دول المقاطعة تعكف على تصنيع معارضة قطرية تهدد استقرار الحكم
صيف هذا العام يشكل مرحلة مهمة في تاريخ قطر المعاصر. قبله، لم يكن نظام الحكم في قطر يتخيّل أن يجد من يتجرّأ عليه من مواطنيه ويعرّضه للانتقادات ممّن كانوا يخشون الردّ من أجهزة الأمن القطرية.
توجيه الانتقادات لشخصيات الحكم وسياساتهم كان من المحرمات. اما اليوم، لم تعد الانتقادات حديثا يدور في الحلقات الصغيرة من الأصدقاء.
مع الوقت تبلور السخط تدريجيا في صورة حركة معارضة تسجّل حضورها إقليميا وعالميا. يقود هذه المعارضة خالد الهيل، الذي كان أحد رجال السلطة قبل بضعة أعوام، لكنه تحوّل الآن إلى أكبر خصومها.
في إحدى قاعات فندق فخم في لندن اجرت صحيفة العرب اللندنية, الموالية لدولة الامارات, حواراً مع المعارض الهيل تطرق اولاً الى مؤتمر “قطر في منظور الأمن والاستقرار الدولي” الذي لم يعقد بعد, حيث يعوّل خالد، عليه كثيرا في إظهار الوجه الآخر لنظام عمل طويلا على تقديم نفسه للعالم في ثوب إصلاحي معتدل.
يقول خالد إن “التحضير لعقد هذا المؤتمر استغرق وقتا طويلا حتى تمكنّا من الوصول إلى هنا. أهمية المؤتمر أنه يناقش قضية قطر من ناحية علمية بحثية”. عند الحديث عن المؤتمر تتلبّس خالد ثقة زائدة. ثمة مساعدون وسكرتارية ورجال حراسة منهمكون في إجراء اتصالات وعقد مقابلات والاستماع إلى مقترحات وفرزها. خالد الهيل حوّل الفندق الواقع في شرق لندن وبعض قاعاته ومكاتبه إلى خليّة نحل حقيقية.
لكن الثقة تعود إلى أمر أكثر أهمية من ذلك. يقول خالد إن المؤتمر سينجح لأن “هناك شخصيات من أسرة آل ثاني تدعمه”، إلى جانب “داعمين آخرين في الداخل القطري”.
يطمح خالد، الذي يسترسل في الحديث دائما وفقا لسيناريوهات جاهزة مسبقا في ذهنه، إلى أن يكون المؤتمر، الذي من المقرر انعقاده في الـ14 من سبتمبر الجاري في لندن، مقدمة لتغيير شامل في قطر يبدأ بـ”سقوط النظام”، كما يتوقّع.
رغم ذلك يمنحك خالد انطباعا بأنه يفعل كل ما بوسعه كي لا يتسرّع أو يصدر أحكاما غير منضبطة. يقول “لا أحد يعرف متى قد يسقط النظام القطري، لكنّي أتوقع حدوث شيء ما خلال عام 2018”.
صعوبة هذا السيناريو تكمن في ارتباطه بمقدمات لا تبدو منها أيّ بوادر حتى الآن. يفهم خالد ذلك جيدا، لكنه يبقى معوّلا على تأسيس “حكومة انتقالية” في قطر، ويبدو واثقا في حصولها على اعتراف دولي سريع، ويؤكد “أنا أعرف ما أقول”.
وأنت جالس مع خالد الهيل، كثيرا ما ستلاحظ حركته اللاإرادية في تعديل شعره الأسود الداكن، وهو في بذلته الإيطالية العصرية، كما كان جالسا خلال إجراء هذا الحوار. سبب ذلك أنه مشغول طوال الوقت بالأفكار والسيناريوهات، وبهاتفه الذكي الذي لا يتوقّف عن الرنين.
أحد السيناريوهات التي يأخذها خالد على محمل الجدّ هو إمكانية حدوث “انقلاب أبيض” على حكم الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، كمرحلة ثانية يسبقها “عصيان مدني” نتيجة تأزم الأوضاع تدريجيا في الداخل. يقول “هناك بدائل ظهرت اليوم، وشخصيات تملك شرعية في الشارع، وهذا يشجّع الناس على المطالبة بالتغيير”.
أحد هذه الشخصيات الشيخ عبدالله بن علي آل ثاني، الذي تمكّن من التوسّط لدى السعودية من أجل فتح الحدود أمام الحجاج القطريين، خلال استقبال وليّ العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان له في الرياض، ولقائه بالملك سلمان بن عبدالعزيز في المغرب لاحقا.
يفضّل خالد الحديث عن الشيخ عبدالله بن علي كوسيط فقط، ويرى أن ذلك يحوّله إلى بديل بحكم الأمر الواقع، “دون أن نوحي للمواطن القطري بأنه خيار مفروض عليه من الخارج”.
الواقعية فيما يتعلق بالتغيير في قطر ستجذب انتباهك وأنت جالس مع خالد الهيل. هذا منح المعارضة القطرية طابعا براغماتيا ومرونة مكنتها من الاستمرار منذ فرار خالد بشكل غير شرعي من قطر عام 2014، وحتى الآن. يظهر ذلك بوضوح في نظرة خالد لدوره ولدور المعارضة ولفهمه لعمق طبيعة الحكم في الخليج التي لن تمكّنه من أن يصبح حاكما، أو أن يطالب بتغيير طبيعة الحكم الأميري في قطر. لكن هذه الحقائق لن تمنعه من مواصلة العمل “من أجل نقل السلطة إلى شخصية متوافق عليها من داخل أسرة آل ثاني”.
لا يتوقف حماس خالد طالما أنه يحدثك عن بلاده وتناقضات نظام الحكم فيها. لكن هذا الحماس يتوهّج عند الاقتراب من سيرة وزير الخارجية السابق الشيخ حمد بن جاسم بن جبر آل ثاني. يقول خالد “هذا الرجل دولة داخل الدولة القطرية”.
يعرف خالد الشيخ حمد بن جاسم جيدا، إذ عمل معه طويلا عندما كان خالد يشغل منصب رئيس “شركة قطر للاستثمار والتطوير”. وقتها، أدلى بتصريحات لإحدى الصحف القطرية، وجّه خلالها انتقادات للفساد المستشري في النظام المالي القطري. كان هذا تخطيا واضحا للخط الأحمر المسموح بالتحرك خلفه في قطر.
يقول خالد “في نفس اليوم وجدت نفسي معتقلا من قبل ضباط أمن الدولة، الذين أجبروني على التوقيع على تعهد بعدم الحديث عن مناقصات وصفقات كبيرة بعينها”. لم تكن المشكلة في تصريحات خالد، لكنها كانت في من يملك هذه الشركات الخمس الكبرى التي وجّه انتقادات لمزايا تحصل عليها من الحكومة. ملاّك هذه الشركات هم أشقاء أمير قطر حينها الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني والشيخ حمد بن جاسم وأبناؤه.
بعد ذلك سافر خالد إلى إحدى الدول الأوروبية بعد أن كلفه الشيخ حمد بن جاسم بعرض صفقة على إحدى دول شرق أوروبا تتضمّن تزويد قطر لهذه الدولة بالغاز الطبيعي مجانا، مقابل استغنائها عن الغاز الروسي. يقول خالد “فور حديثي مع المسؤولين هناك بدأت المخابرات الروسية في ملاحقتي. ضابط المخابرات وضع سلاحه أمامي على الطاولة وهو يحذّرني من تبعات هذه السياسة فاضطررت للهرب”.
لم يعد خالد إلى قطر على مدار عدة أشهر، حتى تلقّى اتصالا هاتفيا في الـ14 من مارس 2014 من الشيخ تميم بن حمد، الذي أصبح للتوّ أميرا لقطر. وعلى إثر تطمينات الشيخ تميم، عاد خالد إلى الدوحة بعد ذلك بثلاثة أيام.
لكن بمجرّد وصوله لمطار حمد، اعتقل بتهمة “العمل على قلب نظام الحكم”، ومكث في سجن تابع لجهاز أمن الدولة لمدة 22 يوما، قبل أن يتمكّن من الفرار مرة أخرى إلى خارج قطر. في يوم الـ29 من يونيو 2014 أعلن خالد في القاهرة تأسيس المعارضة القطرية.
سرعان ما تؤمن على كلام خالد عندما يخبرك بشيء عن الشيخ حمد بن جاسم الذي يعتقد أنه أقوى من الأمير الوالد الشيخ حمد بن خليفة وأكثر نفوذا، ويصفه بأنه “قلب نظام الحكم في قطر”.
هذا يبدو صحيحا تماما. حتى بعد اندلاع الأزمة الخليجية في 5 حزيران الماضي لم يستطع النظام الحالي الوقوف في وجه التطورات المتسارعة التي نتجت عن مقاطعة السعودية ومصر والإمارات والبحرين لقطر، من دون الشيخ حمد بن جاسم.
اعتقد كثيرون قبل ذلك أنه قد أُبعد من أجل منح الشيخ تميم فرصة بناء حلقته الخاصة. لكن عندما وضع النظام في الزاوية استدار ليصدر للعالم وجه الشيخ حمد مرة أخرى. هذا جعل خالد يؤمن بأنه “لا أحد يستطيع إبعاد حمد بن جاسم، إلا إذا تم اجتثاث النظام بأكمله”.
ويفاجئك خالد الهيل بقناعته، التي تقترب من اليقين، بأن حلّ الأزمة عبر الحوار أمر مستبعد تماما. ليس ثمة بوادر، في نظره، لأيّ تنازلات قطرية أو رغبة حقيقية في التخلّي عن سياسة المتناقضات التي تنتهجها.
لكنه يعتقد أن قطر قد قضمت أكثر مما تستطيع هضمه. فتصريحات وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، قبل أيام، توحي بأن دول المقاطعة ليس لديها مشكلة في استمرار الأزمة مع قطر لفترة أطول من ذلك، طالما بقيت مصرّة على هذه الحيرة الغارقة فيها.
شخصية الدولة القطرية نفسها صارت تبعث على الحيرة. في الدوحة مثلا، تجد السفارة الأميركية على بعد خطوات من “سفارة طالبان”، وسفارة قبرص اليونانية تقع بالقرب من سفارة قبرص التركية.
يسخر خالد كثيرا أيضا من تقديم النظام نفسه للغرب في ثوب إصلاحي ليبرالي معتدل، بينما يبذل قصارى جهده لدعم مشروع الإسلام السياسي في المنطقة. ويتعجّب من علاقات بلاده الوثيقة مع إسرائيل وإصرارها في الوقت نفسه على دعم حركة حماس الإسلامية في غزة. يقول “عليك أن تختار، لا يمكنك العيش مع الذئب والحمل معا”.
عندما يأتي الحديث عن الإخوان المسلمين، لا ينسى خالد أن يذكّرك بما قاله على إحدى وسائل الإعلام التي تتقاطر عليه هذه الأيام. اعتقاده يتلخّص في أن النظام القطري لا يؤمن بفكرة الإخوان المسلمين ويظل غير مقتنع بها، وأنه “يستخدم الإخوان فقط من أجل زعزعة استقرار المنطقة”.
لكنّه يصر في الوقت نفسه على أن الإخوان نجحوا في اختراق المؤسسات الرئيسية في الدوحة. يقول خالد “خذ مثلا رئيس أمن المعلومات في قطر المدعو محمود صلاح الدسوقي، وهو مصري مجنّس، والده إرهابي مدان في مصر بتورطه في العمليات الإرهابية التي وقعت خلال فترة التسعينات من القرن العشرين. هذا من بين آخرين منحهم المتشدد عبدالله بن خالد آل ثاني الجنسية” عندما كان يشغل منصب وزير الداخلية الذي تركه عام 2013.
تمدّد هذه الشخصيات وسيطرتها على عقل الدولة أغضب شخصيات نافذة في قطر. لكن الغضب لم يتوقّف عند هذا الحد، فالمقاطعة التي فرضتها الدول الأربع كانت لها كلفة لم يتوقعها النظام القطري ولم يتصور تبعاتها على حالة نفسية عامة بدأت في الهبوط إلى أدنى مستوياتها.
يؤكد خالد، من دون تردد، أن التبرم الشعبي المتصاعد قد يقود إلى اتّساع دائرة القمع في الداخل، ومن ثم اصطفاف عدد من أعضاء الأسرة الحاكمة بدعم من الجيش القطري ضد الشيخ تميم بن حمد، وتأسيس حكومة معتدلة وأكثر استقراراً، “وهو ما يعني تغييرا سلميا في السلطة الحاكمة”.
يشبه هذا السيناريو الظروف المحيطة بانقلاب عام 1972 على الشيخ أحمد بن علي آل ثاني، الذي حدث نتيجة اكتساب الحركة الإصلاحية في المجتمع حينها زخما كبيرا، أدّى إلى التأثير على وجهاء دولة قطر لإحداث تغيير بدعم من الزعيم محمد بن عبدالله العطية، مؤسس وقائد الجيش القطري آنذاك. وتولى حينها الشيخ خليفة بن حمد السلطة.
أما إذا دخلت القوات التركية على الخط، فسيؤدي ذلك، كما يقول خالد، إلى “تغيير من الخارج”، لأن “الدول الإقليمية لن تقف مكتوفة الأيدي أمام قمع المواطن القطري على يد الأتراك، خصوصا لو استنجدنا بهم”.
كلما مرّ الوقت ازدادت مطالبات الشعب القطري لإيجاد حل. لكن ما أظهرته الأزمة هو قمة جبل الجليد لتراكمات جعلت القطريين يسيرون عكس التيار. ففي السعودية هناك حركة إصلاح واسعة ترمي إلى خفض النفقات وتنويع مصادر الدخل حتى لا تعتمد على النفط فحسب. سبق ذلك إصلاحات مماثلة في الإمارات نجحت في تغيير شكل الاقتصاد برمّته.
في ذلك الوقت ظلت الحكومة القطرية تنفق المليارات على مشاريع بنية تحتية استعدادا لتنظيم بطولة كأس العالم لكرة القدم 2022، وعدد كبير من المشاريع التي بالكاد تغطي نفقاتها في أوروبا، وشركات علاقات عامة وجماعات جهادية تقاتل في سوريا والعراق واليمن وليبيا.
ويشعر خالد بالغضب حيال ذلك. وسرعان ما ترى من خلال هذا الغضب نموذجا مصغرا لغضب أوسع على المستوى الشعبي في قطر. يقول خالد “هذا بلد تمتلئ السجون فيه بالغارمين، وعندما يرى الناس 200 مليار دولار تنفق على مشاريع بنية تحتية وملاعب كرة قدم لن تستخدم بعد انتهاء البطولة، إذن من حقهم أن يغضبوا”.
لكن ليست هذه هي دوافع الغضب فحسب. فالحكومة القطرية فتحت المجال لقوات تركية يصل حجمها ما بين 3 إلى 5 آلاف جندي، ومنحتهم قدرة على السيطرة على الجيش القطري.
ووفقا لمصادر تحدثت إلى خالد من الدوحة فقد منحت الحكومة القطرية العسكريين الأتراك “القدرة على الوصول إلى وحدات الجيش وكافة المعلومات عن القوات المسلحة، ووصل الأمر إلى أن أصبح العقل المدبر للقيادة العسكرية القطرية هم ضباط أتراك”.
وذكر أن دبلوماسيا تركيا في لندن أكّد له أن “العلاقات بين تركيا وقطر لا تقوم على دوافع إنسانية كما تعتقد، ولكن هناك مصالح شخصية وروابط اقتصادية تربط الشيخ حمد بن خليفة وابنه الشيخ تميم بأردوغان وعائلته”.
أما الإيرانيون فقد توثق التعاون بينهم وبين قطر “من الناحية الاستخباراتية بشكل غير مسبوق”، كما أصبح لإيران “تأثير كبير داخل قطر، من الناحية الاقتصادية والتجارية” التي منحت الإيرانيين تواجدا كبيرا في منطقة الخليج.