لا تعارض قط بين التدين والتفلسف.. ولكن للجهلاء رأياً آخر
كتب ماهر الشيال
هل وصلت مجتمعاتنا إلى مبتغاها بتوارث حالة العداء مع الفلسفة في السياق الديني والاجتماعي؟ وهل ارتضى المشتغلون بالفلسفة العربية -على ندرتهم- عزلتهم الاختيارية، أو عزلهم الإجباري؛ فاستراح كل فريق بما آل إليه مصيره؟ نحن حيال ما تقدم يلزمنا أن نتحلى بشيء من التشكك، ولا نسلم بالمعطى الراهن؛ مع إطلالات معمقة على ظروف مشابهة سبقت في تاريخنا، وما زالت تلقي بظلالها على واقعنا إلى الآن.
إننا في ذلك المعترك لابد أن يكون لدينا استعداد خاص لمواجهة عدد من الثنائيات التي من شأنها إرهاق كل باحث، وإدخاله تيه التحيزات، وإرغامه على مجانبة الموضوعية.. وأول تلك الثنائيات –فيما أعتقد- هي ثنائية الأصيل والدخيل في فلسفتنا العربية؛ بزعم أنها ابنة الفلسفة اليونانية القديمة التي حاولت الإجابة “على أسئلة طرحتها بنفسها تتعلق بالوجود، والماهية، والحياة والمغزى منها، وأصل الكون ونشأته، والعلة الأولى التي هي مصدر كل شيء؛ والعلاقة بين العلة والمعلول التي عرفت بالسببية، وقد حملت هذه الإجابات تبايناتٍ جمةً أثارت من التساؤلات أكثر مما أوضحت من الملتبسات” ولعل ذلك مما حدا بكثير من الفقهاء إلى وضع الفلسفة في مرمى نيرانهم طوال الوقت باعتبارها تمثل الخطر الأكبر على الدين، ولعل تلك المواجهة التي افتعلها هؤلاء بين الفلسفة والنص المقدس كان أساسها خصيصتين للفلسفة تغاير فيهما النص الديني- ولو ظاهريا- وهما أن الفلسفة تعتمد التشكك في معظم ما تتناوله من قضايا، كما أن الحسم والقطع في الأحكام ليس مما يدخل في حيز اهتماماتها.
على صعيد الواقع، وليس بمنأى عن صراع الأفكار.. رفع أعداء الفلسفة سيف النص وفرضوا من خلاله سطوة هائلة قلصوا من خلالها متاحات النسبي لحساب المطلق، وكان مردود ذلك على المجتمع عاتيا؛ بل مدمرا.. ومن خلال اعتماد ثنائيات معطلة، كما أسماها د. تيزيني استطاع الفقهاء استدراج كثير من المشتغلين بالفلسفة لإهدار جهدهم في محاولات التوفيق، ودرء التعارض بين العقل والنقل والدين والحكمة، والانغماس الكامل في “كشف الشبهات فيما أُشكِل فهمه فسمي بالمتناقضات”.
هذا حال بعض المشتغلين بالفلسفة، ممن وقعوا فريسة مكر الفقهاء، أو ما كان واردا حدوثه بشكل حتمي وفق ما أملته طبيعة الصراع.. حسنا ماذا إذن عمن نجا من تلك الشراك؛ هل خلص إلى ما يجب أن ينشغل به؟ يشير د. الطيب تيزيني إلى أن هؤلاء لم تكن نجاتهم كاملة إذ ظلوا في دائرة الاتهام طوال الوقت، وكانت النتيجة تعدد أشكال الخطاب الفلسفي العربي بين ” المراوغ، ونصف المعلن، والمعلق، والمهمَّش، والمحتمل، والخفي، والمسكوت عنه؛ وغيرها”.
يبدو أن الدخول في هذا السجال كان متعمدا وذا أهداف تتعلق باختطاف المجتمع وأسره وفق عدد من المسلمات تحول بينه وتبصر الحقائق بشأن استحواذ فئة قليلة من الناس على كل شيء وتسلطهم على الأغلبية تحت مزاعم الحق والأفضلية، وما كان ذلك ليتم إلا بتوفير المساحة المناسبة من الرضا (القدري) ووصم كل محاولة للتملص بالخروج ( المروق) ومن ثم يكون اضطلاع ذلك الفريق (الفقهاء) بتلك المهمة مبررا، وذا منطق أقرب للقبول لدى العامة.
يرى د. تيزيني أنه لا توجد أسباب مقبولة لجعل ” الفلسفة والدين قيد المواجهة كونهما من حيث المدخل متباينين، حيث إن مدخل الفلسفة عقلي (تشككي) بينما مدخل الدين إيماني (يقيني)، ومن ثمَّ فهما حقلان متمايزان لا يصح وضعهما على هذا النحو.. ولكان من الممكن أن تُدخر جهود كبيرة؛ لتبذل في دفع كلا الحقلين إلى الأمام خطوات واسعة”.
لقد قسمت تلك المواجهات المشتغلين بالفلسفة إلى ثلاثة أصناف: صنف حرص كل الحرص أن يكون موفقا؛ فانتهى ملفقا، وصنف قبل باستقلالية نسبية لخطابه الفلسفي – على مستوى البنية والوظيفة- مع التماهي مع الخطاب الديني بشكل لا يخلو من مخاتلة، أما النوع الثالث فقد رفض الاتكاء على التقية، والمراوغة، والحذر، وعمد إلى المواجهة جهارا؛ ناقدا نقدا شديدا ومتجاوزا لكل ما هو خارج الإطار العقلي من الصيغ الذهنية، وفي القلب منها الصيغة الدينية، وهذا النوع وإن كان قد وحَّد البنية الفلسفية والوظيفة على نحو واضح إلا أنَّه قد أوغل في طريق خصومة مُدعاةٍ مع الدين، بحيث بدا- في أحيان كثيرة- هادما على نحو صادم.
ووفقا لما فرضه ذلك الواقع المصطخب بالصراع رأى كثير من الفلاسفة العرب أن الاقتراب الحذر من السلطة هو السبيل الوحيد لحصولهم على قدر من الحرية يتيح لهم النظر الفلسفي وإنتاج خطابهم الذي اعتمد المراوغة في كثير من الأحيان مما أحدث حالات من المراوحة والشد والجذب؛ حادت بالإنتاج الفلسفي عن غاياته، وخرجت به عن محدداته، ومضت به بعيدا نحو شكل جديد للفلسفة العربية، هو نسيج مختلط من السياسي والفلسفي الخاضع لمؤثرات الثقافة الاجتماعية وسطوة العامَّة.
هل نخلص مما سبق إلى أن عزلة الفلسفة، ونخبويتها كان مصيرها الذي فرض عليها، ولم تجد منه فكاكا؟ يرى البعض أن تلك العزلة التي تشبه الموات لم تفرض على الفلسفة من الخارج، إنما كانت استجابة لطبيعتها البنيوية التي تم تجاوزها وظيفيا تحت وطأة الواقع المعاش، وهذا إنما حدث بشكل حتمي نتيجة لمبررات الانصراف عن مجالها لمجالات أخرى، هي أكثر ضرورية وإلحاحا في مسار البحث عن فرص أفضل للحياة، أو الهروب من واقع هو من التعاسة بمكان، وكأنَّ ذلك لم يكن كافيا إذ أسهمت الثورة المعلوماتية بنصيب وافر في تعميق هذه العزلة؛ ومن ثَمَّ حجب الفلسفة كليا عن القيام بأي دور في تهيئة المجتمع العربي للنهوض من كبوته الطويلة.
يرى د. طيب تيزيني أنَّ الثورة المعلوماتية قد أنتجت نمطا من العقلانية يمكن تسميته بالعقلانية المنهجية التقنية، التي تحيل النشاط النظري العقلي إلى فعل ذهني منضبط ومحدد أساسا، بضوابط وآليات تقنية بوصفها (مادة خاما) تستمد منهجيتها واحتمالات نموها وتقدمها من بنيتها الخاصة؛ مما يجعلها- أي العقلانية تلك- ترى في السياق الاجتماعي والوظيفة الاجتماعية أمرين مجردين من أية أهمية بالنسبة إليها.
هل الفلسفة قابلة للتسليع وفق شروط اقتصاد السوق؟ أستطيع أن أقول أن هذا هو الهدف، فما زالت الفلسفة- رغم كل ما حدث- تضطلع بدورها كناظمة للقيم المجتمعية والضوابط الأخلاقية والثقافية، وكحافظة للهويات الوطنية والقومية والثقافية؛ بل الهوية الإنسانية ذاتها.. يبدو أن تسليعها ضرورة وفقا لتك الشروط المجحفة، كما يبدو كعقاب صارم عن قرون دخلت فيها الفلسفة التيه، مما قعد بها عن وظيفتها الأساسية في تشكيل الوعي والحفاظ على الخصوصية الثقافية بحسبها إدراك دقيق لما بين الثقافات من تباينات، مما يجعلها عصية على قبول التماهي؛ برغم أنها ذات طابع إنساني في المقام الأول.