دعوات الطعام من انجح وسائل التوادد والتواصل الاجتماعي
يعتبر الكثيرون في العالم أنّ الطعام هو مرآة للفرد والمجتمع، حتى باتوا يستخدمون عباراتٍ مثل “قل لي ماذا تأكل، أقل لك من أنت”، أو “نحنُ ما نأكله” في كثيرٍ من أحاديثهم ونقاشاتهم.
يُساهم الأكل في صنع الذات، أيْ أنك تصنع جزءًا من ذاتك حين تتخذ القرارات وتحدد الخيارات المتعلقة بأكلك والطريقة التي تأكل فيها، والتي من خلالها تستطيع أن تعكس صورةً جزئية عن نفسك وذاتك. كما تعكس فلسفة الغذاء الجوانب الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والفنية والدينيّة للفرد والجماعة، وتحاول الوصول إلى نوعٍ من فهم الذات والأصالة الذاتية، اللذين يُعتبران ضمن الأهداف الرئيسية للسؤال الفلسفيّ.
أما سيكولوجيًّا؛ فتلعب الكثير من العوامل النفسية مثل المعتقدات والعادات والقيم والتجارب السابقة والذكريات، وغيرها الكثير، دورًا مهمّا في الطريقة التي يتعامل بها الفرد مع طعامه وخيارات أكله. ونظرًا لأن تلك العوامل ترتبط بالعقل والعاطفة بشكلٍ أساسيّ فإنها تختلف من شخصٍ لآخر، ومن زمنٍ لآخر، تبعًا لتغيّر الأفكار والمزاج والمواقف والخيارات.
الطعام ومفهوم الذات
جزء كبير من تكوينك لذاتك، ورسم مفهومك الخاص عنها، يعتمد على ترتيبك للعالم الخارجيّ من حولك بطريقةٍ تنسجم مع داخلك ومكنوناتك. وأنتَ حين تحدّد علاقتك الخاصة والفردية بالطعام وما تأكله، بعيدًا عن ما يمليه عليكَ المجتمع أو البيئة المحيطة، وحينما ينطوي تعاملك مع الأكل والطعام على ما أنتَ تريده، أو ما تراه يجلب لك السعادة، أو ما يجعلك راضيًا عن ذاتك متصالحًا مع نفسك، وما فيه من خيرٍ لك، فإنك بذلك تكون قد رسمتَ ذاتًا منفردة لنفسك، وهو ما يتوافق مع مفهوم الأصالة في الفلسفة.
ولا يمكننا إنكار حقيقة أنّ اختيارنا لبعض أنواع الطعام تعتمد على الطريقة التي نشعر بها، تخيّل مثلًا تناولك لقطعة من الشوكلاتة أو المثلجات لتهدئة مشاعر القلق أو التوتر والإجهاد التي تنتابك، أو ميلك لتناول شيءٍ مالح بطريقة غاضبة لقمع غضبك وغيظك من مسألةٍ ما.
وممّا لا شكّ فيه، سواء لاحظتَ ذلك أم لا، فيرتبط الطعام بالطريقة التي تمليها عليكَ مشاعرك وانفعالاتك بمراحل الحياة المختلفة، وليس أدلّ على ذلك من قيام والديْك بتهدئتك عن طريق الحلويات أثناء بكائك أو غضبك، ومحاولة تحسين مزاجك السيء بالطعام الذي تحبّ في طفولتك.
وفي مراحل متقدمة، لا بدّ وأنك استخدمتَ الطعام لمكافأة نفسك عندما تشعر ببعض المشاعر الإيجابية، مثل تحقيقك لهدفٍ معيّن، أو رضاك عن نفسك حيال أمرٍ ما، فتذهب عند نجاحك لمطعمك المفضّل، أو تضع هدفًا بأنك ستكافئ نفسك بهذه الأكلة أو قطعة الحلوى تلك في حال حققتَ مرادك.
ربط العاطفة بالأكل قد يكون جيّدًا في كثير من الأحيان، إذ يصبح وسيلة تتعلم من خلالها كيف يمكنك التلاعب بمشاعرك وعواطفك وانفعالاتك عن طريقه، سلبًا أو إيجابًا.
الطعام يعيد لنا الذكريات
يمتلك الطعام أو بعض أصنافه قوىً قادرة على فتح قنواتٍ واسعة في ذكرياتنا وبعض أجزاء أنفسنا المُهمَلة. فقد تكون فقط بحاجةٍ لوجبةِ طعامٍ واحدة فقط حتى تعود ذاكرتك بكَ إلى سنواتٍ خلت، بكلّ ما فيها من أحداث وذكريات، وتعيد إخباركَ عن نسخةٍ منك عفا عنها الزمن واختفت.
فقد تحتاج لتناول حلوى معينة لتأخذك إلى إحدى ذكريات طفولتك، أو تعود بك وجبة فلافل إلى الوقت الذي كنتَ فيه صغيرًا تركض صباح العطلة لتشتريه للعائلة المجتمعة، وقد تعيد لك وجبة طعامٍ معيّنة تجربة سفرك التي عشتها قبل 20 عامًا على سبيل المثال، وما كانت عليه ذاتك ونفسك وشخصيتك.
إذن فيربطك الطعام بالمكان والمساحة والزمان وهويّتك الذاتية المرتبطة بهما، أو يعيد ربطك بفترةٍ زمنية من تاريخك الخاص، كانت قد تعرّضت للنسيان أو اختفت بفعلِ أحداث الحياة التي لا تهدأ ولا تسكن.
ويساهم الطعام، كما يساهم كلٌّ من السفر والأصدقاء والكتب، في محاولتك لتغيير حياتك، جنبًا إلى جنب الكثير من الأشياء الأخرى. فقد ترى في الطعام فرصةً للهرب من تشوّش حياتك واضطرابها، أو بابًا لتعديل مزاجك السيء والابتعاد ولو قليلًا عن قلقلك، وقد يفتح لكَ إمكانية تجربةِ شيء جديدٍ لم تجرّبه من قبل، ما يعني أن وصلك بعوالم وتواريخ وقصص أشخاصٍ وحكاياتٍ عديدة ارتبطت بهذا الطبق أو ذاك.
أما حين يرتبط الطعام بالسفر، بمجرّد تجريبك لأكل المكان الذي أنتَ فيه، سواء أعجبك أم لم يعجبك، فأنتَ بذلك تكون قد شكّلت رابطةً وكوّنت علاقةً أكثر قوة بذلك المكان، وسكّانه، وتاريخه، وثقافاته.
الطعام كوسيلةٍ للتواصل
يلعب الطعام دورًا كبيرًا في اتصالك مع الآخرين، وتقوية علاقاتك مع أصدقائك ومعارفك، فوجبة واحدة مشتركة مع أحدهم قد تفتح الأفق للكثير من النقاشات والأحاديث التي بإمكانها أن تعرّفك أكثر على الطرف الآخر.
كما يُعتبر الطعام وسيلةً لتجمّعك بمن تحبّ، فأنتَ مطلقًا لن تكون مستمتعًا بتناول وجبتك المفضلة أو مشروب المحبّب إلا برفقة من تحبّهم أو من ترتاح لقربهم.
يمكن لطاولة طعامٍ واحدة أن تعبّر عنك حين تخذلك اللغة، وتجد نفسك غير جيّد في العثور على الكلمات والأحاديث، أو تتعثّر في تعبيرك عن نفسك ومشاعرك، وتدخل في تعقيدات ذاتك وعواطفك.