الوحدة خير من جليس السوء.. مثل قديم بتجليات حديثة
يمكن تعريف “الوِحدة” بأنها حالة عاطفية يشعر فيها الفرد بالفراغ والعزلة، وهي أكثر من مجرد الشعور بالرغبة بالتواصل مع شخص آخر، وإنما تنطوي على شعور قوي بالانفصال والاغتراب عن غيره، بحيث يصبح من الصعب أو حتى من المستحيل، في بعض الأحيان، أن يكوّن أي شكل من أشكال الاتصال البشري ذات المغزى.
يجب أن نتفق في البداية أن الشعور بالوحدة لا يتعلق أساسًا بعدم القدرة على الارتباط بالآخرين والتواصل معهم، فلا يزال الشعور بالوحدة أو “أن تكون وحيدًا” مفهومًا لزجًا يختلف من شخص لآخر ومن وقت لآخر، فبعض الأفراد يشعرون بها بمجرد بقائهم ليلة واحدة وحدهم، في حين أن هناك من يستطيع أن يبقى شهرًا كاملًا بالحد الأدنى من التواصل والاتصال مع غيره دون أن يرى نفسه وحيدًا، وبكلمات أخرى فبعض الأفراد يفضلون البقاء وحيدين منفصلين عن المجتمع حولهم، وآخرين وعلى الرغم من كثافة تواصلهم الاجتماعي فإنهم لا يزالون يشعرون بالوحدة أو يرون أنفسهم وحيدين.
من الناحية التطورية، فإن الشعور بالوحدة جزء أساسي وطبيعي من كوننا بشرًا، ومن قدرتنا على البقاء على قيد الحياة.
فلو نظرنا للجماعات البشرية في بداية التاريخ، لوجدنا أنها لم تكن إيجابية بشكل مطلق تجاه بعضها البعض، وإنما احتوت حياتهم على أضرب عديدة من الاستغلال والنفاق والخداع والتهديد والكره والقتل وما إلى ذلك، ويرجع السبب للطابع التنافسي التي كانت تعيشه تلك الجماعات في سبيل البقاء ومواصلة التكاثر والنسل.
اختيار الصديق والتواصل الاجتماعي كان دومًا يخضع لسؤال البقاء والنجاة عند الإنسان الأول، مما أنتج بشكل لا واع نوعًا من العزلة الاجتماعية وتفضيل البقاء بعيدًا عن الآخرين، فخطأ واحد بالاقتراب من فرد قد ينكشف أنه عدو لاحقًا سيكلفه حياته بأكملها، ومن هنا نشأ تحيزنا البشري تجاه الآخرين، وصعوبة إنشاء العلاقات الاجتماعية معهم.
ومن منظور تحفيزي، فنحن حينما نشعر بالوحدة أو نكون وحيدين تتحفز لدينا الرغبة في إصلاح أو استبدال الاتصالات المفقودة أو المهددة بالفقد مع الآخرين، وبالتالي فسنولي المزيد من الاهتمام للجماعات من حولنا وما فيها من معلومات بهدف إعادة الاتصال معهم وإعادة بناء الروابط الاجتماعية أو تكوين الجديد منها.
تنشأ الوحدة نظرًا لأسباب كثيرة، أهمها أن الإنسان يحتاج لصرف الكثير من الطاقة للحديث والتواصل مع شخص آخر والاستماع لأحاديثه ومشاركته يومياته وتجاربه، وجعل حياته وعواطفه وأفكاره مركزًا للمحادثات معه، لذلك لا تلم غيرك حين يعجز عن فهمك أو يفشل في التركيز معك أثناء تواصلكما معًا.
سايكولوجيًا، فإننا نميل كبشر لنكون غريبين، كل بغرابته الخاصة والمتفردة، الأمر الذي ينعكس على جعلنا – جميعًا – ليس من السهولة بمكان أن يتم التعايش معنا، وقد يكون السبب الرئيسي وراء ذلك هو حاجز الصمت والسرية الذي نبنيه حول أنفسنا مما يؤدي إلى صعوبة فهمنا لأنفسنا ومشاكلنا، وبالتالي فإننا جميعًا نمر بالأوقات التي نكون فيها عاجزين عن فهم أنفسنا، غير أننا نتوقع من الآخرين ذلك، وهذا ما يعزز شعورنا بالوحدة أو قد يشجع عزلتنا ويبرر لها.
قد يكون من المستحيل أن تجد الشخص الذي يفهمك تمامًا، فالبشر نتاج مختلف لعوامل كثيرة مثل البيئات والتجارب والخبرات والجينات، مما يؤكد أن أفكارك ورؤاك وعواطفك ومعتقداتك قد لا تجد من يطابقها أبدًا، أقول ربما على أقل تقدير، لذلك يجب عليك أن تتوقف عن البحث عمن يفهمك تمامًا، وتعي أنك مهما حاولت لن تجد التطابق الكامل، وأن التقاءك بذلك الشخص مجرد احتمال ضئيل لا أكثر.
الوحدة والهوية الذاتية
جميعنا نستمد هويتنا من العالم الذي حولنا، ففي مراحل العمر الأولى يكون الطفل أو الرضيع مزيجًا من العوامل البيولوجية المتنوعة التي ليس لها سوى القليل من السلطة على هويته، ثم يبدأ شيئًا فشيئًا ومع تقدم مراحل عمره في تكوين شخصيته ونظرته للعالم من خلال الاحتكاك به واكتساب المعرفة والإدراك من خلاله، وتكوين العلاقات والترابط والاتصالات مع الأشخاص المحيطين به.
وبكلمات أكثر اختصارًا، جزء كبير من هويتنا وشخصيتنا نستمده من العالم حولنا ومن التفاعل مع الآخرين، ما يعني أن جزءًا كبيرًا من رغبتنا في الاتصال بذلك العالم ومن هم فيه ينبع من قلقنا بشأن فقدانه، وبالتالي فقد هويتنا المتعلقة فيه، وهذا ما يفسر لنا ما يحدث حين تتعارض هويتنا الشخصية مع المجتمع أو الجماعة التي ننتمي إليها ونعيش وسطها، إذ نجد أنفسنا غريبين عنه غير قادرين على الانتماء والاتصال.
ينشأ القلق الاجتماعي حين يعجز الفرد عن تحقيق ذاته وفرض شخصيته في المجتمع الذي يعيش فيه، فيصبح في دوامة بين عدم الراحة الداخلي الناشئ جراء الفوضى الحاصلة في الذات والشخصية والهوية، وغياب الراحة من التعامل مع الآخرين ومحاولة الاتصال معهم وجذب اهتمامهم وانتباههم والظفر بفهمهم واحتوائهم لنا.
مفارقات بشأن الوحدة
هناك مفارقة رئيسية بشأن الوحدة؛ ففي حين أنها قد تصل بنا إلى مراحل غير مرغوب فيها أو سوداوية مثل العزلة أو الاكتئاب أو التفكير بالانتحار والإقدام عليه، إلا أننا قد نستطيع من خلالها خلق جانب إيجابي بعض الشيء لأنفسنا، ويمكننا أن نكون أكثر إدراكًا وأكثر مسؤولية عن واقعنا، فالشعور بالوحدة يجعلنا نتأكد من أن حياتنا هي مسؤوليتنا وملكنا نحن، وليست لأحد آخر أو تتوقف عليه.
ليس كل فرد قادر على الخروج آمنًا من وحدته وعزلته، إلا أن أولئك الذين ينجحون في ذلك ويعودون للمجتمع ولمن حولهم، يعودون بفهم أكبر لأنفسهم وللآخرين، فالعزلة الاجتماعية تعزز الاهتمام بمراقبة النفس والآخرين والمجتمع ومحاولة فهم كل ما يتعلق بذلك.
وبمجرد أن تفهم وحدتك وتفهم نفسك خلالها ستكون خلاقًا أكثر في العثور على ذاتك واكتشافها، فقد تكتشف موهبتك في الرسم أو كتابة الشعر، أو قد تجرب السفر واكتشاف العوالم المختلفة وحيدًا، أو قد تبدأ بالبحث عن أشخاص جدد بعيدًا عن الدوائر التي كنت تنتمي إليها فما كان منك إلا أن تجد نفسك وحيدًا بينها.
قد يكون الشعور بالوحدة أو الدخول فيها هو الحل الأفضل للابتعاد عن الجماعات الخاطئة والعلاقات المستنزِفة والمتعِبة، فهو ببساطة ثمن قد نضطر لدفعه للوصول إلى فكرة أفضل وأكثر وضوحًا لما يجب أن نكون عليه نحن، وما يجب أن تكون عليه علاقاتنا وصداقاتنا ودوائرنا الاجتماعية.