تحذيرات من انهيار صناعة الدراما التلفزيونية المصرية مثلما حدث للسينمائية
يذهب الكثير من نقاد الفن إلى أن الجيل الحالي من كُتّاب الدراما في مصر ليس في جودة وكفاءة الجيل السابق، وأرجعوا ذلك إلى عوامل عديدة على رأسها رغبة المنتجين في تحقيق الربح المادي فقط دون القيمة الفنية، والاستسهال والاستعجال وعدم الدأب والمثابرة من الكتاب أنفسهم، مع هذا فإن فريقا من النقاد يؤكد أن ثمة أقلاما شابة تمتلك قدرات لتطوير الدراما.
وبين الحرفية في التعامل مع الأحداث ونسجها بانضباط في سياقها التاريخي والسياسي والاجتماعي لدى كتاب الجيل السابق، وما تشهده الساحة الفنية حاليا من أقلام شابة أغلبيتها تظهر كنتاج للورش الجماعية في الكتابة، تفرض المقارنة بين جيلين من الكتاب نفسها، ولا يوجد بينهما جيل وسط، أحدهما فتش عن الهوية المصرية بكامل تفاصيلها، والآخر أغرق المشاهدين في الحالات المجتمعية المعاصرة، لكن من خلال التهميش والتسطيح في الغالب.
مع ذلك فلا شك في أن بعض أعمال الدراما المصرية شهدت تطورا كبيرا في السنوات الأخيرة، وظهرت فيها أقلام شابة واعدة، بعضها شق طريقه بمفرده وآخرون لمعوا من خلال ورش تجمع أكثر من موهبة شابة تحت إشراف كاتب من الذين باتوا أكثر شهرة وانتشارا في السنوات الأخيرة، مثل تامر حبيب ومريم نعوم وغيرهما.
وبرحيل الكاتب المخضرم محفوظ عبدالرحمن الذي وافته المنية قبل أسابيع، انطفأت شمعة أخرى في سماء الدراما المصرية، إذ قدم الرجل في حياته عددا من الأعمال التي تعد من أهم ما ستحتفظ به الدراما التلفزيونية في ذاكرتها، من أبرزها “بوابة الحلواني” الذي ناقش فيه تاريخ إنشاء قناة السويس، ثم “ناصر 56” الذي تناول فيه حدث تأميم الزعيم الراحل جمال عبدالناصر القناة، و”أم كلثوم” عن سيرة حياة كوكب الشرق.
رحيله لم يكن الخسارة الوحيدة للدراما، فقد سبقه غياب عدد من الكتاب أمثال أسامه أنور عكاشة ومحسن زايد، كما اختفى عدد آخر من المبدعين عن الساحة في الفترة الأخيرة، مثل يسري الجندي ومحمد جلال عبدالقوي وآخرين بعد أن وجدوا أن الساحة الحالية لم تعد تتسع لإبداعاتهم وسط حالة الاستسهال الواضح في الاقتباس من الأعمال الأجنبية أو اختيار موضوعات دون التعمق في مضمونها.
ومع انعدام وجود جيل يربط بين الكبار وأصحاب الأقلام الشابة لم يظهر على الساحة الدرامية من المرحلة الوسطية التي تربط بين الجيلين سوى الكاتب عبدالرحيم كمال الذي ظهر في العقد الأول من الألفية الجديدة وحاول الاقتراب من الطريقة التي عمل بها المبدعون السابقون، من خلال البحث والقراءة والتأني في ما يكتبه من أعمال، ونجح في تقديم سلسلة من الأعمال الناجحة، منها “شيخ العرب همام”، و”الخواجة عبدالقادر”، و”الرحايا”، و”حجر القلوب”.. وغيرها.
فجوة بين جيلين
قال الناقد رامي عبدالرازق إن المقارنة بين جيل المبدعين الكبار من الأحياء والراحلين وبين الأجيال الشابة، ربما تكون قاسية وتكشف عن فجوة كبيرة أفصح عنها انحدار المستوى الذي وصلت إليه الدراما المصرية في الوقت الحالي، وأشار إلى الثقافة الواسعة التي كان يتمتع بها جيل الكبار، ودأبهم ومثابرتهم، وما امتلكوه من وجود مشروع حقيقي لدى كل منهم، وشدّد على ما أسماه استحالة وجود مثل هذه النماذج في الوقت الراهن بالرغم مما تموج به الساحة حاليا من أقلام جديدة.
وأضاف أن محفوظ عبدالرحمن، على سبيل المثال، كان حريصا على تسجيل لحظات تاريخية معينة للتحذير مما يحمله المستقبل من مخاطر، وكان أسامة أنور عكاشة يفتش عن الهوية المصرية، بالتالي فإن الجيل الماضي اشتغل في إطار منظومة فنية أكثر اهتماما بالمحتوى بعكس كُتاب الوقت الحالي الذين يهتمون بالقشرة الخارجية.
ونوه بأن الكتاب الكبار لم تكن لديهم الفوضى التي نعيشها حاليا، لأن البعض من الكتاب الآن صاروا يكتبون المشاهد “على الهواء” أثناء التصوير، أما الجيل الماضي فكان العمل الواحد من الممكن أن يستغرق منهم عاما أو أكثر في كتابته، بالإضافة إلى ظواهر أخرى أضعفت جودة الدراما، مثل إرسالها عبر أجهزة الهواتف المحمولة.
وبالتالي يطّلع عليها أكثر من فرد، أو أن يظل تصوير المسلسل مستمرا حتى آخر يوم في شهر رمضان، أو ظاهرة أن الجميع يحاربون بعضهم بعضا من أجل نزول عملهم في موسم واحد.
وتابع “في جيل الكبار لم نسمع عن أن الممثل النجم كان يتدخل في كتابة البعض من أجزاء المسلسل بنفسه، كما لم تكن هناك ظاهرة مسلسل النجم الأوحد، أو أن يطالب النجم بجعل عدد الحلقات 45 بدلا من 25، بينما كُتاب الجيل الحالي يستجيبون لكل تلك الأمور ما يدلل على ضعفهم في اتخاذ القرار”، ويتذكر عبدالرازق أنه في وقت من الأوقات أعلن كبار الكتاب عن ثورتهم على المنتجين في تسعينيات القرن الماضي ضد شروط المنتجين المجحفة، “وهو ما لم نسمعه من كُتاب هذه الأيام”.
الورش أضعفت الدراما
بالنسبة لمسألة ورش السيناريو التي سيطرت على الدراما مؤخرا، أكد العديد من النقاد، أن فكرة الورش كانت موجودة في السينما منذ سنوات بعيدة، لكن استخدامها في التلفزيون لم يفرز في السنوات الأخيرة إلاّ تجارب قليلة ناجحة، مثل مسلسلات “موجة حارة”، و”سجن النسا” للكاتبة مريم نعوم، وغالبا ما يتم اللجوء إلى الورش كحل للإنجاز السريع من أجل اللحاق بالعرض الرمضاني وإنهاء الحلقات.
وأعرب هؤلاء عن خشيتهم من أن صناعة الدراما التلفزيونية ستنهار مثلما انهارت السينما إذا استمرت على وضعها الحالي خصوصا مع إصرار النجوم على الدخول في تفاصيل أعمالهم، وارتفاع نسبة السطحية الثقافية، بالإضافة إلى اللجوء إلى مصادر الثقافة الأجنبية في صياغة الأحداث، وذلك في الوقت الذي تلتزم فيه الدراما الخليجية على سبيل المثال بالعناية بتفاصيل أعمالها والسير على نهج الأعمال المصرية القديمة.
وقال السيناريست بشير الديك إن أجيال الكتاب القدامى كانوا يتمتعون بملامح خاصة في المرحلة الزمنية التي عاشوها، ومنها أنهم كانوا أبناء ثورة 23 يوليو بكل أحلامها وطموحاتها وما تضمنته من فكر للنهوض الوطني والقومي في ما يتعلق بالثقافة وغيرها، بل وحتى في فترة هزيمة 67 كان هناك حلم، على العكس من الفترة الحالية التي تشهد اختلافا جذريا في الظروف الاجتماعية والسياسية، بالإضافة إلى تغييرات الوطن بأكمله على الصعيد المحلي والدولي.
ولفت إلى أن هناك في الوقت الراهن كتابا عديدين موهوبين ومع هذا لم ينالوا فرصتهم، لماذا؟ بسبب الطابع التجاري للفن والذي يهدف فقط إلى الربح الإعلاني والإثارة، وبات هو المسيطر الرئيسي على المشهد الفني، ولذلك تبقى المقارنة صعبة بين أجيال الدراما السابقة والحالية.
وفي ما يتعلق بمسألة ورش السيناريو وما إذا كانت أفسدت منظومة الدراما التلفزيونية أم أدت إلى تقدمها، أكد الناقد الفني طارق الشناوي أن الورش ليست بالأمر الجديد على ساحة الدراما، وأن عددا كبيرا من الأفلام التي قدمتها السينما شارك في كتابتها كُتّاب كبار، مثل بهجت قمر وشريف المنباوي وعاطف بشاي، لكن ذلك كان يتم بشكل سري، وأكد أن الأمر في النهاية تحكمه موهبة الكاتب.
ولفت الشناوي أيضا إلى أن الساحة الدرامية تتطلب دائما التنويع والتجديد والتطوير طوال الوقت، ولا يمكن التجمد عند جيل مصطفى محرم وعبدالرحمن وعكاشة، لأن في هذا التجمد بداية الفشل، إذ لا بد أن يكون لكل كاتب اتجاهاته الخاصة به، والدراما التلفزيونية في الآونة الأخيرة أثمرت عددا من الأقلام الواعدة، مثل مريم نعوم وهالة الزغندي ومحمد ناير ومحمد أمين راضي وآخرين.