فوز احمد شوقي بامارة الشعر يتيح لعباس العقاد امارة النقد
في عام 1927 بايع عدد من الشعراء العرب الشاعر المصري أحمد شوقي أميرًا للشعر العربي، حيث تقدمهم شاعر النيل، حافظ إبراهيم، وهو ينشد:
أمير القوافي قد أتيتُ مبايعًا وهذي وفودُ الشرقِ قد بايعت معي
في هذه الأثناء كان الناقد الشاب عباس محمود العقاد قد كوَّن مع إبراهيم عبد القادر المازني، وعبد الرحمن شكري “جماعة الديوان”، ثم أصدر العقاد والمازني كتابًا بعنوان (الديوان في النقد والأدب)، وقد أفرغ العقاد من النقد الممض لشوقي في هذا الكتاب الكثير والكثير، واتهم شعره بأنه لا روح فيه، كما استنكر تنصيبه أميرًا للشعراء، ووصف هذه الأمارة بالكاذبة! العقاد كان يرى أن شوقي وحافظ لا تجود قريحتهما بالشعر إلا في النوائب والمصائب، وأراد أن يجدد في الشعر وألا يكون الشعر امتدادًا للقدماء؛ فعمد وجماعته الديوان لهدم القديم وبناء الجديد!
لم يغفر لشوقي لدى العقاد أنه أحيا العربية من سباتٍ أُريدَ لها، وأنه ومعه حافظ إبراهيم قد حملا لواء إحياء الشعر العربي الرصين. كما تغاضى العقاد عن ريادة شوقي للمسرح الشعري، وقد كان الخديوي أرسل شوقي -وهو بعمر الخامسة عشرة- في بعثةٍ دراسية لدراسة الحقوق في مونبلييه الفرنسية؛ فعايش شوقي المسرح الشعري الفرنسي، وتأثر بالرمزية الشعرية التي نقلها للشعر العربي لاحقًا. كتب شوقي مصرع كليوباترا كأولى إبداعاته في مجال المسرحية الشعرية، ثم توالت مسرحياته وقد بلغ عددها ثماني مسرحيات شعرية.
لم ينظر العقاد في نقده لمثل هذه الأمور، وربما جاء ذلك لأن العقاد كان ناقمًا على شوقي وحافظ! لأنه رأى فيهما رجعية الشعر، أو لأنه تعامل مع إنتاجهما بجفاءٍ وجفاف. والناقد إن تعامل مع النصوص وهو يملك نظرة مسبقة لها وقد أصدر حكمه قبل الانصهار في هذه النصوص؛ فإنه في الغالب الأعم يكون حكمه متعسفًا. ولعلَّنا نتذكر كيف تعامل الدكتور، طه حسين، مع المتنبي في كتابه (مع المتنبي)، وهو الكتاب الذي نُعِتَ بأسوأ ما كتب طه حسين. شنَّ العميد على المتنبي حملة شعواء مبعثها أنه لم يحترم المتنبي من البداية، وقد دخل قاعة محاكمة المتنبي والحكم يجري على لسانه قبل أن يستنطق المتنبي بكلمةٍ واحدة، بل لقد رمى المتنبي في عروبته! ويختلف الأمر تمامًا عندما تناول العميد سيرة أبي العلاء المعري؛ فلقد أحسن رفادته وتولى ضيافته، وقدم لنا أبا العلاء في ثيابٍ قشيب وعرضٍ مهيب.
نادى العقاد بضرورة تجديد الشعر، ثم دارت الأيام دورتها، وأعلن المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب -عُرف لاحقًا بالمجلس الأعلى للثقافة- عن مسابقة شعرية، وفي هذه الأثناء كان صاحب العبقريات مقرِّر لجنة الشعر بالمجلس. تقدَّم الشعراء الشباب ومن بينهم؛ أحمد عبد المعطي حجازي، وصلاح عبد الصبور للمسابقة، وكانت المفاجأة أن رفض العقاد قصائدهما، وحولها إلى لجنة النثر للاختصاص؛ لأن الشاعرين قد خرجا على عمود الشعر العربي التقليدي!! وثارت حفيظة عبد المعطي حجازي وكتب قصيدة هجاء حمل فيها على العقاد، واتهمه بأن التجديد الذي نادى به وهاجم لسببه شوقي وحافظ؛ لم يزد عن كونه محض دعاوى أراد بها النيل منهما!
والأيام على عادتها تدور لا تلوي على أحد، يجلس عبد المعطي حجازي في نفس مكان العقاد، ويتولى رئاسة لجنة الشعر في المجلس الأعلى للثقافة، وينادي بضرورة إعادة إحياء مآثر شوقي وحافظ، وإعادة الشعر العربي لسابق عهده بعدما تراجع عن دوره -كديوان للعرب- لصالح الرواية. وفي ذلك تأكيد على الدور الذي لعبه شوقي في الذود عن الشعر العربي، وقد تولى الشعلة من أستاذه البارودي، ونهض للمهمة بكل ما أوتى من قوة وإلى جواره حافظ إبراهيم.
أضاف شوقي الكثير للشعر العربي من خلال ثقافته الواسعة؛ فقد تبحر في دراسة تاريخ مصر الفرعونية، ثم درس التاريخ الإسلامي بعناية، وعاصر الهموم العربية في الشرق الإسلامي، وقد أتاح له ذلك التنوع الواسع في تناول الموضوعات. ولأن المنحة ربما تكمن في ثنايا المحنة؛ فإن القهر الذي شعر به شوقي إثر قرار الإنجليز نفيه من مصر عام 1915 قد أثرى حياته، وأضاف أبعادًا مهمة في شعر شوقي. اختار شوقي منفاه بعناية شديدة؛ فصوَّب نظره إلى أمجاد المسلمين الضائعة في الأندلس، وذاب عشقًا في تلك البلاد لما تحمله من عبقِ الحضارة الإسلامية التي أنارت أوروبا وانتشلتها من عصور الظلمات، وفتحت لها الباب للعلم ودخول عالم الحضارات.
أشاح شوقي بوجهه عن سراى الخديوي بعدما لمس في الأندلس أن القصور لا تبقَ على حالها، وقد تمثلت بين عينيه ملامح قرطبة وإشبيلية وغرناطة، وهي خاوية من العرب والمسلمين إلا من بعض أطلالهم؛ فأدرك أن لقب “شاعر الحضرة الفخيمة الخديوية” الذي كان يستهويه سابقًا لا قيمة له، وأن القيمة كلّ القيمة في الحفاظ على الأوطان من بغي العتاة وظلم الجبابرة، كي يصان الوطن لتجد في ربوعه الأجيال القادمة الأمن والسلامة والطمأنينة، ولا يطاردها ذل الاستعمار وقلق المطاردة، وشبح التضييق والحرمان من أبسط الحقوق.
صدح شوقي بشعره يستنهض الهمم، ويحارب اليأس والانكسار، ويستخرج من كنوز التاريخ العربي والإسلامي ما يعينه في إيصال رسالته. لم يصبه الوهن في قدرات أبناء جلدته، وكان يثق أن القومية العربية تستحق أن يضحي لأجلها بكل ما يملكه من وقت وجهد، ولم يتقاعس عن أداء مهمته على النحو الذي يخدم به قوميته.
لم يحفل شوقي بالرد على من هاجموه واتهموه بالولاء للقصر على حساب أبناء وطنه؛ فهو يدرك أن الإنسان ابن بيئته ةقد شبَّ على الطوق بين أحضان جدته لأمه التي كانت تعمل بقصر الخديوي، وقد أحسن الخديوي إليه في صغره؛ فكان من نافلة القول أن يجري لسانه بمدح الخديوي. وحين زار فرنسا لدراسة الحقوق، وتعرَّف على القضية المصرية عبر انخراطه مع زملائه في جمعية التقدم المصري؛ فقد تغيرت نظرته للأمور عما كانت عليه، وبعودته لمصر بدأ في مهاجمة الإنجليز وهو ما أغراهم بالتخلص منه بالنفي.
يظل أحمد شوقي على رأس قائمة الشعراء الذين امتدحوا سيد البرية صلى الله عليه وسلم وقد عارض جميع قصائد الإمام البوصيري، كما عارض البحتري في سينيته، وابن زيدون في نونيته، كما يعد شوقي أغزر شعراء العربية إنتاجًا شعريًا على الإطلاق؛ فقد كتب ثلاثة وعشرين ألف بيت وخمسمائة بيت شعر، لا ينافسه في هذا الرقم أحد شعراء العربية قديمًا ولا حديثًا.
كان الشعر ينثال على لسانه وقلمه في كل وقتٍ بأريحيةٍ وعذوبةٍ بالغتين؛ فكتب قصيدة النخيل في غضون ساعتين، وقصيدة النيل التي ترنمت بها كوكب الشرق حاكها في ليلةٍ واحدة، أما رائعته “قفي يا أخت يوشع خبرينا” وعدد أبياتها ثمانية وأربعين بيتًا؛ فقد نظمها في جلسةٍ واحدة.
وقد بلغت عبقرية شوقي الشعرية أن يكتب أربع مسرحيات شعرية في وقتٍ واحد؛ فكتب قمبيز، علي بك الكبير، النجيلة، والست هدى في وقتٍ متداخل لا يشغله عملٌ عن عمل، وهذا سرٌّ تفرَّد به أمير الشعراء ومن على شاكلته من العظماء.