يلُمّنا.. دير العصافير

بقلم : إنصاف قلعجي

وهل يهجر الإنسان بيته، أيها العروبي الأصيل، يا أبا المظفر، إلا لظرف طارئ يوجع قلبه لهذا الهجر.. فكما يشتاق الإنسان لبيته، للحيطان، للستائر، للمقاعد، للخربشات على الحيطان، لشقوق الستارة تتدفق منها شمس الصباح، لمطر خفيف ينقر على الزجاج، أحذية مرمية هنا وهناك، ياسمينة في الحديقة، شجرة الدفلى والنارنج، شجرة الكولونيا أو كما تسمى عطر الليل، نبتة قلب عبدالوهاب تتعمشق حتى تغطي الشباك، كتب منثورة في كل الزوايا، دفء، حنان في كل مكان.. كذلك يشتاق إلى وجوه لامس قسماتها منذ عشرين عاما على صفحات ورق عروبي، لينتقل هذا الوجد إلى الحيطان الإلكترونية، في بيت “المجد”.

وكما يحنُّ البشر إلى أماكنهم الحميمة، كذلك هي الأماكن، تشتاق أهلها، فهي تحنُّ كالبشر، تستأنس بأنفاسهم، فلا تعود حين يعودون خاوية على عروشها، حتى الشوارع حين تخلو من المارة، تستوحش في العتمة، فتفقد الأضواء الكثير من بهجتها.. فقد يهجر الإنسان بيته، وطنه، لكنه يحمله في أعماقه، في ذاكرته، فلا يعود يرى في الشوارع المعتمة إلا بيته، وطنه…

نعم، يلُّمنا من جديد، دير العصافير أو دير الزور، وقد سماها بعض الرحالة الأوروبيين دير العصافير حين مروا بالمدينة، لكثرة ما فيها من البلابل والعصافير. ومع بداية القرن التاسع عشر، كان اسم المدينة هو ” دير الشُعّار” لكثرة الشعراء فيها. هذه المدينة التي شهد الاستعمار الفرنسي فيها، مقاومة عنيفة من قبل أهلها، بعد أن قصفت بشراسة ودمر البشر والحجر فيها، لكنها استطاعت، كبقية المدن السورية، أن تدحر المستعمر وتتحرر من رجسه. أو كما قد نسمّيها حين تعود دير الزور إلى أهلها، ستالينغراد العرب. مائتا يوم حوصرت ستالنغراد، ودارت المعارك الشرسة في الشوارع، من شارع لشارع، ومن بيت لبيت، وبعد مئتي يوم استطاع الجيش الأحمر أن يوقع أشد الخسائر في قوات الجيش الألماني الذي اندحر على أعقابه في أعظم حرب وأشرسها. وكما تقول المصادر التاريخية، فقد تحولت المدينة أيام المعركة، إلى بحر من النيران، حيث انصهر الحديد والحجر، وبقي الناس والجنود السوفييت من مختلف القوميات والأديان صامدين. لقد راقب العالم بأجمعه هذه المعركة التي لم يشهد التاريخ مثيلا لها والتي شارك فيها أكثير من مليون جندي من الجانبين…

وفي الخامس من سبتمبر أيلول 2017 تمكن الجيش العربي السوري من كسر الحصار الذي كان يفرضه تنظيم داعش الإرهابي منذ أكثر من ثلاث سنوات، وذلك عقب التقاء الرجال بالرجال، قوات الجيش المتقدمة من ريف دير الزور الجنوبي الغربي بالقوات المتواجدة في الفوج 137   غرب مدينة دير الزور من خلال ثغرة أحدثها الجيش العربي السوري وحلفاؤه. والتقوا هناك بأبطال الحرس الجمهوري والفرقة 17 الذين صمدوا ودافعوا عن المدينة طوال فترة الحصار.

الكاتب والروائي والمعلق السياسي جون وايت، كما ذكرت وكالة سانا، أكدّ أن الانتصار الذي أحرزه الجيش العربي السوري بفك الحصار عن مدينة دير الزور، يشكل إنجازا لا يضاهيه أي حدث آخر في عظمته وأهميته سوى استبسال الجنود السوريين ضمن المدينة ونجاحهم في الدفاع عنها على مدى ثلاث سنوات ضد هجمات إرهابيي تنظيم داعش ومحاولاتهم اقتحامها.

وجاء في مقالته التي حملت عنوان “فك الحصار عن دير الزور”  ونشرته وكالة نوفوستي الروسية على موقعها الالكتروني” إن الشجاعة الأصيلة والبطولة التي       تميز بها الجنود السوريون المدافعون عن دير الزور ترافقت مع شجاعة سكان المدينة الذين بقوا صامدين رغم قسوة الحياة في ظل الحصار الذي فرضه إرهابيو داعش عليهم واعتمادهم في التزود بالطعام والدواء والمواد الأساسية الأخرى فقط على ما يقدمه  الطيران السوري والروسي بشكل دوري”.

وتابع وايت “إن خوف سكان دير الزور الأكبر كان يتمثل باحتمال تمكن إرهابيي داعش من دخول المدينة. وهنا تتبدى في الحقيقة بطولة وثبات وشجاعة الجنود الذين دافعوا عن المدينة ضد داعش على مدى السنوات الثلاث الماضية إلى جانب الجنود وطياري سلاح الجو  الذين تمكنوا من فك الحصار عن المدينة”.

ولفت الكاتب إلى تعمد وسائل الإعلام الغربية تجاهل هذا الانجاز العظيم دون أن تصدر عنها ولو كلمة حق واحدة تشيد بالمدافعين عن هذه المدينة أو أولئك الذين نجحوا في انقاذهم مشيرا في الوقت ذاته الى الدور السلبي الذي لعبته الولايات المتحدة عبر الاعتداء على القوات السورية في دير الزور “ولاسيما في 17 ايلول الماضي عندما عمدت طائرات أميركية بالتعاون مع طائرات أسترالية ودانماركية إلى استهداف مواقع الجيش السوري هناك  ممهدين الطريق لإرهابيي داعش الذين سارعوا فورا لشن هجوم على هذه المواقع”.

وأشار وايت إلى أنه ومع مضي الأزمة باتجاه الخلاص النهائي من التنظيم الإرهابي والوصول الى مرحلة ما بعد /داعش/ يبدأ طرح الاسئلة بشأن النية الأميركية الحقيقية من وجود قواتها في سورية والعمليات التي تقوم بها وتؤدي إلى وقوع أعداد كبيرة من الضحايا المدنيين في محافظة الرقة”.

تلُمُنا سورية يا أبا المظفر، كما لمّتنا مصر العروبة ذات زمان جميل، وكما ستلمنا كل الأوطان الجميلة.

دير الزور.. لك كل المجد.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى