مالك بن نبي طالب العرب بانتاج الحضارة وليس اقتناء منتوجات الحضارة الغربية
البديل- كتبت إسلام أنور
تعكس كتابات المفكر الإسلامي الجزائري مالك بن نبي (1905_1975) مدى المعاناة والتناقضات التي تعيشها المجتمعات العربية ونخبتها المثقفة فيما يتعلق بسؤال الهوية والحداثة، فبينما يؤكد بن نبي مرارًا على مدى تخلف المجتمعات وحاجتها للنهضة والتحرر وبناء حضارتها، لكنه على الجانب الآخر ينطلق من رؤية محافظة تتمسك بكثير من التقاليد والعادات القديمة خاصة في قضايا الفنون والمرأة والحقوق والحريات.
هذا الصراع والحيرة التي عاشها مالك بن نبي على المستوى الشخصي والمستوى العام بين الأصالة والمعاصرة بين الشرق والغرب بين فرنسا والجزائر، زادت حدته التجربة المريرة للاحتلال الفرنسي للجزائر، فبينما كانت الجزائر تعاني تحت الإحتلال، كان مالك بن نبي يتعلم في مدارس فرنسا، ويعيش وسط المدنية الغربية ومنجزاتها الحضارية، ويتقن الفرنسية ولا يعرف من العربية إلا القليل، لكنه على الجانب الآخر كان يرى في فرنسا صورة المحتل، وكان يعاني أيضًا من مدى تخلف المجتمع الجزائري مدركًا ومؤكدًا أن أزمة الجزائر وغيرها من الشعوب العربية ليس سببها الاحتلال وحده، بقدر ما هناك أزمات داخلية أكثر عمقًا وتأثيرًا.
شروط النهضة
في الفصل الأول من كتاب “شروط النهضة” يشير بن نبي إلى نقطة مهمة وهى ماهية البطولة، موضحا أن البطولة والسياق الملحمي قد يصنع تاريخا فرديا أو جمعيا في لحظة استثنائية، لكن تبقى قدرة هذه البطولة ضعيفة على تغيير الواقع وثقافة المجتمع “إن عهود الملاحم كالأوديسة والالياذة ليست العهود التي توجه فيها الشعوب طاقتها الاجتماعية نحو أهدافها الواقعية، سواء أكانت هذه الأهداف بعيدة أم قريبة، بل هى تصرف في مثل هذه العهود طاقتها تسلية وإشباعًا لخيالاتها وما مجهود الأبطال الذين يقومون بأدوراهم في تلك الملاحم إلا مجهود من أجل الطموح واكتساب المجد أو إرضاء العقيدة، فهم لا يقاتلون مدركين أن نصرهم قريب، وأن طريقهم إلى تخليص مجتمعاتهم محدد واضح، فمجدهم هذا أقرب إلى الأسطوة منه إلى التاريخ”.
ويضيف مالك بن نبي مؤكدًا على أن البطولة والصور الملحمية واحدة من آفات وأزمات المجتمعات الإسلامية:”لقد كان دور الشعوب الإسلامية أمام الزحف الاستعماري دورًا بطوليًا فقط، ومن طبيعة هذا الدور أن لا يلتفت إلى حل المشاكل التي مهدت للاستعمار”، هذه القراءة النقدية لمفهوم البطولة والصور الملحمية التي قدمها بن نبي، تشرح بصورة وافية سبب ما وصلت له الشعوب العربية والإسلامية الآن، فرغم مرور أكثر من نصف قرن على تحررها من الاستعمار، إلا أننا مازلنا نعيش ذات الأزمات، بل لعلها ظروف أسوأ، ولم تشفع البطولات والملاحم، بل بالعكس كانت كثير من تلك البطولة سيف على رقاب الشعوب وأداة لقهرها وقمعها فيما بعد”.
القابلية للاستعمار
يوضح بن نبي أن مشكلة كل شعب في جوهرها هى مشكلة حضارته، والمجتمعات العربية تعاني من أزمات متراكمة مثل: الجهل والخرافة وعدم السعي لتغيير هذه الأوضاع، وفي هذا السياق يؤكد بن نبي على أن تغيير النفس هو الخطوة الأولى لكل تحول مجتمعي رشيد، هذه الرؤية تدفع بن نبي لأخذ موقف سلبي من العمل السياسي، قائلًا “فالحكومة مهما كانت ما هى إلا آلة اجتماعية تتغير تبعًا للوسط الذي تعيش فيه، فإذا كان الوسط نظفيًا حرًا، فما تستطيع الحكومة أن تواجهه بما ليس فيه، وإذا الوسط كان متسمًا بالقابلية إلى الاستعمار فلابد من أن تكون حكومته استعمارية”.
ويكمل: “لا ينجو شعب من الاستعمار وأجناده، إلا إذا نجت نفسه من أن تتسع لذل المستعمر، وتخلصت من تلك الروح التي تؤهله للاستعمار، ولا يذهب كابوس الاستعمار_كما يتصور البعض_ بكلمات أدبية أو خطابية، وإنما بتحول نفسي، يصبح معه الفرد قادرًا على القيام بوظيفته المجتمعية، جديرًا بأن تحترم كرامته، وحينئذ يرتفع عنه طابع القابلية للاستعمار، وبالتالي لن يقبل حكومة استعمارية تنهب ماله، وتمتص دمه”.
بين الشرق والغرب
وتحت عنوان “من التكديس إلى البناء” يشير مالك بن نبي إلى أننا نعيش في عالم يبدو فيه امتداد الحضارة الغربية قانونًا تاريخيًا لعصرنا، فـ”في الحجرة التي أجلس فيها كل شىء غربي، فمن العبث إذن أن نضع ستارًا حديديًا بين الحضارة التي يريدها العالم الإسلامي والحضارة الحديثة، لكن هذا يجسم المشكلة بأكملها، فأي حضارة لا يمكن أن تبيع جملة واحدة الأشياء التي تنتجها ومشتملاتها، أي أنها لا يمكن أن تبيعنا روحها وأفكارها وثرواتها الذاتية، وأذواقها، هذا الحشد من الأفكار والمعاني التي لا تلمسه الأنامل، ولكن بدونها تصبح كل الأشياء التي تبيعنا إياها فارغة، دون روح وبغير هدف”.
ويضيف: “العالم الإسلامي يعمل منذ نصف قرن على جمع أكوام من منتجات الحضارة، أكثر من أن يهدف إلى بناء حضارة، وقد تنتهي هذه العملية ضمنًا إلى أن نحصل على نتيجة ما، بمقتضى ما يسمى بقانون الأعداد الكبيرة، أعني قانون الصدفة، فكوم ضخم من المنتجات المتزايدة دائمًا، يمكن أن يحقق لى طول الزمن وبدون قصد(حالة حضارية)، ولكنا نرى فرقًا شاسعًا بين هذه الحضارة، وبين تجربة مخططة كتلك التي ارتسمتها روسيا منذ أربعين عام، والصين منذ عشر سنوات”.
الحضارة
رغم قدرة بن نبي على تشخيص العديد من الأزمات والتحديات التي تواجه المجتمعات العربية والإسلامية في حينها على مستويات اقتصادية واجتماعية ودينية معتمدا على بحث وتحليل ورؤية تعتمد على إرث ابن خلدون وجمال الدين الافغاني وتطور من أفكارهم وأدواته لتحليل المجتمع بصورة علمية تدرك أهمية علم الاجتماع، لكن على الجانب الآخر عندما يحاول بن نبي الاجابة عن كيفية حل هذه التحديات نجده يتخلى عن العلم ويندفع صوب الدين لينطلق منه، معتبره المرجع والمحفز لنشأة أي حضارة.
يشير بن نبي إلى أن الحضارة تتطلب مكونين أحدهما اجتماعي ويتكون من ثلاث عناصر:”الإنسان، والتراب، والوقت”، والمكون الآخر معنوي وهو العامل المؤثر في مزج هذه العناصر المادية وهو “الفكرة الدينية”، في هذا السياق لا يقدم مالك بن نبي أدلة قوية ولا تحليلا معرفيا يدعم فكرته، لكنه يكتفي بكلمات عامة وجمل فضفاضة، تدفع الإنسان من جديد لمنطقة المفعول به، وتجعله رهين لإرادة وقوة خارجية، يقول بن نبي:”الحضارة لا تظهر في أمة من الأمم إلا في صورة وحي يهبط من السماء، يكون للناس شرعًا ومنهاجًا، فكأنما قدر الإنسان ألا تشرق عليه شمس الحضارة إلا حيث يمتد نظره إلى ما وراء حياته الأرضية”.
المفارقة في كتابات بن نبي أنها رغم المكون الاسلامي البارز في مرجعيتها وتكوينها، لكنه لا يذهب لاستخدام النصوص الدينية إلا في أضيق الحدود، فلا يحتمي في آيات الله ولا يحتكر تفسيرها، لكنه يتحدث في كافة الأمور معبرا عن وجهة نظره الشخصية التي يوسع من سلطتها أحيانا عبر حديثه فيجعل وجهة نظره تعبر عن تقاليد مجتمعاتنا العربية والإسلامية، لكنه عندما ينتقد الكثير من السلوكيات العربية والإسلامية التي تسببت في تخلفنا يكسر هذه السلطة المجتمعية للتقاليد العادات التي يظهر أنها في كثيرًا الأحيان ليست على حق.
الفنون والمرأة
رغم ما يرفعه بن نبي من شعارات إصلاحية إلا أن خطابه ينطوي على رؤية محافظة تجاه الفنون والمرأة والحريات بشكل عام، وهذه الرؤية يمكن فهمها في سياقها التاريخي باعتبارها نتاج لهذه الحقبة التاريخية وما كانت تعيشه الشعوب المستعمرة من أزمات وتحديات، خاصة الشعوب العربية التي كانت في أزمة هوية وسؤال مركزي حول الحداثة والهوية، فضلا عن كون كثير من مفاهيم التعددية والحقوق و الحريات لم تكن تبلورت بالصورة التي ظهرت بها في العقود الثلاث الماضية حتى أصبحت حقوق بديهية في كثير من الدول.
في فصل بعنوان “مشكلة المرأة” يشير بن نبي إلى أن مشكلة المرأة ليست شيئًا يبحث منفردًا عن مشكلة الرجل، فهما يشكلان في حقيقتهما مشكلة واحدة هى مشكلة الفرد في المجتمع، مشيرا إلى أن: “مشكلة المرأة متعددة الجوانب، ولها في كل ناحية من نواحي المجتمع نصيب، فالمرأة تشترك في كل نتاج إنساني أو هكذا يجب ان تكون، ولن يكون تخطيط حياتها في المجتمع مفيدًا إلا إذا شارك في وضع تصور لدور المرأة في المجتمع علماء من كافة المجالات، من علماء النفس، والاجتماع، والتربية، والأطباء، والشريعة، ولسوف يكون التخطيط حتمًا في صالح المجتمع، لأن علماءه والمفكرين هم الذين وضعوه”.
بينما في فصل بعنوان “الفنون الجميلة” يقول بن نبي: “أحب أن أخص بالحديث الموسيقى والسينما، وهما اللذان يعتبران وسيلتين من وسائل التهذيب الشعبي، إن أغلبية البلاد العربية تابعة لمصر في هاتين الناحيتين، فالسؤال إذن هو: ما قيمة الموسيقى والسينما في مصر؟، لقد سمعنا بلا شك نحيب الأنوف، والشهيق الذي يتكرر ألف مرة، والذي يسمى بالموسيقى المصرية، فهل هذا موسيقى؟ إن الموسيقى المصرية ليست فنًا متصلًا بقيمة بل هى فن يتصل بالعدم، إلا في بعض الحالات الاستثنائية، وهذا الفيلم المصري، ماذا أفادنا؟، وماذا اقترح علينا؟، وأيًا ما كان الأمر فإن البلاد العربية والإسلامية يجب أن تتحرر من هذا الغل الخلقي التهذيبي_وهو أخطر الأغلال_لكي تنقذ ذوقها الفني”.