مشروع “إعادة الإعمار” في سورية
بقلم: د. بهجت سليمان

سننظر في مسألة “إعادة الإعمار” ، كحلقة أخيرة من سلسلة “تحليل الحرب” ، بوصفها مناسبة تاريخيّة تتّصل بجملة من المسائل السّياسيّة الدّاخليّة و الخارجيّة ، و الصّعوبات الاجتماعيّة و الاقتصاديّة و الثّقافيّة (و الإعلاميّة) و التّربويّة و العلميّة و الإداريّة ، و ما إلى ذلك من لوازم تتّصل بمضامين هذه الأمور .
و لعلّ الأصدقاء القرّاء يدركون معنا أنّ مشروع “إعادة الإعمار” في سوريّة ، لِما خرّبته الحرب ، لا يعني تلك “الورشة” العملاقة التي يجب أن تبدأ في إعادة إنتاج معالم العمران و البنى التّحتيّة و الّلوجستيّة التي دمّرتها الحرب ، فحسب ، و إنّما يعني أموراً أبعد من هذا ، أيضاً ، و بكثير .
و بالمناسبة ، هنا ، علينا أن نتّفق على أنّ المباشرة في هذا المشروع “التّاريخيّ” (إعادة الإعمار) لا يشترط توقّف أعمال الحرب المسلّحة توقّفاً تامّاً و نهائيّاً ، باعتبار أنّ تداعيات “الحرب” من الأعمال الإرهابيّة و التّخريبيّة سوف يستمرّ ، بطبيعة الحال ، ريثما تُجفّف “الدّولة” آخر مستنقع للجريمة المسلّحة التي مارستها و تمارسها أدوات الحرب ، و الذي يرتبط ارتباطاً أكيداً بتجفيف آخر هذه الأدوات و معها هؤلاء الذين يمثّلونها من إرهابيي السّلاح و السّياسة ، في وقت معاً ، من منظّمات تكفيريّة و قوى إرهابيّة و “معارضات” انفصاليّة و انقساميّة ، و دول إقليميّة وراءها.
و نذهب إلى أكثر من هذا حينما نقول إن المباشرة في مشروع “إعادة الإعمار” ، هي بالذّات خطوة كبيرة ، بالإسهام في إنهاء مظاهر الحرب الباقية و المختلفة ، من جانب أنّ “موضوعة” البناء تعمل في الاتّجاه المعاكس لحالة الحرب التي تلخّصها موضوعة “الدّمار” و “التّخريب” .
و ربّما يبدو أنّ الحديث في مسألة “إعادة الإعمار” هو حديث “بسيطٌ” و مفهومٌ و عمليّ محض ، مع أنّ “المسألة” ، هي ، في الحقيقة ، “مشكلة” أو قُلْ – و هذا في الأقلّ – “إشكاليّة” يجب أن يُنظر إليها في ضوء تركيبها , و هذا عندما ننظر إليها – و يجب أن ننظر إليها – من جانب المسؤوليّة الوطنيّة الشّاملة و الواجب السّياسيّ في الحدّ الأدنى ؛و إن زدنا ففي ضوء الواجب الأخلاقيّ .. !
باتت الجغرافيا السّوريّة في “قلق” واقعيّ مفهومٍ ، جرّاء ما انتابها من انتهاكات مباشرة من قبل دول عالميّة و إقليميّة و قوى و “مشاريع” وظيفيّة داخليّة انفصاليّة و اعتدائيّة و عدائيّة عليها ، مرتبطة بتلك الدّول المحرّضة و الدّاعمة و مدعومة منها ، مباشرة ، أو غير ذلك .. بغية إضعاف طاقة الكتلة الوطنيّة السّوريّة ، الكلّيّة التّكوينيّة منها و الدّفاعيّة ، و الاستراتيجيّة ، و المرتبطة بالمجال الاجتماعيّ و الحيويّ و الاقتصاديّ و السّياسيّ و الإقليميّ .
يقترن ذلك بالضرورات الاجتماعيّة و الاقتصاديّة و السّياسيّة لعمليّة “إعادة الإعمار” السّريعة و الضّروريّة و الملحّة ، الأمر الذي يشكّل ضغطاً سياسيّاً “واقعيّاً” على مشروع الإعمار الجديد ، و يجعله – ربّما – حالةً ابتزازيّة للدّولة السّوريّة ، تمارسها فروض “المقايضات” السّياسيّة الدّوليّة علينا ، في غضون “الشّهوة” الماليّة الدّوليّة المتطلّعة إلى مشاريع ربحيّة خالصة و مغرية لرأس المال الإمبرياليّ و رأس المال الكولونياليّ الرّيعيّ و الخدميّ المندمج مع رأس المال الاحتكاريّ العالميّ .
إنّ التّحدّي الأوّل ، إذاً ، هو كيف للدّولة السّوريّة أن تتعامل مع هذا المأزقِ الوشيك ؟
ليس على الّلغة السّياسيّة أن تُجاهر ( أو تزايِدَ ) بالحلول الأخلاقيّة عندما يتعلّق الأمر بوضع العالم المعاصر .
و يوماً بعد يوم تتكشّف تلك العلاقة المتداخلة و المعقّدة بين السّياسة و الاقتصاد . و من الواضح هنا أنّنا نتحدّث ، ضمناً ، على هذه العلاقة .
في مثل هذه الحالة تصبح كلّ لغات الخطابة السّياسيّة البليغة ، خارج سياق البحث و الدّرس و الحديث .
يرغب الغالبيّة من “المواطنين” بحلولٍ سحريّة ، و يحتاج إليها ، إزاء ما سوف يعترضنا ، يعترض الدّولة في سورية ، من إشكالات عندما سيكون مطلوباً منّا دخول أو مباشرة العلاقات الاقتصاديّة مع “الشركات” و “الدّول” التي ستدخل الدّولة السّوريّة معها في العمليّات و الإجراءات العقديّة في التّنفيذ .
و نستطيع أن ننظرَ إلى تعقّد هذا الوضع بشكل أعمق عندما نعرف – و هذا معروف ، على كلّ حال- مدى تداخل “الدّول” ، بعلاقاتها ، مع “الشّركات” العالميّة نفسها ، و بخاصّة في ظروف الاحتكارات العملاقة العابرة للدّول و القارّات .
أمام هذا “الوضع” ، من العمليّ أن تتَّجه الدولة إلى تسوية استثمارات سياسيّة نستفيد منها على المدى القصير و السّريع و المتوسّط ، في معرض علاقاتنا العقديّة المختارة مع الشّركات و الدّول .
يعني أنّنا قادرون على أن نكون “براغماتيين” ، أيضاً ، كما سائر العلاقات السّياسيّة- الاقتصاديّة الأنجح في العالم ، فنتدبّر ، عندئذٍ ، الحلول المطلوبة في إطار العلاقات الاقتصاديّة النّاشئة في ظروف “إعادة الإعمار” .
إنّ “المقايضات” السّياسيّة هي لغة العالم ، اليوم ، حتّى في دولهِا الأقوى (و الأمثلة واضحة أمامنا .. !) ، ناهيك عن الدّول التي لا تجد البدائل أمامها بالوَفرةِ المناسبة في ظروفها المحلّيّة منها و المحيطة بها في إطار الجغرافيا الإقليميّة أو المصاقِبة أو في علاقاتها بالعالم الأوسع .
ومن الهامّ هنا أن نذكر أن توجيه أسد بلاد الشام : الرئيس بشّار الأسد ، الحكومةَ بالتّوجّه إلى “الشّرق” ، في هذا المضمار ، هو أحد الحلول الجوهريّة الضّروريّة و الواعدة و واسعة الاختيار .
إذاً يجب أن تكون الضّرورات الاستراتيجيّة مقترنة مع خياراتنا المبدئيّة في التّعاقدات الاقتصاديّة ، و مرتبطة بمواقفنا السّياسيّة التّفضيليّة مع الدّول و الكتل الدّوليّة التي أبدت مواقف “عادلة” من الحرب على سورية، لا سيّما أنّ مبادئ التّعاقد الاقتصاديّة على مستوى المشاريع الكبيرة – و هذا ما يعرفه الاقتصاديّون ، جيّداً- تتمتّع في تشريعاتنا الاقتصاديّة السّوريّة بمرونة عالية من حيث اختيار “العطاءات” العقديّة على أسس مختلفة و التي منها “العقود المباشرة” في ظروف محدّدة يمكن التّعلّل بها ، أو تلك التي منها ، كذلك ، أساليب “المناقصات” بأنواعها المختلفة التي تتضمّن ، أيضاً ، هوامش نوعيّة ، و يمكن أن تكون مقصودة ، في شروطها “القانونيّة” التي يمكن لنا أن نحدّدها في “دفاتر الشّروط” العائدة لمواصفات و طبيعة و “زمان و “مكان” التّعاقدات و التّوريدات ، أو منح التّسهيلات .
لا نقصد ، هنا ، الدّخول في درسٍ اقتصاديّ معروف للمختصّين ، و لكنّنا نذكّر بتلك “الهوامش” الواسعة في “أنظمة العقود” و التي يمكننا بها تمرير مواقفنا السّياسيّة ، رسميّاً ، و التّشبثّ بها أمام “القانون الدّوليّ العام” و “مبادئ التّجارة العالميّة” ، و التي على “الحكومة” الالتزام بها في ضوء رقابة “سياسيّة” و “أمنيّة” مباشرة على ذلك .
نحن ، فعلاً ، سنخوض حرباً اقتصاديّة – سياسيّة “داخليّة” ( إداريّة ) و “خارجيّة” ( سياسيّة ) في البعد الاقتصاديّ ، على الأقلّ ، لمشروع “إعادة الإعمار” ، من جديد .
في هذا الصّدد يجب أن نعرف جيّداً- و هذه فرصة اقتصاديّة و اجتماعيّة تاريخيّة و نادرة- كيف نشارك “القطاع الخاصّ” ( القطاع الوطنيّ غير الحكوميّ ) مع “القطاع العامّ” الحكوميّ في الكثير من ممكنات الاستثمار في إطار مشاريع “إعادة الإعمار” ، و ذلك سواءٌ منه “القطاع الصّناعيّ” أو “القطاع التّجاريّ” أو “القطاع الإنتاجيّ” ؛فنُعيد ، بذلك ، تأهيل هذه القطاعات الوطنيّة إلى جانب إعادة تأهيل القطاع العام ، من حيث الخبرة و العمالة و رأس المال في آن معاً .
و لكنّ الجانب المتعلّق بالاقتصاد و إجراءات الاستثمار في مشروع “إعادة الإعمار” ، ليس هو الجانب الوحيد.. و قد لا يكون الجانب الأهمّ ، أيضاً.. ، عندما سيخضع لضرورات أخرى سياسيّة و هيكليّة و إجرائيّة لا تنفصل عنه .
نحن خارجون ، و سوف نخرج بالتّأكيد ، من حرب مديدة و شاملة و مؤثّرة في العمق و الأفق ، طالت بالتّخريب و الدّمار مجتمعاً بكامله و في كلّ جوانب الحياة الاجتماعيّة و الثّقافيّة و السّياسيّة و مختلف البنى التّحتيّة و الفوقيّة .
و على هذا فإنّ مفهوم “إعادة الإعمار” لا يقتصر ، و لا يمكن له أن يقتصر ، على الجانب الاقتصاديّ المباشر أو العمرانيّ أو ذلك المتعلّق ، و حسب ، بالحياة اليوميّة للمواطنين ، ذلك لأن الأمر في هذا المستوى هو تحصيل حاصل .
إنّ لمفهوم التّخطيط للحاضر و للمستقبل مناسباتٍ مستمرّةً ، و لكنّ الأوقات التي تفرض شئياً أو كثيراً من المسؤوليّة السّياسيّة التّاريخيّة ، كما هي مناسبة “إعادة الإعمار” الشّامل في سورية.. ، يجب أن ينظرَ إليها ، و أن يتمّ التّعامل معها ، كأوقاتٍ قدَريّة يُتيحها لنا الواقع ، كما الخيال العمليّ.. ؛ و لأنْ تكون هذه الأوقات التي تُبنى فيها الأوطان ، من جديد ، أوقات بناءاتٍ حديثةً على كلّ الصّعد الممكنة و التي تسمح بها طبيعة الحاجة و المعاصَرة .
نعود فنؤكّد على أنّ “إعادة الإعمار” فرصة لن تتكرّر في إحداث ما تسمّيه “المعرفة” ب”القطيعة العلميّة” أو “القطيعة الإبستميّة” ( و الإبستمولوجيّة ، أيضاً ) مع الماضي الذي كان ، كما رأينا في أحاديثنا السّابقة ، هنا ، من العوامل الرّئيسيّة المانحة و المساعدة و الحاضنة للحرب و لاستدامة هذه الحرب .
و سنركّز في هذه الدّراسة على الزّوايا “الميتة” أو “القاتلة” ، اجتماعيّاً و سياسيّاً ، و التي نراها من ضمن أهمّ ما يجب على “إعادة الإعمار” أن توليه أهمّيّتها القصوى و الأوليّة ، أيضاً .
الجوهريّ هنا ، هو أنّ “إعادة الإعمار” لا تعني ، بل و يجب ألّا تعني ، إعادة إعمار “الأشياء” بإعادتها إلى ما كانت عليه.. !
لماذا ؟
لأنّه ، و ببساطة شديدة ، نكون كمن يعمل على إعادة إنتاج الحرب أو مقوّماتها و عواملها أو أسبابها و معطياتها “الدّاخليّة” منها و “الخارجيّة” ، أيضاً ، و لو بعد حين..
أتحدّث ، هنا ، على الجوانب و المحدّدات و العوامل و المعطيات البنائيّة “المجتمعيّة” و “الثّقافيّة” و “الإعلاميّة” و “الوظيفيّة” و “الإداريّة” و “التّعليميّة” و “التّربويّة”.. ، إلخ ؛ بالتّأكيد .
كان الكثير من جوانب و عناصر مشكلتنا في تأجيج هذه الحرب واضحاً مع “العقائد” المجتمعيّة العمليّة و الثّقافيّة السّائدة في المجتمع السّوريّ .
فالطّرد السّياسيّ – الاجتماعيّ المركزيّ لعناصر و مفاهيم العدالة الاجتماعيّة و النّاجم عن سوء إدارة الإنتاج و التّنمية و سوء توزيع عوائد النّموّ ، و الثّقافة المنغلقة التي عزّزت هذه “الطّرديّة المركزيّة” ، و ظروف التّخلّف الاجتماعيّ النّاجم عن تعاضدّ الظّرف المعيشيّ المحدود المنضاف إلى تاريخانيّة و أيديولوجيانيّة احتكار تسويغات الوعي “الجهويّ” و “الفئويّ” و “القبليّ” و “الدّينيّ- السّياسيّ” ( أو الطّائفيّ و المذهبيّ ) لتلك الّلا تكافؤات ، و تغييب و غياب مفهوم “الجدوى” الاجتماعيّة ، و إحباطات الكفاءات الفرديّة و الشّخصيّة ، و بالتّالي الإيحاء و الاستيحاء بانسداد الآفاق أمام الطّموحات ، و تكريس كلّ ذلك من خلال “إدارات” حكوميّة ( وظيفيّة ) أنانيّة و محدودة و قبليّة و غاشمة و متوحّشة و إقصائيّة ، ما تجلّى في “إعدام” الفرص لصالح “الزُّمَر” الإداريّة و المدعومة “سياسيّاً” ، إلخ ، إلخ .. ؛
كلّ ذلك ، شكّلَ “الوسط” الدّاخليّ ل”ازدهار” هذه الحرب على هذا النّحو المريع و المأساويّ .
و أنْ نتجاهل كلّ هذا و ما يمتّ إليه و يستدعيه و يُعاود تأسيسه في ظروف “إعادة الإعمار” ، يعني أنّنا نؤسّس من جديد لبيئة أخرى مقبلة للحرب .. !
يرتبط كلّ ذلك ، من جانب آخر ، بطريقة “الدّولة” في إحداث و إنتاج الفروق .
هذا أمر تنمويّ اجتماعيّ و ثقافيّ و سياسيّ أيضاً ، على اعتبار الضّرورة الأكيدة في عمليّة تعميق الفرق العموديّ للوعي المجتمعيّ بالوسائل “الفوقيّة” بالتّأثير .
كان هذا أحد أهمّ ما اشتغل عليه المناضل التّقدّميّ و المفكّر الإيطاليّ ( أنطونيو غرامشيّ ) ، من جهة أهمّيّة “التّأثيرات” النّازلة من “الدّولة” ( البنية الفوقيّة ) إلى “المجتمع” ( البنية التّحتيّة ) ، و الذي كان فيه على خلاف مع من عاصروه من “الماركسيين” في ( إيطاليا ) و في العالم ، أيضاً ، من جهة إيمانه المحقّ بإمكانيّة تجاوز الحتميّة الجدليّة التي تكرّس مفهوم الانطلاق من البنى التّحتيّة إلى البنى الفوقيّة ، و التي تعتبر ( هذه الحتميّة ) قانوناً ماركسيّاً في إنتاج الفرق التّقدميّ و التّاريخيّ ؛
[ أنطونيو غرامشي – أوراق السّجن ] .
لقد لاحظنا في مفاصل هذه الحرب الدّاميّة أنّ مفهوم “الوطنيّة” السّياسيّ ، نفسه ( لا أتحدّث ، هنا ، على مفهوم “المواطنة” ) ، هو ، أيضاً ، لم يكن محلّ حسمٍ اجتماعيّ و سياسيّ في الوعي الجمعيّ العالم لدى الأفراد و القوى الأخرى .
أعني أنّه لم يكن محلّ استقرار في “الإيمان” الفرديّ بالوطن كمفهوم اعتباريّ و انتمائيّ يجب أن يُميّز الانتماء الوجوديّ ل”المواطن” أو “السّاكن” ، و هو يُميّزه ، حتّى في أيّ مجتمع من مجتمعات و دول العالم .. !
لقد كان “الوطن” ، هذه المرّة ، محلّ “الخلاف”.. !!؟؟
و للمثال ، فقد لاحظنا أنّ “البعض” من “المواطنين”(!) .. قد هلّل لِعَلَمِ (إسرائيل) (!!؟؟) ، و لوّح به أمام هيبة “الوطن” متحدّياً و محتقراً حتّى أبسط قواعد الانتماء الوطنيّ الموضوعيّ و الطّبيعيّ و التّلقائيّ و العفويّ ..
هذا نقصٌ “سياسيّ” قاتلٌ في عدّة الانتماء الوطنيّ ، يجب أن تجري من أجله مساءلة “قواعد” و “أدوات” التّربيّة و التّعليم و الثّقافة و “الجامع” و الجامعة و الإعلام .
طبعاً ، هنا ، لا يمكن إلّا لِمُغَامِرٍ أن يسأل قواعد التّربية الأسرويّة أو المنزليّة فذلك من محرّمات “الأخلاق” ، و أعني من أكاذيبها و نفاقاتها المستورة التي تتحصّن فيها في عدائها للوطن .. !
سنبقى ، الآن ، في هذه المفارقة السّياسيّة الوطنيّة التّاريخيّة الصّادمة للوعي و المهينة للعقل .
لم أسمع ، بعدُ ، أنّ أحداً قد توقّف ، بالنّقد العلميّ ـ لا الإعلامي فقط ـ ، عند هذه المأساة السّياسيّة الوطنيّة !
عندما يُحمل علم (إسرائيل) في مظاهرات “الثّورة ” و ” الثّوار”(!) ، فهذا أمرٌ بعيد الدّلالة و مُخزٍ للاجتماع و الدّولة و السّياسة و الوطن و التّاريخ.. !
صحيحٌ أنّنا نؤكّد على واجب الإباحة المؤطّرة سياسيّاً لجميع أنواع التّعدّدية في أطر مدروسة ، و هذا ما نسمّيه في الاستيعاب الاجتماعيّ للقوى الاجتماعيّة التّاريخيّة باسم “الهندسة السياسيّة الجزئيّة” . هذا حقّ مفهومٌ و مقدورٌ عليه ..
و لكنّه في الوقت نفسه حلٌّ اجتماعيّ و سياسيّ ناقص مع غياب الإعلام الوطنيّ و الثّقافة الوطنيّة و الإعداد الوطنيّ . و نحن لهذا نكرّر ، و ليسمعنا العالم ، أنّ هذا الشرق العربي مجتمع قبليّ و متخلّفٌ و ثأريّ ، و مجتمعٌ ما قبل حرٍّ و ما قبل ديموقراطيّ.. بكثير !
و سوف يسألنا ، مباشرة ، سائلٌ ما : و كيف يكون ذلك الإعداد ؟
و سنجيب في الحال .
نحن نعيش في بيئة محلّيّة و مكانٍ عربيّ و منطقة إقليميّة مشوّهة بفعل التّاريخ و السّياسات و الأهواء و القوى المتواطئة مع (إسرائيل) .
عند ( كارل بوبر ) اليهوديّ المتنوّر و المناضل من أجل “العلم” و الوعي الحرّ و “المجتمع المفتوح” و الحرّيّات السّياسيّة التّاريخيّة للشّعوب و المجتمعات ، فإنّ “الصّهيونيّة” العالميّة و (إسرائيل) هي صيغة من صيغ “الحتميّات التّاريخيانيّة” التي يُهاجمها (بوبر) بلا هوادة . إنّها “أسطورة” الحتميّة التي يعمل من أجلها جلّ العالم المعاصر ؛
[ راجع (كارل بوبر) في كتابه “أسطورة الإطار” ] ؛
و هذه الأسطورة ( الصّهيونيّة ) ناجمةٌ في نصفها ، على الأقلّ ، عن “الدّعاية” و “الثّقافة” و “الإعلام” ، حيث يتولّى نصفها الثّاني “المال العالميّ” و المستحقّات الماليّة المقدّسة لدولة “الكيان” ( إسرائيل ) ، إضافة إلى “العلم” الذي يبرع فيه “اليهود” (دو الصّهاينة ، أيضاً !) في العالم تقديراً منهم لأهمّيّة العلوم على عكس نظامنا التّاريخيّ الثّقافيّ العربيّ – الإسلاميّ .
هكذا نجد أنّ “إعادة الإعمار” أمام مواجهة صعبةٍ تفرضها عليها جميع سالفاتنا في هذا الحديث ، و في الأحاديث السّابقة على هذا الحديث ، أيضاً .
ستحسنُ مساءلتُنا “التّاريخيّة” ، منذ الآن ، لمشروع “إعادة الإعمار” ، و ذلك استباقاً للتكرار و الأخطاء و الإهمالات و الجهالات ،على ما يمكن أن نستنتج إعادة ممارستها ، مبكّراً ، على ضوء بعض التّجاوزات الوطنية و الأخلاقيّة – التي حصلت مؤخّراً ، في مسؤوليّات “التّربية” و “الإعلام” و غيرها .. – و تجاهلها و احتقارها لصمود الأشراف الوطنيين من السّوريين و انتظارهم و انتظارنا الثّمرات الاجتماعيّة و السّياسيّة لهذا الصّمود ؛
و سيكون ، بالتّالي ، من الضّروريّ أن نسأل :
كيف لم نلتفت عبر تاريخ مديد إلى هذا الجانب الخطير من الوعي “الشّعبيّ” الذي يُفضّل (إسرائيل) على “الوطن” حتّى في الانتماء و أخلاق الانتماء ؟
و هكذا فإنّه في “إعادة الإعمار” يجب هدم معظم “مقدّساتنا” الثّقافيّة و التّربويّة و الإعلاميّة و العلميّة و التّاريخيّة ، تلك التي أوصلت “البعضَ” ( و لو كانوا أفراداً.. ، و هم ليسوا أفراداً على الحقيقة !) إلى “الانتماء” إلى ( إسرائيل ) .
لم تعمل ، عندنا ، المناهج و الثّقافات و الوزارات و الإدارات و المسؤولين و لا التّربية و لا التّعليم و لا الإعلام ، على إظهار “حقيقة” (إسرائيل) كما يجب .
إنّه حتّى يهود العالم الأحرار قاموا بفضح ( إسرائيل ) أكثر ممّا فعلته جميع المؤسّسات الثقافيّة العربيّة و الإسلاميّة حتّى اليوم .. !
أين تعليمنا و تربيتنا و جامعاتنا و “جوامعنا” و أكاديميّاتنا الوطنيّة السّياسيّة و الفلسفيّة و الاجتماعيّة و العلميّة التّطبيقيّة من أعلامٍ يهودٍ عالميين ، قاموا بأنفسهم خدمة للحقيقة العلميّة و التّاريخيّة السّياسيّة و الحريّة و العدالة العالميّة ، بالنّشاط و التّرويج السّياسيّ و الفلسفيّ و الأدبيّ و الأكاديميّ المناهض للصّهيونيّة و لإسرائيل .. ؟
كيف لا تقوم “مناهجنا” التّربويّة و التدريسيّة و التّعليميّة و الأكاديمية بالتّعرّف على أسماء رجال مفكرين و فلاسفة يهود ناصبوا العداء لإسرائيل و للصّهيونيّة العالميّة على الملأ السّياسيّ و المنهجيّ العالميّ ، و الإضاءة عليهم و التّرويج لهم ، من أمثال (كارل بوبر) الذي يؤكّد أن الصّهيونيّة هي أصل “التّاريخانيّة” هذه التي تُعتبر غلافاً للصّهيونيّة و العنصريّة الجذريّة، و (نعوم تشوميسكي) و جهوده في “النحو التوليدي” غير التّقليديّ الذي تطرّق فيه إلى خرافات التّاريخ و منها الصهيونيّة و (إسرائيل)، و (أرنست بلوخ) و (جورج لوكاتش) و (آرثر كوستلر) و روايته “لصوص الليل” عن الصّهاينة، و روايته “القبيلة الثالثة عشرة” التي يؤكّد فيها تهافت تفاهات و سخافات الدعاوى الصّهيونيّة حول الأصل المشترك لليهود ، و التي بيّن فيها أن يهود شرق أوروبا لا يتحدّرون من أصول “ساميّة” بل من “جماعات تركية” عاشت في غرب آسيا و اعتنقت اليهوديّة لاحقاً في “العصور الوسطى” ، (و أينشتاين) ، نفسه ، صاحب الموقف السّياسيّ الشّهير من دعوته إلى رئاسة (إسرائيل) ، و اليهوديّ “النّبيل” صديق (بوبر) و مؤرّخ الفنون البصريّة الشّهير(إرنست جومبريش)… ، و غيرهم ؛ و جميعهم كانوا يهوداً أحراراً و على عداء مستحكم مع (جابوتنسكي) ،
[ اليهوديّ الصّهيونيّ المتشدّد (زيئيف فلاديمير جابوتنسكي) – المولود في أوكرانيا (1880- 1940م ) والأب المؤسّس لليمين الصّهيونيّ و أستاذ (ميناحيم بيغن) الإسم الأشهر لرجل الدّولة السّياسيّ في تاريخ العنصريّة الصّهيونيّة] ؛
و جميعهم من روّاد ما بعد الحداثة في القرن العشرين .
من يُعدّ مناهجنا و مؤلّفاتنا العلميّة و التّدريسيّة و الأكاديميّة ، أيضاً.. و ما هي القواعد السّياسيّة و التّاريخيّة التي تُحدّد هذا الإعداد .. ؟؟!
في “إعادة الإعمار” يجب أن نضيء عالم الوعي المظلم في عقول النّاشئين و التّلاميذ و الطّلاب و الجامعيين و الأكاديميين و السّياسيين ، بواسطة محصّلات تثقيفيّة و تعليميّة مختلفة جذريّاً ، و ليس في أن نعيد تأسيس الفواصل الحديديّة ، الدّينيّة و الثّقافيّة و الأخلاقيّة الكاذبة ، بين عقولنا و عقل العالم ببثّ الخرافات الدّينيّة الهزيلة و زرعها في أخصب الأماكن الاجتماعيّة التّاريخيّة و أعني في عقول الأطفال و التّلاميذ و الصّغار و الكبار..
لا نخرج على حديثنا عندما نتناول محاذير ساهمت في إنتاج مجتمع تاريخيّ منفصل عن نفسه و منفصل عن انتمائه ، أيضاً .
إنّ “الأصولية” و “التّكفيريّة” هي ليست بالإرهاب الدّينيّ و السّياسيّ المسلّح ، وحسب ؛ إنّها ليست في أيديولوجيا الدّين الإسلاميّ فقط !
الأصوليّة في هي في الثّقافة الجاهلة المنظّمة و الثّقافة العامّة الفارغة و في مناهج التّعليم الانعزاليّة الإقصائيّة و التّجهيليّة و الجاهلة .
إنّها في سلطة “الخبراء”(!) و الأكاديميين و محتكري التّعليم و محتكري الفلسفة و محتكري “السّياسة” و “علم الاجتماع”، هؤلاء الذين ينتحرون في كلّ مناسبة انعطافيّة أو “حرجة” من أجل عدم الخروج على الثّقافة النّمطيّة و التّعليم النّمطيّ و الوعي النّمطيّ ، و هذا هو كلّه الذي يشكّل مضمون النّزعات التّكفيريّة و الإقصائيّة الكامنة في “العقل القبليّ” العربيّ- الإسلاميّ .
من الواضح أن مشروع “إعادة الإعمار” هو مشروع مكلفٌ سياسيّاً .
و لكنْ أن نعمل على تبديل المتاح من الأعراف التي انهزّت و اهتزّت في الحرب إلى درجة أصبحت فيها موضوعات نقاشٍ علنيّ ، فخرجت ، بذلك ، من دائرة التّحريم و الرّهبة و الخوف و التّملّق و المجاملات الاستراتيجيّة ، العاتمة ، إلى ضوء العقل الحديث و المعاصر و الذي له من المؤيّدين و الأنصار ما يكفي ليكون محلّ اهتمام سياسيّ بالحاضر الإعماريّ و البنائيّ و المستقبل ، ذلك أن المجتمع هو الأساس الدّائم في انفراق الاتّجاهات السّياسيّة المستقبليّة في التّعدّد و الاختلاف و إنتاج القيم التي تدور عليها التّعدّديّات و الاختلافات .
إنّه لا يُبنى المجتمع من جديد – و هذا هو جوهر “إعادة الإعمار” في رأينا- إلّا في توسّع سياسيّ للدّولة في المجتمع .
إنّ المشكلة الجوهريّة في اندلاع و تأجّج الحرب على سورية ، كانت تكمن في الانفجار الكبير الذي حصل لحرّيّات الجهل المتراكم في المجتمع مع التّاريخ في ظلّ الغياب “المعرفيّ” للدّولة في قوّتها العقلانيّة- النّقديّة الخالصة .
لم يكن ثمّة بناء حقيقيّ للمجتمع .
المجتمع المغلق بالحتميّات و المحرّمات ليس مجتمعاً حديثاً ، يمكن أن تُبنى عليه الدّولة المعاصرة .
الدّولة الحديثة و المعاصرة تُبنى على مجتمع “مفتوح” و حرّ و منفتح ، و أفراد أحرار من سلطة القبيلة و التّحريم و التّقديس و التّخلّف و الجهل .
و في بناء المجتمع و الدّولة من جديد ، فإنّ الأهم في الأولويّات هو إطلاقُ الحرّيّات البشريّة في عقلانيّتها التي تؤسّس على “النّقد” التّفكيريّ ، منذ نعومة أظفار الجميع ، خارج جميع أشكال و ألوان القيود العقليّة التي تُنمّيها الاستئثارات الدّينيّة – القبليّة و النّفاقات الثّقافيّة و الأخلاقيّة قبل أيّ شيء آخر .
واضحٌ ، بناءً على ما تقدّم ، أنّ إعادة إعمار الفرد أو الانسان الاجتماعيّ هو المهمّة الأولى في هذه “المناسبة” التّاريخيّة الانعطافيّة الشّاملة ، التي حتّمتْها علينا حربٌ عميقة تناولت الجذور الاجتماعيّة و السّياسيّة التي كانت عارية أو مُعرّاة في الأصل .
إنّ “الهندسة السّياسيّة الجزئيّة” التي تتوجّه إلى تخطيط و إعمار “الفرد” ، الإنسان الاجتماعيّ ، هي التي تؤسّس لهندسة متوازنة و دقيقة و هيكليّة وطنيّة مناسبة و موافقة لها في المؤسّسة الأهليّة و في المؤسّسة المدنيّة و في المؤسّسة الحكوميّة ، معاً .
و من الأساسيّ أن يعمل مشروع “إعادة الإعمار” على الانطلاقة من “الفرد” الذّرّيّ الذي يُعدّ المادّة البنائيّة “الأوليّة” في تشكيل و إعادة تشكيل البنى المختلفة في الحقول الاجتماعيّة التي تؤسّس للمنظومات الثّقافيّة و العلميّة ، التي تخلق الفضاءات الاجتماعيّة و السّياسيّة التي تُعيد “السّلطة” إلى هيئة ، تعبّر عن اندماج بنى الأداء و منظومات السّلوك و الإجراء و فضاءات الخطاب الوطنيّ في مؤسّسة الدّولة .
طبيعيّ أن نتوقّع التّناقضات في إنجاز هذه “التّشكيلة” الجديدة من بناءات ما بعد الحرب .
و طبيعيّ ، أيضاً ، أن نتوقّع انحرافات عمليّة و تنفيذيّة عن “الصّورة” المُخطّطة للإنجاز .
و لكنّ ما هو غير طبيعيّ ، البتة، هو أن نباشر في هذا المشروع التّاريخيّ التّاسيسيّ و الجذريّ من دون أن نمتلك “الصّورة” المعرفيّة عنه ..
على أنّ هذه الصّورة لا يمكن أن تقرأ ، بالمرّة ، في مجرّد السفسطة الخطابيّة أو الدّعائيّة ؛ إذ علينا أن نقوم برسمها ، أوّلاً ، في نصوص تدعمها جميع المؤيّدات الّلازمة الأخرى في القانون و الضّابطة و الرّقابة و الإعلام و مؤسّسات العقاب الأخرى الكافية مع الّلزوم ، بالإضافة إلى خلق رجالات قادرين (و هم متوفّرون !) ، بحكم تكوينهم و تأسيسهم المسلكيّ و تجربتهم الإداريّة و الاختصاصيّة و السّياسيّة و الوطنيّة و معرفتهم الواسعة بأدوات المعرفة العلميّة و متطلّباتها التنظيميّة، على تقحّم هذه المسؤوليّة التّاريخيّة المطروحة علينا ، على المجتمع و الدّولة ، كامتحانٍ وجوديّ في عصر تجاوز فيه الآخرون أسئلة الوجود .
ثمّة تناقضات سوف تنشأ ، أيضاً ، في سياق علاقاتنا بالآخرين ممّن سيشاركون الدو عمليّة إعادة البناء و الإعمار .. و سوف تتناقض المصالح في هذا “المشروع” .
و هنا تنطرح على الدّولة في سورية ، جملةٌ من الأسئلة المتعلّقة بالمهارات الإجرائيّة التي تتّصل باستمرار “إدارة الأزمة” و ذلك حتّى نستعيد الكثير من مقوّمات القرار السّياسيّ- الاقتصاديّ التي تبدّدت في الحرب .
هنا يجب أن يفهم القارئ ما نرمي إليه من “المساومات” التّاكتيكيّة و الظّرفيّة و المرحليّة تلك التي ستنفرض علينا ، أوّلاً ، في فترات إنجاز معالم الجسور الكفيلة بعبورنا إلى خارج ما يُسمّى “الحدود الحرجة”، في الانطلاقة التي نقيسها بإعادة تشغيل ماكينات و آليّات و ديناميّات استقلال “القرار” الأدائيّ من جديد .
سنواجه شيئاً أو أشياءً من تناقضات الآخرين فيما بينهم ، أيضاً .
و هنا علينا ، بالتّحديد ، أن نعرف كيف نكون قادرين على “التّحكيم” السّياسيّ- التّاريخيّ و إعمال متطلّبات الضّرورات الموضوعيّة في مواقفنا الاستراتيجيّة ، إزاء تلك التّناقضات الخارجة على إرادتنا المعبّرة عن تكييف لتلك التّناقضات ، بما يخدم مشاريعنا كحقل دوليّ موضوعيّ دخلنا فيه بسبب هذه الحرب .
إنّه ليس من نوافل القول ، أن نؤكّد على قضيّة استراتيجيّة وطنيّة لطالما شغلت اهتمامات جميع المنظّرين و السّاسة و السّياسيين ، و لو بدوافع و مرامٍ مختلفة .
ففي أثناء عمليّة “إعادة الإعمار” و معاودة البناء ، فإنّ الأولويّات تختلف ، من طريقة تفكير و تنظير إلى أخرى .
غير أنّه من الحاسم في جميع الأحوال الانتباه إلى أنّ مسألة “الأمن الشّخصيّ” و “الأمن الغذائيّ” و “الأمن الاجتماعيّ” بوجه عام ، هي من المسائل التي ينبغي أن تتصدّر أولويّات إعادة البناء المجتمعيّ في سبيل سياسات وطنيّة تصبّ في أهدافها في “إعادة الإعمار” .
إنّ تلك الشّؤون المتعلّقة بالأمن الوطنيّ ، بعامّة ، هي من أوّل الأسباب التي ستسمح بتذليل و إنهاء عصبويّات و عصبيّات و عصابات “الفساد” و “الإفساد” ، إذ لطالما حيّرت مشكلة الفساد ، هذه ، المنظّرين و السّاسة و المسؤولين ، و ذلك في أيّها هي تلك الأولويّات التي تساهم في التّخفيف من حدّة هذه الظّاهرة المستشرية و المستعصية .
و واضح لدى الجميع أنّ مسألة “تحديد” هذه الظّاهرة و تأطيرها ، إنما هو الأمر الأوّل و الرّئيسيّ الذي يجب أن يكون في موضع العمل و المباشرة في العلاج ، لا سيّما أنّ هذا الإجراء هو إجراءٌ جوهريّ و أساسيّ في سبيل الحدّ من تسرّبات “الجدوى” و “القيمة” في عمليّة البناء الجديدة في مشروع “إعادة الإعمار” .
باختصار ، فإنّه يجب أن يتوجّه “الإعمار” الجديد و ينطلق من أساسيّات هي في جوهرها “حربٌ” أخرى أو استمرار للحرب بوسائل البناء بعد أن كانت الحرب على سورية حرباً بوسائل الدّمار و التدمير و التّخريب و الخيانة و الفساد و الإفساد .
يطول الحديث في “إعادة الإعمار” نظراً لتعقيده و تركيبه ، جرّاء المفارقات و الإعياءات التي دخلنا فيها على مدى سنوات هذه الحرب .
غير أنّ الأهم هو التّخطيط الذي ينبغي أن يكون قد بدأ ، و الذي يجب أن يتناول المنهجيّة الواقعيّة في إطار “العقلانيّة النّقديّة” للحاضر و الماضي ، الّلذين يستمرّان حتّى هذه الّلحظة و يساهمان في تكريس دمارات الحرب .
و لا يمكن لِخطةٍ مسؤولة أن تواجه تحدّيات “إعادة الإعمار” ، من دون أن تكون خطّة شاملة تتأسّس على قواعد “علميّة” و عقلانيّة و “نقديّة” ، بمحمولات اجتماعيّة و سياسيّة و أخلاقيّة و ثقافيّة و إعلاميّة و إداريّة و إجرائيّة و تنفيذيّة و رقابيّة و قضائيّة ، تتكامل فيها النّظرية الحداثيّة للإعمار الجديد ، بواسطة دعمِ مؤيّداتٍ قويّة و واقعيّة و ممكنة و فعّالة ، لتنفيذ هذه الخطّة من كلّ ما تقدّمنا به ، و ما يتّصل به ، في هذا الحديث .
كنّا و لا نزال مشغولين في السّياسة و الاجتماع و الاقتصاد و الأخلاق ، بمضامين طوباويّة حول صورتنا عن أنفسنا و صورتنا عن “الآخر” .
و كان هذا انفصالاً حقيقيّاً عن الواقع أو تجاهلاً له مقصوداً و مخطّطاً له ، من قبل أعداء الدّولة و المجتمع و أعداء التّقدّم و أعداء الإنسان و الأمن و الأمان و الحريّات ؛ و لهذا سوف نبدأ مع صعوبات جديدة من نوع غير مسبوق في أثناء شروعنا في “إعادة الإعمار” ، بحيثُ ستكون ، و يجب أن تكون ، حلول هذه الصّعوبات و التّحدّيات حلولاً ابتكاريّة و إبداعيّة ، تختصر علينا هذه الطّريق الشّاقّة و الطّويلة .
لعلّنا أدركنا ، الآن ، بالتّفاصيل الموجزة أهمّيّة و خطورة و إشكاليّات عمليّة “إعادة الإعمار” التي تنتظرنا .. ؛
على أنّنا ، أيضاً ، قد دخلنا في الصّورة العامّة ، فحسب ، من هذه العمليّة التي ستشكّل بالنّسبةِ إلينا في سورية ، عهداً جديداً من المقاومة و الممانعة و بناء الحاضر و التّوجّه نحو مستقبل آمنٍ و أكيد .
سينتظرنا مستقبلنا ، على كلّ حال ، و ينبغي أن نصلَ إليه ، كما يتوقّع لنا و كما نرجو منه ، سواءً بسواء .