غليان شعبي ينذر بحرب أهلية امريكية تغذيها عنصرية ترامب

لم يعد عسيراً على المرء رصد اتساع الهوة داخل المجتمع الاميركي، ازدات حدتها طرداً، ومنذ زمن بعيد، مع تفاقم الأزمة الإقتصادية والإجتماعية وخصخصة الخدمات الحكومية التي تُرجمت تقليصاً متزايداً لحجم الإنفاق مقابل تخمة في تخصيص ميزانيات وزارة الدفاع وأجهزة الأمن؛ ظاهرة تم رصدها تباعاً من قبل المركز منذ خمس سنوات خلت.

بالمقابل يشهد المجتمع الاميركي اتساعاً ملحوظاً وانتعاش رقعة إقتناء السلاح بكافة أنواعه والإتجار به بعد فوز ترامب بالرئاسة، وعودة الجنود من مسارح المعارك الخارجية بخبرات مكتسبة استغلتها المجموعات اليمينية بفعالية، في التدريب ونقل الخبرات، نظراً لحسن تنظيمها وتموضعها في أماكن بعيدة نسبياً عن مراكز الدولة ووفرة مواردها وامكانياتها المادية.

المواجهة والإشتباكات الأخيرة رافقها عنصريين متناقضين بشدة اجتمعا في آن ومكان واحد: مدينة جامعية وديعة تشع بالعلم والمعرفة تتعرض”لغزو” ميليشيات مسلحة، بل حضرت مدججة بالعتاد والأسلحة، بصرف النظر عن هدف أو مبررات حضورها.

ولعل العنصر الأهم والذي فاقم الأزمة وعرّى التناقضات الداخلية كان موقف الرئيس ترامب الذي جاء على خلاف كافة التوقعات لموقف واضح مطلوب من مسؤول رسمي رفيع؛ إذ أحجم عن إدانة الطرف المتسبب بالاشتباكات وعَقدِه مساواة بين المعتدي والضحية. وحصد على إثر ذلك حملة انتقادات قاسية في اللغة وشمولية في الحضور من مختلف الاوساط.

من بين أبرز الانتقادات ما نشرته اسبوعية تايم الاميركية قائلة أن ترامب “يعزف على أوتار عميقة من التظلم والاستياء” لمجموعة متماسكة من الشعب الأميركي والتي شكلت ولا تزال قاعدة تأييده ولديها النية للنزول الى الشوارع للدفاع عنه، كما يعتقد الكثيرون.

المنظمة “الليبرالية” أميريكان بروسبيكت، والتي أجرت مقابلة بالغة الأهمية مع مستشار ترامب الاستراتيجي، ستيف بانون، قبل استقالته من منصبه، كانت أشد وضوحا في تفصيلها للأزمة قائلة إن “العنصريين البيض يقفون إلى جانب ترامب، وهو يرد لهم الجميل،” على خلفية تصريحاته التي أحجم فيها عن تحميلهم مسؤولية ما جرى.

جدير بالذكر أن بانون، في المقابلة أعلاه، طرح مواقفاً هامة متباينة بل مُعارضة لسياسات الرئيس ترامب وفريق الأمن القومي بالتزامن مع تصعيد التهديد الاميركي لكوريا الشمالية. بانون أوضح أنه “لا يوجد حل عسكري للتهديد الآتي من كوريا الشمالية .. على الرغم من تعهد الرئيس مؤخراً بمواجهة العدوان بالنار والغضب.”

وانتقد بانون المتسببين بالاشتبكات في مدينة شارلوتسفيل من اليمين المتطرف قائلا إنهم مجموعة من “الخاسرين .. هُم عنصر هامشي .. وتجمع من المهرجين.”

“حرب عرقية مقدسة”

 “الأعمال الإرهابية داخل الولايات المتحدة من اليمين المتطرف هي الأكثر شيوعاً من بين أعمال العنف الراديكالية الأخرى .. متطرفو اليمين خططوا أيضاً لإستخدام أسلحة بيولوجية وإشعاعية،” جملة كانت خلاصة دراسة حديثة صدرت عن مؤسسة أميركا الجديدة لسبر أغوار بروز التيارات اليمينية المتطرفة وخطورتها.

انضمت مجموعات منظمة من تنظيمات عنصرية للبيض تحت شعار مركزي توحيد اليمين استضافتها مجموعة محلية تعرف بإسم ميليشيا مينوت مان لفرجينيا) – في إم إم)، للتظاهر العلني مكشوفة الرأس، بخلاف المعتاد، بكامل أسلحتها قدرت أعدادها عند ذروة الحضور في مركز المدينة الجامعية بنحو 4000 عنصر.

صفوف المنظمات العنصرية شهدت نمواً مضطرداً منذ عام  2000، وفق الدراسة أعلاه، وصعدت أعدادها من 602 مجموعة عام 2000 الى 1،007 في عام 2012؛ وتشهد انتعاشاً إضافياً منذ فوز الرئيس ترامب.

فور اندلاع “الاشتباكات” سارع حاكم الولاية، تيري ماكوليف، لإرسال قوات من الحرس الوطني وسماع إطلاق النار وعملية الدهس التي رافقتها. محذراً بشدة ليومية  نيويورك تايمز من انتشار ظاهرة السلاح علناً، والمسموح به وفق القوانين السارية في الولاية، “استطيع القول ان 80% من الموجودين هنا (الميليشيات) لديهم أسلحة نصف آلية .. بضع عشرات منهم مدججين بالأسلحة، نساءً ورجال، ارتدوا لباساً ميدانياً يطابق الزي الرسمي للحرس الوطني.”

وأضافت الصحيفة ان مشاركة اولئك المسلحين في “مناسبات ينظمها اليمين الجديد هي في تزايد ملحوظ.”

كان ملفتاً لوسائل الإعلام وأجهزة الأمن على السواء بروز المسؤول عن تقديم طلب التظاهر لسلطات بلدية شارلوتسفيل نيابة عن ائتلاف “توحيد اليمين،” جيسون كيسلر، الذي ارتبط اسمه سابقاً كناشط متقدم في حركة إحتلال وول ستريت، وعنصر مؤيد لسياسات الرئيس اوباما.

هل هو اختراق منظم من الأجهزة الأمنية للحركات الاحتجاجية المناهضة لسياسات المؤسسة الحاكمة، أم توظيف متجدد. كيسلر يجيب بنفسه بشيء من الغموض في مقابلة معه نشرت على شبكة الإنترنت قائلاً إنه “نزل عليه الوحي،”  (رأيت الضوء  – في الأصل).

ظاهرة تجذر التجمعات العنصرية من البيض، سواء في المجتمع أو مؤسسات الدولة، ليست وليدة الأمس، بل تعود الى الحرب الأهلية الاميركية التي انتهت “رسمياً” عام 1865 ، وولادة أشهر منظمة عنصرية كو كلاكس كلان عام ،  1866بيد أن تداعياتها لا تزال ماثلة بقوة الى اليوم، يدل عليها تباين “التطور الحضاري ” ومستويات الازدهار الاقتصادي بين ” الشمال والجنوب.”

اللافت أيضاً يقظة المؤسسة العسكرية الاميركية من إنضمام المجندين البيض إلى صفوفها، بعضهم يزهو بشعارات عنصرية صارخة محفورة على أجسادهم، والبعض الآخر يصعب تمييزه. مصادر عسكرية في البنتاغون أوضحت في الآونة الأخيرة مدى قلقها بالقول “مجموعات منظمة من العنصريين البيض ومؤيديهم كان لهم حضور مميز داخل صفوف القوات البرية الأميركية وسلاح مشاة البحرية – المارينز في عقدي الثمانينيات والتسعينيات” من القرن المنصرم.

يشار أيضاً الى يقظة وزير الدفاع الأسبق، كاسبر واينبيرغر، حين أمر القيادة العسكرية عام 1986 إتخاذ إجراءات صارمة تجاه تلك المجموعات، أتبعه خلفه ويليام بيري، 1995، بإصدار أمرٍ لتطهير القوات العسكرية من العنصريين ورفض دخولهم صفوف القوات المسلحة في أعقاب تفجير مجمع حكومي فيدرالي في مدينة أوكلاهوما سيتي شنه مجند أنهى خدمته العسكرية، تيموثي ماكفي.

وفي الماضي القريب، حذر تقرير لمكتب التحقيقات الفيدرالي (إف بي آي) صدر عام 2008 من رفد صفوف التجمعات العنصرية بعناصر مدربة لا سيما وأن “المراكز القيادية في التجمعات المتطرفة عادة ما يشغلها عناصر إما تحت الخدمة العسكرية الفعلية أو متقاعدة.”

كما حمل تقرير لوكالة رويترز للأنباء، 21 آب  2012، عنوان تحذيري أشد قوات الجيش الأميركي تحارب العنصريين داخل صفوفها، موضحاً أن مجموعات منظمة من العنصريين البيض والنازيين الجدد تعمل بنشاط داخل صفوف القوات العسكرية المركزية تحت شعار راهوا (الحرب العرقية المقدسة).

لا توجد إحصائيات رسمية موثقة حديثة حول أعداد العنصريين في صفوف القوات المسلحة. في تقرير أجرته وزارة العدل عام 2008 أتى على تحذير أثار قلقاً شديداً بإقراره أن “نصف تعداد المتطرفين اليمينيين في الولايات المتحدة تلقوا تدريبات عسكرية.”

المؤسسة الرسمية، عسكريون ومدنيون، تجد تبريرات جاهزة لإنخراط مجموعات عنصرية في الجهد العسكري نظراً “لحاجة القوات العسكرية الملحّة لرفد صفوفها بمقاتلين وهي تخوض جملة حروب متوازية، في أفغانستان والعراق ..”

يشار إلى أن البنتاغون، بكافة فروعها، اعتمدت إصدار ما أسمته “إعفاء أخلاقي” يسمح بموجبه لذوي السجلات والمجرمين دخول القوات المسلحة؛ وارتفع معدل المنخرطين تحت ذلك البند من 16.7% عام 2003 الى 19.6% عام  2006، وفق بيانات واحصائيات وزارة الدفاع.

بعض الأكاديميين والباحثين في شؤون العنصريين البيض أشاروا الى توجيهات زعماء تلك المجموعات حث عناصرهم على تطبيق “إستراتيجية الإختراق” لصفوف القوات المسلحة بهدوء، ومناشدتهم ممارسة التدليس “وخداع” ضباط التجنيد “بإطلاق شعر الرأس، ونزع الوشمات عن أجسادهم – إن أمكن – أو تغطيتها، والإحجام عن التصريح بآرائهم” العنصرية؛  وفق ما أفاد به استاذ مادة قانون الجريمة في جامعة اوستين بولاية تنيسي، كارتر سميث.

المؤسسات “الليبرالية” كانت أشد وضوحا في تحذيراتها من تنامي ظاهرة التفوق العنصري والنازيين الجدد واكتسابهم خبرات حربية حديثة. إذ أشار المؤلف والصحافي المختص بالشؤون العسكرية، فْرِد كابلان، الى حادثة شارلوتسفيل بالقول “لو كنا نقطن في بلد آخر، فإن ما جرى يمكن أن يُنظر إليه كمقدمة لإنقلاب عسكري نوعاً ما.”

أسبوعية ذي نيشن حذرت صناع القرار، سياسيين وعسكريين، من ظاهرة “الحرب العرقية المقدسة،” والتجهيزات التي تقوم بها الميليشيات لخوض “حرب أهلية” مقبلة بالقول “حروبنا الإمبريالية الجديدة ربما تعود إلى نحورنا .. هل ستشهد أميركا (فوضى) الشرق الاوسط؟ ”

التفوق العنصري أزمة مستدامة

  أضحى من المسلمات أن صعود الرئيس ترامب السياسي جاء على أكتاف الشريحة المهمشة من الفقراء البيض على امتداد الولايات المتحدة، الذين تبنوا رايته “اميركا أولاً” بحماس وحضور بارز؛ على الطرف المقابل فإن استمراره في منصبه رهن الدعم والتأييد الذي توفره له شريحة إضافية من البيض الميسورين والمثقفين أيضاً. هي ظاهرة مركبة إلى حد ما، كما يشير علماء الإجتماع، خاصة لما رصدوه من “إستفادة الشريحة العليا للبيض من الإمتيازات الإقتصادية بمواكبة تأييدها لنزعات تفوق العنصر الأبيض، بل تسخير المسألة العنصرية لصالح النخبة – بعيداً عن الأضواء.”

وعليه، من اليسير بمكان رصد مدى التشابك في العلاقة بين مراكز القوى في الدولة، بشكل عام، وظاهرة التفوق العنصري المكبوتة في أعلى الهرم الإقتصادي. للدلالة نشير إلى الزخم الإعلامي وتحفيز الوعي الذي تخضع له الشريحة العمالية والفقيرة من البيض ضد السود من أصول إفريقية بشكل محدد، وتحميلهم مسؤولية “تلقي المعونات المجانية” من الدولة، لزيادة حدة التناقضات في أسفل السلم الاجتماعي وإعفاء المتنفذين في قمة الهرم من أي مساءلة مكشوفة، كما يشهد عليه تاريخ الدولة الأميركية بحصر المنافع الإقتصادية بيد قلة من الأثرياء البيض.

مستقبل الرئيس الأميركي ترامب يرتبط بشكل مباشر بقاعدته الوفية من أصحاب نظرية التفوق العنصري، كما أسلفنا، والتي كان حضورها المسلح بارز تمريناً وانذاراً لمراكز القوى بأن “نشاطاتها” قد تتطور إلى النزول للشوارع لتوفر الحصانة المطلوبة لاستمراره في مواجهة المؤسسة.

هل هو إنذار بحرب أهلية، ربما. بيد أن المسألة المركزية ومحورها مستقبل الرئيس ترامب بتقديمه للمحاكمة تواجه صعوبات دستورية في المدى المنظور واستغراق تطبيقها لفترة زمنية أطول مما هو متاح في الأفق القريب.

كما أن “إزاحة” ترامب، فيما لو كتب لها النجاح، لن تسهم في تهدئة مناخات الصدام والإشتباكات التي هي في تصاعد. على الطرف المقابل، ونتيجة لتفاقم حدة الإنقسامات، قد تشهد البلاد تجدد طلبات الإنفصال عن “الإتحاد المركزي،” كما هو الحال في ولاية كاليفورنيا منذ زمن، وانضمام ولايات أخرى لها.

الباحثة الأخصائية في تاريخ العبودية والحرب الأهلية الاميركية، كيري لي ميريت، حذرت بشدة من “ضلوع” سلطات الأمن في إطلاق العنان لظاهرة عنف اليمين المتطرف في شارلوتسفيل تحديداً بأنها دليل ملموس على “النفوذ الطاغي لإمتيازات )الشريحة العليا من) البيض في عصرنا الحديث،” وتذكير بالماضي القريب حين كانت أطقم الشرطة والأجهزة المحلية في ولايات الجنوب، إبان عصر شرعنة العبودية، تسيطر عليها المجموعات العنصرية عينها وتسخّر “العنف والترهيب لكسب النفوذ السياسي.”

عصر ترامب، كما يجمع أخصائيو العلوم الاجتماعية، أعاد الإعتبار لمخلفات العصور الغابرة من التاريخ الأميركي وإنعاش التفرقة العنصرية، وحصر الإمتيازات الإقتصادية والإجتماعية بشريحة ضيقة من البيض والعزف على نغمة التفرقة والعنصرية خدمة لمصالحها.

التقارب الزمني لمراحل الصدام التي تقوم بها المنظمات اليمينية، ضد الدولة وشرائح المجتمع الأخرى، تدل على هشاشة السلم الإجتماعي الذي لا ينقصه سوى فتيل إشتعال ينجم عن “سوء تقدير” من قبل الدولة وأجهزتها، كما شهدنا في حالة المزارع كلايف بندي في ولاية نيفادا، والتي كادت ان تتطور الى اشتباك مفتوح بالأسلحة النارية.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى