فرنسا مكرون تعود عبر قضية الحريري الى لبنان ومنها للشرق الاوسط

رغم العلاقات التاريخية الوثيقة التي تربط بين فرنسا ولبنان، كون الأخيرة كانت ولفترة قاربت 23 عامًا خاضعة للانتداب الفرنسي خلال الفترة من  1920 وحتى 1943 وما تلاها من موجات مد وجذب في مسيرة العلاقات ما بعد استقلال لبنان، إلا أنه يمكن القول إن فرنسا غادرت لبنان بشكل فعلي بعد اغتيال سفيرها لوي دولارما في ايلول 1981 في أثناء حرب لبنان التي استمرت من 1975 حتى 1990، ورغم اتهام باريس للنظام السوري بالضلوع في هذه الجريمة فإنها آثرت الخروج من لبنان.

فتح الخروج الفرنسي من لبنان الباب للكثير من القوى الأوروبية الأخرى لتحل محلها، على رأسها بريطانيا التي نجحت في تفعيل حضورها بشكل كبير اقتصاديًا كان أو عسكريًا، وهو ما يجسده زرعها لعشرات الأبراج العسكرية على الحدود اللبنانية السورية، من منطقة عكار شمالًا إلى البقاع شرقًا.

الأمر لم يتوقف عند البريطانيين فحسب، بل دخل الأمريكان أيضًا على خط صراع النفوذ، حيث قاموا بتوسعة سفارتهم في عوكر (شرقي بيروت)، لتكون أكبر سفارة لهم في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وهو ما يعبد الطريق أمام واشنطن للدخول إلى هذه المنطقة البعيدة نسبيًا عن الوجود الأمريكي.

وفي ظل هذه الأجواء أيقن ماكرون منذ مجيئه – رغم صغر سنه – أن العودة الفرنسية لبنانيًا لا بد أن تكون عبر قضية كبرى تحدث زلزالًا مدويًا في المشهد السياسي اللبناني، ومن هنا جاءت أزمة سعد الحريري مع السعودية لتكون طبقًا من ذهب للإليزيه لإحياء الدور الفرنسي مرة أخرى.

لم تترك باريس الفرصة تمر من يدها دون توظيف جيد، فكانت حاضرة منذ بداية الأزمة، وكان لماكرون دور فاعل في تحريك مياه الملف الراكدة، وصولًا إلى هذه المرحلة التي جسدها العناق الحار بينه وبين الحريري، الذي بدا عليه الابتسامة مجددًا بعدما صدمت صورته – التي بدت عليها ملامح التعب والإرهاق إن لم يكن الانكسار خلال المقابلة التي أجراها مع قناة المستقبل – متابعيه داخل وخارج لبنان.

وعلى الفور بادر الرئيس الفرنسي بزيارة السعودية والتقى وولي العهد محمد بن سلمان، ثم أفاد بعدها وزير خارجيته جان إيف لودريان والرئيس السابق نيكولا ساركوزي لبحث قضية الحريري في العاصمة السعودية الرياض، أعقبها دعوة رسمية لرئيس الوزراء اللبناني لزيارة فرنسا تمت الموافقة عليها بعد التنسيق مع السلطات السعودية بالطبع، لينتقل الملف بعد ذلك من الرياض إلى باريس، وتفرض الدبلوماسية الفرنسية نفسها مجددًا على الداخل اللبناني.

ملفا سوريا والعراق

سعت فرنسا إلى التخلص من فترة الركود الإقليمي التي كانت تحياها في عهد فرانسوا أولاند، محاولة البحث عن موطئ قدم لها في الملفات الإقليمية الحساسة، منها الملف العراقي والسوري، وذلك من خلال عدد من الاستراتيجيات والآليات الدبلوماسية.

وتعد بوابة إعادة الإعمار الأكثر اتساعًا أمام الفرنسيين للدخول إلى هذه الملفات، حيث أبدت ما يقرب من 25 شركة فرنسية كبرى استعدادها للعمل في العراق والمساهمة في إعادة إعماره، وخاصة المناطق المحررة من سيطرة تنظيم “داعش”.

وفي سوريا كذلك سعى ماكرون إلى إحياء الدور الفرنسي عبر الدخول كلاعب مؤثر في خارطة الصراع، حيث تخلى عن الخط السياسي لأولاند المناهض لنظام الأسد بشكل كامل، ليؤكد حرص بلاده على مصالحها في دمشق من خلال محاربة الجماعات المسلحة وضمان ألا تصبح سوريا دولة فاشلة.

ماكرون انحاز بصورة كبيرة للطرف الأكثر تأثيرًا في الملعب السوري وهي موسكو، حيث تطابقت رؤيته – التي عكستها تصريحاته الأخيرة بأنه لم ير بديلًا شرعيًا للأسد – مع الموقف الروسي، حتى وإن أكد أنه – الأسد – عدو للشعب السوري لكنه ليس عدوًا لفرنسا.

كما فرض الإليزيه نفسه على المشهد السوري بصورة كبيرة، وهو ما جسدته الاتصالات المتبادلة مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، التي وضعت باريس من خلالها مبادئها الجديدة في التعامل مع الملف السوري، والذي جاء على رأسها تفعيل المسار السياسي باعتباره الحل الوحيد لإرساء سلام دائم في سوريا ومنع ظهور معاقل جديدة للجماعات المسلحة، إضافة إلى إبداء الاستعداد للعمل دون تأخير مع روسيا وأعضاء مجلس الأمن الدائمين والقوى الإقليمية لإتاحة إجراء انتقال سياسي وذي مصداقية والحفاظ على وحدة سوريا وحماية الأقليات، وبذلك عادت فرنسا مرة أخرى للملعب السوري بعد سنوات من العزلة.

الاتفاق النووي الإيراني

كانت باريس الأكثر مناهضة لرؤية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب فيما يتعلق بالاتفاق النووي المبرم مع إيران في 2015، والذي طالب بإلغائه وفسخه بزعم مخالفة طهران لبنوده واستمرارها في عملية التخصيب.

ماكرون في أكثر من تصريح أكد على تمسك بلاده بهذا الاتفاق، مضيفًا كما جاء على لسانه خلال كلمة ألقاها أمام سفراء فرنسا في قصر الإليزيه: “ليس هناك بديل” داعيًا إلى علاقة بناءة ومتشددة مع إيران.

الرئيس الفرنسي لم يكشف موقف بلاده فحسب، بل حذر واشنطن من خطورة موقفها من الاتفاق، وهو ما يعد نقلة نوعية ملحوظة في الخطاب السياسي الفرنسي تجاه الولايات المتحدة، حيث اعتبر في الكلمة التي ألقاها في الجمعية العامة للأمم المتحدة في ايلول الماضي أن لجوء واشنطن إلى نقض الاتفاق اليوم من غير اقتراح بديل سيكون بمثابة غلطة كبرى، كذلك فإن عدم احترامه سيكون عملًا غير مسؤول لأنه اتفاق مفيد وضروري من أجل السلام.

تعي فرنسا جيدًا أن اللهث خلف رغبة ترامب قد يفتح الباب إلى تصعيد خطير في الشرق الأوسط، وأنه وفق تعبير مصادر رسمية فرنسية سيعيد عقارب الساعة إلى الوراء، إضافة إلى أنه سيقضي على مئات الساعات من التفاوض الشاق بين مجموعة الـ6 وإيران، كما تعتبر السلطات الفرنسية أن الإطاحة بالاتفاق ستضعف سلطة الرئيس حسن روحاني وستقوي معسكر المتشددين الذين ما انفكوا ينددون به ويركزون على أن بلادهم ما زالت تخضع لعقوبات.

إحياء الدور الليبي

من الملفات التي عادت فرنسا إليها بقوة بعد وصول ماكرون هو الملف الليبي، فبعد تراجع دورها خلال عهد أولاند وترك الساحة خالية لإيطاليا والولايات المتحدة، ها هي تعود من جديد وبقوة أثارت حفيظة وقلق روما، مما دفع قادتها للتعبير عن ذلك بصورة مباشرة.

جسد الاجتماع  الذي عقد بين فائز السراج وخليفة حفتر تموز الماضي، بمنطقة سيل سان كلو قرب باريس بمبادرة من الرئيس ماكرون، والخروج ببيان من 10 نقاط، قوة الدور الفرنسي وتأثيره في المشهد الليبي بصورة كبيرة، خاصة بعد موافقة الطرفين على الالتزام بما جاء في هذا البيان، الذي نص على أن حل الأزمة الليبية لا يمكن أن يكون إلا حلًا سياسيًا يمر عبر مصالحة وطنية تجمع بين الليبيين والجهات الفاعلة كافة: المؤسساتية والأمنية والعسكرية، تبعه بيان مشترك بإعلان ليبي لوقف مشروط لإطلاق النار والعمل على إجراء انتخابات في الربيع القادم.

ثم جاء خطاب ماكرون أمام الصحفيين بعدما تصافح الزعيمان الليبيان وابتسما أمام الكاميرات مؤكدًا: “توجد شرعية سياسية تقع في أيدي السيد السراج، وتوجد شرعية عسكرية تتمثل في القائد العسكري حفتر، لقد قررا أن يعملا معًا، هذا عمل قوي”، متابعًا “إنهما يتمتعان بالشرعية ولديهما القدرة على أن يجمعا حولهما كل من يريد المشاركة في عملية سياسية من أجل المصالحة وصنع السلام” ليقدم الرئيس الفرنسي نفسه من جديد كأبرز المؤثرين في إعادة تشكيل الخريطة السياسية المستقبلية الليبية.

المراقبون يرون أن نجاح باريس في جمع حفتر والسراج يمثل نجاحًا كبيرًا للدبلوماسية الفرنسية، وذلك رغم العديد من المحاولات السابقة التي فشلت في جمعهما، إذ إنه للمرة الأولى وبعد محاولات القاهرة وأبو ظبي تنجح باريس في جمعهم والوصول لاتفاق وإصدار بيان.

وهكذا تسعى فرنسا عبر قائدها الجديد لإحياء دورها في منطقة الشرق الأوسط مرة أخرى، ليفند ماكرون الاتهامات التي وجهت له قبيل توليه مقاليد الحكم بأنه صغير السن قليل الخبرة لإدارة دولة بحجم فرنسا، وقد تشهد الأيام القليلة الماضية تفاصيل جديدة في إدارة باريس لملف الحريري والأزمة اللبنانية، ربما تسحب معها البساط من تحت أقدام القوى ذات التأثير الأقوى في المنطقة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى