إنزلاق المعنى وتغير الدلالة !

بقلم : اسماعيل أبو البندورة

تجبهنا في المرحلة الراهنة التي تتميز بالفوضى والاضطراب جملة من المفاهيم الالتباسية المتضادة حيث ينزلق المعنى ليأخذ دلالات مغايرة وينفصل عن حقيقته ليتكرس في إطارت مختلفة تلغي حقيقته الجوهرية والأصيلة وتأخذه إلى مسارب خاطئة وزائفة الأمر الذي يفاقم محنة الفهم والإدراك ويدخل الناس في متاهات مصطلحية ومفهومية تصعّد اللامعنى والالتباس .

وللتمثيل على ما نمر به من مفارقات واضطرابات نتوقف عند مفهوم الارهاب . هذا المفهوم الغامض الذي تمت صناعته في عقل أمريكي أحادي متغطرس يفتش عن عدو بدأ وهمياً في هذا العقل وتحول إلى حالة وواقع وقانون ، والدولة التي قدمت مضامينه الغامضة  وشرّعته قانوناً بعد أحداث سبتمبر أسمته ” القانون الوطني    Patriot Law ”   وانزلق المعنى إلى دلالات مستحدثة وافتراضية وتقييدات للحرية وضلالات كثيرة تميزت بضيق الأفق السياسي دون أن يكون هناك تعريفات محددة للإرهاب والارهابي ، وطولبت الدول والعالم بأسره بآمر وتبعات الهيمنة والاستتباع إلى تبني التعريف الغامض ومنزلقاته على علاتها ، وعادت الدولة الآمرة ذاتها وعلى صعيد الممارسة إلى التلاعب بالعقل والمعنى بالوقوف الانتقائي مع أنواع معينة من الارهاب في بلادنا وضد أخرى في حالات ثانية ، إضافة إلى أنها غضّت الطرف عن إرهاب الدولة الذي تمارسه هي والكيان الصهيوني بشكل صريح وعلني تحت عناوين الوقائية والاستباقية أو الدفاع عن النفس  .. كذا .

والآن يتعامل العالم مع إرهاب لا يعرف معناه الحقيقي وتجسداته مع أنه يمارس في أكثر من ساحة بأبشع الصور وله خلفيات وتمثلات وتشكيلات مضمرة في العقل الذي يعرّفه بشكل غامض إبهامي ويغير دلالاته ويستملك مفاهيمه ومحدداته ويصادر الإستدخالات التي يمكن للشعوب أن تسهم فيها لتحديد معانيه ومضامينة وطرق التعامل معه بطرائق ثانية ليصبح مفهومه ودلالاته واضحاً في مخيال الشعوب لتتمكن من محاصرته وتجفيف منابعه وإقتلاعه .

أما المثال الآخر الذي يمكن إدراجه في هذا الإطار من إنزلاقات المعنى وتغير الدلالة في حالتنا الراهنة فهو ( الأقليات وحق تقرير المصير ) الذي يلوح به في الوطن العربي بشكل خاص واستثنائي ، وحق تقرير المصير يعتبر من المباديء السامية التي تجمع عليها الدول والشعوب ولا أحد يعترض عليه كمبدأ عام وخصوصاً من قبلنا نحن العرب إلا أن عناصره وتوقيتاته وموجباته وتوظيفاته ومصائره هي مما يوجب التوقف عنده ،   إذ لا أحد يقدم الآن تعريفات واضحة للأقلية والأقليات أو يتناول تاريخها الاندماجي ولا أحد سواء من العرب أو غيرهم من القوميات يوافق كلياً ( أو يراه من حقائق تقرير المصير وموجباته )  أن تقوم أي مجموعة ( بعد تعايش واندماج وانسجام طويل ) بتوصيف نفسها في مرحلة تاريخية معينة كأقلية وتتذرع بتمايزها عن مجتمعاتها نظراً لخصوصيات خاصة ومحدودة من حيث اللغة واللباس وتتجاوز مراحل تاريخية من التعايش والاندماج ، وتطالب بكيانيات مترنحة لا حول لها ولا طول ولا مستقبل لها بالمعنى الكياني والدولتي ،  وهو مثال يقرب إلينا فكرة إنزلاق المعنى وأنحرافه عن حقيقته ويضع العقل أمام أسئلة مدببة ومربكة في مثل هذه الحال ويخلق بيئات متضادة وأجواء مناسبة لتقسيم وتذرير وشرذمة المجتمعات والدول .

لابد أن نشير في هذا المقام إلى أن الولايات المتحدة ومن يدور في فلكها  من الدول وفي غفلة عن العالم قدمت للأمم المتحدة مشاريع عديدة استباقية تم إقرارها وسريانها ومن بينها ما  يتعلق بالأقليات ( وحق أي أقلية صغرت أم كبرت بتقديم ظلامات ومحاجات تعطيها حقوق خاصة وتوفر لها الحماية دون أن يتم تحديد مواصفات وتعريفات ومحددات واضحة لذلك بشكل دقيق ودون الانتباه عمداً إلى ضرورة التفريق بين الحق في تقرير المصير والشرذمة ) وذلك من أجل  توظيف وتحريك موضوع الأقليات في الأوقات التي ترتئيها لغايات الهيمنة والتدخل في شؤون الدول الأخرى او الدخول من خلال هذه التخريجات والثغرات لبعثرة وانتهاك سيادة الشعوب والأمم .

وعندما ألقت الولايات المتحدة أثناء عدوانها على صربيا القنابل على تلفزيون بلغراد عام 1999 وقتلت العديد من الصحفيين والمواطنين بررت ذلك بقرار الجمعية العامة القاضي بإباحة وتسويغ الهجوم على مؤسسات إعلامية تبث الكراهية .. الخ وعلى ضوء ذلك لم تتخذ الأمم المتحدة أي قرار بهذا الخصوص باعتبار ذلك مباحاً ومشرعاً من قبل الجمعية العامة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى