قراءة في منهج المفكر المصري محمود امين العالم

لا يمكن وأنت تكتب عن محمود أمين العالم، إلا وأن ينتفض وجدانك، ذاك الطفل بملامح العجوز، يأسرك بوداعته وبابتسامته وقربه منك، يربكك بتواضعه وكبره ونبله، غيابه يشبه حضوره. هادىء، متواضع، كأن قدر الناس الجميلين أن يرحلوا بصمت.

استحضرناه كلمات مكتوبة،  لينتج هو معناها، لأن نصه لن يكون نصاً عادياً، سيكون مغايراً، لأنه يشبهه. كان نموذجاً للمفكر الماركسي النقدي البعيد عن الجمود، والتعصب والكلاسيكية، معرفته وثقافته الموسوعية كانت رافعة لفكره السياسي والتي نأت به عن ضيق أفق الساسة وقولبة الانتماءات الحزبية الضيقة.

هو الذي ربط بين الثقافة والفكروالسياسة لإيمانه بانخراط الفكر بالفعل السياسي، دون أن يفقد طبيعته كفكر،  ودون أن يصبح أداة ووسيلة لغاية سلطوية نخبوية، هوالعالم بالجدل والتناقض، لا يرتكن الى ثابت وساكن لأنه مهووس بقلق الفكر والمعرفة. حالم بالتغيير والعدالة وملتصق بالناس وهموهم ومناصر لقضاياهم دون خطابية وشعاراتية مبتذلة.

ولكي لا تتحول كلماتنا إلى إنشاء مجاني، سنورد في هذه المقالة التكريمية، بعض الملاحظات النقدية، التي وجهها لثلة من المفكرين والمثقفين على اختلاف انتماءاتهم وأزمانهم ومواقعهم والتي جاءت في كتابه(مواقف نقدية من التراث)الصادر عن دار الفارابي. هذه الملاحظات تحتاج إلى صفحات وصفحات، ولكن لضيق المساحة، سنسلط الضوء على النقاط التي تظهر عمق تحليله ونيل اختلافه وتألق منهجه الماركسي بنقده للآخر وحواره معه.

البداية ستكون مع المفكرالإسلامي حسن حنفي، صاحب المشروع الفكري الحضاري القائم على تمجيد الخصوصية، ذات التوجه الديني والقومي المحكوم بثنائية الأنا والآخرالغربي، دون أن يميز بين التراث الاشتراكي والرأسمالي، أضف إلى ذلك، دعوته إلى بناء مركزية إسلامية، مغلباً الوحي على الواقع في كتابات تخص تجديده الديني، زد على ذلك، وسطيته الفكرية المتماشية مع النزعة الظاهراتية وتطبيقه لمنهج هوسرل، وتبنيه الرؤية الغائية للتاريخ. هذه الأفكار مجتمعة، حرضت محمود أمين العالم ودفعته لحواره، معتبراً أن العقل يفقد عقلانيته ويتحول الى مجرد أداة استخلاصية يقينية نفعية، إذا لم يربط بشروطه الموضوعية وضرورات الراهن. ورأى أن ثنائيته القائمة على الاستبعاد والإقصاء من شأنها أن تؤدي إلى زيادة التغريب والوقوع في فخ الاستغراب المعكوس.

وحتى لا تكون الخصوصية أقنوماً ثابتاً، يجب تحويلها إلى جسر للتلاقي والتواصل، لأن هنالك أفكاراً وفلسفات مشتركة بين الشمال والجنوب تملي علينا توسيع رقعة النضال لتضييق التناقضات.

أما جورج طرابيشي، وفي معرض نقده لمشروع حسن حنفي، فيأخذ عليه العالم وقوعه في فخ اللاتاريخية، عندما يقتصرنقده وتحليله على علم النفس التحليلي، و رأى أن كل عودة إلى التراث السلفي هي بمثابة نكوص وعصاب، وعندها انبرى العالم لمشاكسته معتبراً أن كل عودة تختلف باختلاف الملابسات الوطنية والاجتماعية ومفضلاً التحليل الاجتماعي –الطبقي. ولمواجهة السلفية، يتوجب على العقلانيين العرب التفكيرفي بناء مشروع تنموي واجتماعي تكون الديمقراطية والحرية والعدالة رافعة له.

يتابع العالم نقده ومحطته التالية، ستكون مع نصر حامد أبو زيد، المفكر المجتهد المستنير، الذي استند إلى منهجية قائمة على التحليل الداخلي لبنية النص، لكشف وتوليد الدلالات وبذلك يكون قد غلب، التفسير الثقافي على الواقعي الموضوعي، ومن دون أن يأخذ بعين الاعتبار، أن المنتج الأساسي للنص هو الواقع،  وهذا ما دفع محمود أمين العالم، إلى التأكيد على ضرورة ربط الفكر بالسياق التاريخي الواقعي الموضوعي وكشف قوانين ووحدة التناقضات. أما الوقفة النقدية الأبرز في هذا الكتاب، سيفردها “العالم” لنقد مشروع محمد عابد الجابري، المتحور حول نقد العقل العربي والذي أحال أي الجابري أسباب التخلف العربي ووفق منهجه البنيوي لثوابت معرفية، نهائية، متمثلة بثالوث القبيلة والغنيمة والعقيدة. وعلى أهمية ما يطرحه الجابري حول القبيلة والاقتصاد الريعي والتعصب العقائدي إلا أنه يتناسى بأن أحد أهم أسباب تخلفنا، يعود للتبعية للرأسمالية الاحتكارية والى بنية أنظمة الحكم السياسية، التي عملت على تكريس وإعادة إنتاج ثالوثه. وكل حديث عن تغيير لا يمس أنظمة الحكم، والكلام لمحمود أمين العالم، سيكون طوباوياً وإصلاحياً.

من نقد الجابري، ينتقل محمود أمين العالم الى نقد الفيلسوف العقلاني ابن رشد،  معتبراً أن الرشدية انتصرت خلال مرحلة التنوير الأوربي لأنها تفاعلت وتواكبت مع حركة التغيير الاقتصادي-الاجتماعي، وهي أيضا أسهمت في تنمية الرشدية في الوقت الذي كان مجتمعنا يتخلف ويتراجع، مقدراً ثورته الفلسفية ونقده للفقهاء ورجال الدين. على أن استلهامه في الوقت الحاضر يجب أن يكون مرتبطاً بإنجازمشروع تنموي شامل لأن الذين يضطهدون العقلانية ويمنعوها من أن تتحرر هم أنفسهم الذين يضطهدون الجماهير العربية.

واللافت في هذا الكتاب، هو نبل الاختلاف الذي تحلى به هذا الكبير وهو يعرض أفكار عبد الرحمن بدوي، هذا الوجودي التائه، مقدراً إسهاماته الفلسفية وإخفاقاته، فقد أوجد”العالم “لفلسفته مبررات موضوعية تاريخية، إذ اعتبرت وقتذاك ثورة روحية في وجه التحديث الرأسمالي المفروض بقوة السلاح والاحتلال.

والأجمل، هو تقديره الكبير للتعبير الأدبي البليغ والعبقري لأبي حيان التوحيدي عن أزمته الذاتية الفكرية، التي أتت على شكل تساؤلات متمردة، نابعة من سيكولوجيا الاغتراب والقهر المبنية على أساس واقعي، ومن هنا أتت دعوة العالم إلى ربط الذاتي والموضوعي.  وعلى المقلب الأخر لم يستطع العالم أن يواري إعجابه بالمفكر النهضوي. الحداثي عبدالله النديم الذي عده ظاهرة متكاملة فكراً وسلوكاً، مثنياً على حسه التاريخي ورؤيته النظرية وارتباطه بالقوى الاجتماعية. ولكن صدامه مع السلطة أخفت صوته واسمه، واذا كان من ملاحظات لا يمكن أن تؤخذ بمعزل عن السياق العام لمشروع النهضة، وما يعيب النديم هو موقفه الرجعي من المرأة.

جميل أن ننهي هذا المقال، وكما أنهى محمود أمين العالم، كتابه بالحديث عن طه حسين والذي اعتبره بمثابة الثورة الحقيقية في الفكر العقلاني العربي لما قدمه من إسهامات فكرية –معرفية –نقدية اتسمت بالجرأة وبالروح السجالية وطرقت أبواب التفكير لخروجها عن السائد والمألوف مستنداًعلى المنهجية الفكرية القائمة على الشك الديكارتي ليتوصل فيما بعد الى مرحلة النقد الكامل المرتكز على أدلة موضوعية. واذا كان من ملاحظات نقدية للعالم على فكر طه حسين، فهي ثنائية العلم والايديولوجية وقبوله الدائم لها.

ما أحوجنا، اليوم وفي ظل تعميم الظلامية والتعصب، إلى فكر طه حسين، لأن معركته هي معركتنا التي لم يتم تجاوزها بعد، واستحضاره هو استحضارلكينونته الحاضرة المحاصرة، المهددة لما يمثله من فكر تنويري.

ما أضيق الاختلاف أمام اتساع الأفق الإنساني،  لولا الاختلاف لما تقدم الفكر العربي عبر التاريخ، وسيبقى العقلانيون العرب رغم اختلافهم النبيل تجمعهم جبهة الاستنارة لمواجهة الظلام والتخلف والاستبداد.

ما يمكن أن أتمثله شخصياً من المفكر والناقد والمناضل الكبير محمود أمين العالم هو أن التعبير عن الحب يكمن في نقدنا للأخر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى