قراءة في كتاب “صدى القيد” للأسير أحمد سعدات
عرض: عبد الناصر فروانة
صدى القيد” إصدار أدبي جديد غير تقليدي، لثائر غاضب أدخله الاحتلال الاسرائيلي في زنزانة ضيقة ومعتمة، واحكم السجان اغلاق الباب عليه، فتمرد على واقع ظلمه وانفرد بالأوراق وامتشق قلمه ليلقي الضوء على تقاسيم الحياة خلف القضبان، وليًعطي لأكاديميات اللغة الكثير الكثير، وليضيف إلى مخزون الخبرات لدى عامة الشعب رصيداً عالياً عن حياة السجن وظروف العزل منذ بدايتها وتطورها التاريخي وأهم محطاتها، بكلمات بسيطة ذات مضامين عميقة ومؤثرة.
وينقلنا معها إلى هناك حيث يقبع الآلاف من الأسرى ويدخلنا غرف السجون وزنازين العزل الانفرادي، لنعيش واقعاً افتراضياً مرسوماً بتلك الصورة القلمية التي تصف مأساة قل نظيرها عنوانها: العزل الجماعي والانفرادي، لنتعرف من خلالها أكثر وأكثر على طبيعة الزنازين وحراسها.
فعندما نقلب أوراقه نجد أنفسنا داخل سجن تحيطه جدران شاهقة وأسلاك شائكة وأبراج حراسة عالية وزنازين يقف خلف أبوابها الموصدة سجانون يتفننون في تعذيبنا ويتلذذون على آلامنا وآهاتنا.
“صدى القيد” كتاب رائع وثري يُحاكي فيه الكاتب الماضي والحاضر وينبش في الذاكرة جوانب مؤلمة ويُعلمنا أشياء جديدة، ويساعدنا على اكتشاف الطاقات في ذواتنا وفي الآخرين، فيُبرِز مواقف عظيمة تجلت فيها قدرة الأسير على التكيف والصمود ومواجهة السجان وظروف العزل.
“صدى القيد” كتاب يدخلنا السجون من جديد وينقلنا من سجن لآخر ويفتح أبواب الزنازين المغلقة، لكاتب غير عادي ذو شخصية استثنائية وقامة رفيعة وتجربة فريدة وظاهرة عظيمة يطلق عليها “احمد سعدات” الأمين العام للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
يعود بنا الرفيق “أبو غسان” في كتابه عن السجن والعزل الانفرادي، إلى حكايات عشناها وعاشها الكثير من الأسرى المحررين من قبل، وما زال يعيشها الآلاف من الأسرى القابعين في سجون ومعتقلات الاحتلال، وقد يعيشها آخرون ممن يظنون أنفسهم في مأمن بعيد عن الاعتقال، فلطالما بقي الاحتلال ستسمر الاعتقالات وستبقى الزنازين.
لذا فالإطلاع مهم ومعرفة ما يحيط بالعزل أهم، والتسلح بمقومات الصمود لمواجهة ظروف العزل ومواجهة السجان أهم وأهم.
ويتضمن الكتاب تقديم ومقدمة وسبعة فصول، كتب التقديم الوزير عيسى قراقع، رئيس هيئة شؤون الأسرى والمحررين، عرج فيه على شخصية “سعدات” ومسيرته النضالية واسهاماته في صقل الحركة الوطنية الأسيرة وفضح العنصرية الإسرائيلية في تعاملها مع الأسير.
أما المقدمة فخط كلماتها الكاتب أحمد سعدات، وهي عبارة عن لمحة تاريخية وعناوين عامة لصفحات الكتاب، أما الفصول السبعة فقد بدأها بتناول الإطار التاريخي لسياسة العزل وتطورها منذ بدايات الاحتلال واتساع المقاومة بعد العام 1967 واشتداد التعذيب بما فيه العزل كإجراء وقائي انتقامي كحالة المناضل الأممي “كوزو أكوموتو” ومن ثم عزل العشرات من الأسرى في اعقاب الإضرابات عن الطعام وعزل المئات من قيادات الحركة الأسيرة “النواة الصلبة” في سجون واقسام منفردة كسجن نفحة الذي افتتح خصيصا لهذا الغرض عام 1980.
و في الفصل الثاني تطرق الكاتب الى سياسة العزل قبل التشريع والتوسيع، واستعرض فيه التعذيب والعزل والقتل في أقبية التحقيق وذكر قائمة طويلة من شهداء الحركة الأسيرة الذين سقطوا في اقبية التحقيق وزنازين العزل الانفرادي امثال ابراهيم الراعي وقاسم ابو عكر وعون العرعير وجمال ابو شرخ ومصطفى عكاوي وغيرهم.
وعرّف الكاتب حالة العزل بالقول: بأنها وضع الأسير في حيز مكاني يتميز بالضيق الفيزيائي، خالٍ من أي مظهر من مظاهر الحياة المختلفة وجعلها في حدودها الدونيا او دون ذلك. وعلى الأخص منها مظاهر الحياة الاجتماعية والانسانية، لإبقاء الأسير في حالة حصار وانحباس دائمين بتضييق المساحات الفيزيائية والإنسانية إلى أدنى درجاتها كي يصبح هذا الحصار والعزل عن المجموع نمط حياة قسريا مفروضا على الجسد والحواس للوصول الى حصار القدرات الذهنية.
وفي ذات الفصل يتطرق الى طبيعة الأسرى الذين يتم استهدافهم وعزلهم مثل: قيادات الحركة الأسيرة وممن لديه نشاطات وحضور مؤثر بين اوساط الأسرى لاسيما بعد الاضرابات والمواجهات داخل السجون، وكذلك أفراد المجموعات العسكرية الذين نفذوا عمليات نوعية أوجعت الاحتلال، حيث يتم عزلهم بعد انتهاء التحقيق مباشرة كالأسير ابراهيم حامد وعبد الله البرغوثي وضرار ابو سيسي، بالإضافة إلى الحالات المرضية التي تعاني اضطرابات نفسية وعجزت عن التكيف مع شروط الحياة الاجتماعية داخل السجون، والفارين من غرف المعتقلين لأسباب امنية.
وفي الفصل الثالث يتناول الغلاف القانوني لتشريع سياسة العزل وموقف القانون الدولي وتجاوزات دولة الاحتلال لكافة الاتفاقيات والمواثيق الدولية، مؤكدا على انها الوحيدة التي تشرع انتهاكات حقوق الإنسان، ويقدم أمثلة كثيرة للحقوق الإنسانية والأساسية التي من المفترض أن يتمتع بها الأسير المعزول.
ويرى الكاتب أن العزل يشكل انتهاكا مزدوجا، بقوله: إذا كان الاعتقال على خلفية مقاومة الاحتلال يشكل انتهاكا للقانون الدولي، فإن إجراء العزل كعقوبة يشكل انتهاكا مزدوجا، وإذا غضضنا النظر عن الانتهاك الأول فإنه لا يجوز معاقبة الأسير على التهمة مرتين ولا يجون الامعان في العزل واطالة فترته لتمتد لسنوات طويلة.
وفي هذا الفصل ايضا يستعرض الكاتب أهداف العزل في قهر الارادات والانتقام من الأسرى وفصل القادة ومعاقبة الأهل وغيرها، وكذلك الخطوات النضالية التي خاضتها الحركة الأسيرة بشكل جماعي او فردي عبر الاضرابات عن الطعام للتصدي لهذه السياسة ولإبقاء الملف مفتوحا.
وفي الفصل الرابع يذكر أسماء اقسام العزل الانفرادي والفصل الجماعي وعلى سبيل المثال لا الحصر: فصل أسرى القدس و48 عن أسرى الضفة والقطاع، وفصل قيادات الحركة الأسيرة “النواة الصلبة” في سجن او قسم لوحدهم، علاوة على تسلط الضوء على واقعها وظروفها وتأثيراتها والأهداف الإسرائيلية المرجوة من ورائها.
ويتطرق في الفصل الخامس إلى واحدة العامل الذاتي ومقومات صمود الأسرى المعزولين، ويرى الكاتب “أبا غسان” أن مجمل العوامل في صمود أسرى العزل ناجمة عن صلابة انتمائهم العقائدي والوطني وقناعتهم بعدالة قضيتهم ومشروعية نضالهم ضد الاحتلال، وهذا كسر أهم أهداف العزل المتمثل بقطع الارتباط بين المناضل والجماعة.
وفي ذات الفصل يرى أن تجربة العزل ورغم صعوبتها وقسوتها، إلا أنها وحدت الأسرى من المشارب الفكرية والسياسية والاجتماعية كافة، وصهرتهم في بوتقة أسرة واحدة على صعيد القسم الواحد وعلى امتداد أقسام العزل، فالعوامل الناشئة عن الوحدة ومعاناة القيد وقسوة ظروف العزل، دخلت كعوامل مساندة وحدت مشاعر الأسرى ووسعت محيطهم الاجتماعي، وتوسعت شبكة التعارف والمعارف لديهم لتشمل أًسر المعزولين وعائلاتهم، خصوصًا عندما خصصت بعض المحطات الإذاعية برنامجًا للتواصل الاجتماعي بين الأسير وأسرته وبثت التحيات والسلامات والأخبار الخاصة، مما أحدث تفاعلًا كبيرًا. وهنا تبرز أهمية الإذاعات في اختراق العزلة المفروضة على الأسرى عمومًا والمعزولين خصوصًا، ودورها في تعزيز العلاقات الاجتماعية.
ويستذكر الرفيق “سعدات” في الفصل السادس من كتابه متفرقات من حياة العزل ويتحدث عن أحداث مؤلمة وقاسية، غريبة و مستهجة.
وقبل الختام أوجز الكاتب الدروس المستخلصة في نقاط سبعة تضمنها الفصل الأخير من الدراسة، فبدأها بالأولوية المتمثلة بإعادة الاعتبار لتماسك الحركة الأسيرة ووحدتها ودورها الكفاحي وصلابة منظماتها، وضرورة إخراج قضية الأسرى من دائرة المناكفات السياسية وإبعادها عن أمراض الانقسام وتداعياته، مروراً بأهمية تصليب انتماء الأسير إلى قضيته وتعزيز ارتباطه والتصاقه بالجماعة وقيمتها وأهميتها، باعتبار أن ذلك يشكل المناعة الضرورية لحماية تماسك الأسير ومواجهته للسجان وظروف السجن والعزل الانفرادي، مؤكدا على أن الأسير لا يمثل نفسه أمام السجان الذي يسعى إلى تحويله إلى كتل فاقدة للحياة، بل انه يمثل كل شعبه وأهله وأفراد أسرته وعموم أصدقائه وجيرانه. وليس انتهاء بمطالبة الكاتب للأسرى المعزولين بنزع الغطاء القانوني عن إجراءات العزل ومقاطعة المحاكم الصورية التي يعقدها الاحتلال، ودعا الى التحرك خارج السجون وتوحيد الجهود لفضح جرائم التعذيب والعزل وحشد أحرار العالم والرأي العام الدولي لوقف تلك الجرائم ومحاسبة مقترفيها.
ومن الدروس المستخلصة التي توصل إليها الكاتب وبجرأة غير مسبوقة دعا الحركة الأسيرة إلى استخلاص العبر من كثرة من يطلبون من الأسرى طواعية اللجوء إلى زنازين العزل وذلك بإيجاد كل الظروف الإنسانية التي تعكس أخلاقيات ثورتنا ومضمونها الإنساني. ويرى الكاتب ان الكثير من الحالات التي استعصى عليها التكيف مع شروط الحياة الاجتماعية و الاعتقالية كان الواجب تحملها وتوسيع الصدر لاحتوائها.
وقبل الخاتمة يقدم لنا الرفيق “أبا غسان” في كتابه صورا رائعة وشهادات حية ونماذج ايجابية لأسرى ينتمون لتنظيمات مختلفة وقد مرّوا بتجربة العزل، ولأمهات صابرات وأبناء وبنات لأسرى قضوا معه سنوات في العزل الانفرادي، فيستحضر والدة الأسير حسن سلامة، ووالدة الأسير فارس بارود وأطفال الأسير عاهد أبو غلمة والابن الوحيد للأسير أحمد المغربي وابنة الأسير جمال أبو الهيجا و النائب محمد جمال النتشة ومعتز حجازي وغيرهم.
وفي الخاتمة يوجه لنا الكاتب نقدا لقصورنا تجاه هذه القضية وعدم القيام بواجبنا المطلوب تجاه المعزولين، كما ويلوم الحركة الأسيرة على تقاعسها في القيام بدورها في السنوات الأخيرة لإنهاء ملف الأسرى المعزولين.
وعودة على بدء، فإن “صدى القيد” هو عبارة عن دراسة تختص بوصف أحداث وتجارب مرت خلال تجربة كاتبها في العزل الانفرادي بين 2009-2012. وكما يقول الكاتب في سياق كتابه “ان هذه الدراسة لا تستطيع ان تغطي كل حقائق ومعطيات سياسة العزل الانفرادي ووضع أمورها في نصابها الدقيق”.
ويبقى “صدى القيد” .. إصدار جديد وغير تقليدي، لكاتب غير عادي رصد ووثق جزء من حياة السجن.