوضع التاريخي للمسجد يقتضي إعادة الأمور كما كانت أي أن تكون دائرة الأوقاف هي الجهة المسؤولة عن تنظيم أي زيارة للمسجد لغير المسلمين في إطار السياحة وليس “الصلاة” وإقامة الشعائر. كما أن هذا الاتفاق يجعل حق المسلمين في الصلاة في مسجدهم “متساويًا مع “حق” غيرهم من أتباع الديانات الأخرى “بالزيارة”.
- استخدام كيري لمصطلح “جبل المعبد” إلى جانب الحرم الشريف أو المسجد الأقصى هو بحدّ ذاته تغيير للوضع التاريخي للمسجد لأن في ذلك اعترافًا “بحق” اليهود في المكان، وتزوير للحقائق، وخرق للقرارات الدولية.
اعتراف ترمب:
في 6 كانون أول 2017، أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترمب القدس عاصمة لـ “إسرائيل” في خطاب تاريخي من البيت الأبيض، وقرّر نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس.
وأضاف ترمب في خطاب متلفز، “وفيت بالوعد الذي قطعته بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل”، مشيراً إلى أن لإسرائيل الحق في تحديد عاصمتها.
وليست هناك سفارة لأي دولة في القدس المحتلة، ويفترض أن تكون الولايات المتحدة أول دولة تنقل سفارتها إلى المدينة.