أسئلة المصالحة وتفاهمات المكرهين!

حتى لا يبدو كلامنا نشازاً بين ما قد تناهى من أصوات تفاؤلية علت على وقع احتفالية غزة التصالحية، وأخذاً في الاعتبار كون القطاع المنتكب بحصار شنيع دامت ويلاته لعقد ونيف، هو في حال يدفعه لأن يتعلق بمطلق قشة أمل تخرجه من جحيم هذا الحصار، نسارع إلى القول، إن المصالحة، ألتي تعني في جوهرها خطوة باتجاه تحقيق حلم الوحدة الوطنية، هي كانت وتظل مطلباً لم ولن يفارق الوجدان الشعبي الفلسطيني في كامل الوطن المحتل وشتى أماكن شتاته. لكنما أيضاً علينا القول، إنه أما وقد سلًّمت حماس مقاليد السلطة كاملةً غير منقوصة للحمد الله، فإن مرارة الواقع الغزِّي لم يدع للغزيين كثير اصطبار في انتظار مردود هذه الاحتفالية المدويّة، أو المماطلة في تحقيق ما اثارته من آمال أغدقتها فصاحة خطبائها من الطرفين. كما أن هذه التي بدت قبل حدوثها ضرباً من معجزة منتظرة، لكونها قد أعقبت سلسلة ممن  سبقنها من مصالحات تواترن وفشلن كلهن في وضع حد لانقسام عقد ونيف، قد طرحت اسئلةً لم يغطِ عليها صخب احتفاليتها ومنها:
ما عدا ما بدا، وما الذي جد لتتم مثل هذه المستعصية بين عشية وضحاها؟! وما علاقة فأل خيرها، المباشر أو غير المباشر، باحبولة شر المدعوَّة “صفقة القرن” الترامبوية، وفي لغة أخرى “الحل الإقليمي” النتنياهوي، وهل هي تمهيد لهما؟! أولمأزومية طرفيها، رام الله التي ضاقت حلقات اوسلويتها على عنقها، وغزة التي ليس بمقدورها اطعام مليوني متضور، أضف اليهما الحاجة الأمنية المصرية في سيناء؟! أم هذه وهذه وتلك، المأزومية، والضغط المصري، والصفقة والتحضير لها؟!
السؤال الأخير يجر لآخر، وهو، كيف، وبقدرة قادر، رفع “الفيتو” الدولي عن المصالحة ، ولماذا تكرَّموا أخيراً فرفعوه؟! الدليل على رفعه ضيف شرف الاحتفالية التصالحية، ممثل “الرباعية الدولية”، خليفة سيء الصيت طوني بلير، والبلغاري المعروف بتصهينه ملادينوف؟!
ويبدو أن أسئلة المصالحة لا تنتهي، فقد انتهى مهرجانها واستلم الحمد الله مفاتيح سلطته في غزة، بينما بقيت غزة تتساءل : هل ومتى سترفع الإجراءات العقابية؟ وهل حقاً ومتى سيفتح معبر رفح؟ والأهم وماذا عن البندقية المقاومة؟
ما خلا ذلك من ملفات خمسة تعقيداتها بحجم جبال عقد انقسامي ونيِّف فقد رُحِّلت كلها لتباحث لاحق في القاهرة…وما ادراك ما هي، دمج الموظَّفين، إدارة المعابر، حل أجهزة حماس الأمنية، عودة الأمن الوقائي والأمن الرئاسي إلى غزة، وما إذا سوف يأتيان بالتنسيق الأمني معهما، والانتخابات التشريعية والرئاسية، وقانون الانتخابات، وما يسمُّونه “تفعيل عمل المنظمة” وليس إعادة بنائها، وانتخاب برلمان لدولة مفترضة باعتبارها قبلت عضواً في الأمم المتحدة، أم مجلس تشريعي لدولة تحت الاحتلال…وبعد التباحث الموعود والتوافق المنتظر، تتم دعوة الفصائل الموقعة على ما عرف في حينه ب”اتفاق القاهرة” للالتحاق بالركب التصالحي المراد.
قبل فروغ الحمد الله من استلام سلطته في غزة داهمت الغزيين تصريحات جاءت من طرفين في آن، نتنياهو ، الذي قال بأننا لن نقبل “مصالحةً زائفة يتصالح بموجبها الجانب الفلسطيني على حساب وجودنا”، ورئيس السلطة، الذي وبلغة انتصارية أملى شروطاً مضافةً لهذه المصالحة، فقال: إنه “حينما تتمكن الحكومة بشكل كامل من المعابر، والأجهزة الأمنية، والوزارات، سترفع اجراءاتنا الأخيرة، وأنا مش مستعجل”، وزاد: ولسوف “اعتقل كل من يحمل سلاحاً غير شرعي في قطاع غزة، سواء كان من فتح أو حماس، ولن أقبل باستنساخ تجربة حزب الله في لبنان”!
فيما يتعلق بنتنياهو فهو كان جاداً في اعتبار مطلق مصالحة الفلسطينية خطراً على وجود كيانه، أما ما خلاه فمصادرهم قد سارعت للتأكيد على أن هذه المصالحة ما كانت لتتم لولا موافقة مسبقة منه أعقبت تشاوراً مصرياً معه، وإلا لما أُعطي الحمد الله ووفده المكون من مئتي شخص تصاريح عبور من الضفة إلى غزة. أما ما يتعلق باشتراطات رئيس السلطة، فكنا قد قلنا في مقالنا السابق ومقالات قبله أن المصالحة والوحدة الوطنية في قاموسه تعني التحاق الطرف الآخر ببرنامجه ونقطة وأول السطر…إثر تصريحاته هذه سارع تدخُّل الطرف المصري لمنع انفضاض السامر التصالحي معيداً الأمور الى حيث التفاهمات التي رعاها.
الانقسام في الساحة الفلسطينية هو بالأصل حالة موضوعية مردها غياب برنامج اجماع حد أدنى وطني ومقاوم، ويرسّخها وجود برنامجين نقيضين، تسووي نحى البندقية جانباً وسلك مساراً تفاوضياً عبثياً وذهب بعيداً في هاويته ولا يرغب ولا يملك العودة عنه، والثاني يرفع شعار المقاومة ويعلن رفضه لمسار الأول، لكنه لا يقطع معه، وبذا يسهم من طرفه في الحفاظ على راهن هذه المشهدية الفلسطينية المأزومة…كل الفلسطينيين بلا استثناء هم بشكل أو بآخر ضد هذا “الانقسام”، ولعل طرفاه في رام الله وغزة هما أكثر من ينظم الهجائيات فيه قولاً لا فعلاً، وعليه، كل الفلسطينيين استبشروا خيراً بمشهد المصالحة الاحتفالي الغزّي وتمنوا لو خلى استبشارهم من تشكك. تشكك طبيعي مرده استحالة الجمع بين المساومة والمقاومة ، وشاهده مسلسل مشهديات مماثلة تتالت على مدار العقد الانقسامي، كانت سريعة الذوبان، وانتهى مفعولها بانقضاء جلبتها وانفضاض محتفليها.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى