في محافظة مصرية.. قبيلة بدوية – غجرية تحكمها النساء وليس الرجال
القاهرة- وكالة سبوتنيك
داخل خيمة عتيقة، تربطها بالأرض أوتاد وخيوط، وترتفع حوائطها القماشية لأعلى، لتسمح لضوء الصباح بالتسلل للداخل، ولدفء الشمس بالإحاطة بالجالسين، جلسنا نحتسي الشاي على الطريقة البدوية، نرقب البراد النحاسي المدفون في داخل الجمر، يغلي ويكاد أن يفور، قبل أن تصب الحاجة “سليمة” منه لكل الجالسين كوباً صغيراً، من السائل الأسود المنعش، وإنه شرف لو تعلمون عظيم.
سليمة” هي الزعيمة هنا، وكل فرد من قبيلتها الصغيرة يدرك أن جلوسها معك وإعدادها الشاي بنفسها من أجلك يعني أنك ضيف خارق للعادة، ومهم جداً، لذلك وجدنا معاملة لائقة واحتراما كبيرا من جانب كل نساء ورجال القبيلة الغجرية، الذين ارتابوا فينا في البداية، عندما ذهبنا إليهم عند حدود قرية “رمادة”، بمحافظة القليوبية، وطلبنا منهم أن نقابل كبير المجموعة، قبل أن نكتشف أنها “الكبيرة”.
هم مجموعة من “الرحل”، رفضوا أن نسميهم بدواً رغم أن حياتهم تحفها كافة مظاهر الحياة البدوية، ورفضوا أيضاً نسميهم غجراً، رغم ترحالهم بطريقة الغجر المعروفة، وإن كانوا يسلمون بأنهم أقرب للغجر بالفعل، وتحكمهم كثير من عاداتهم وتقاليدهم، وأحكامهم ومجالسهم وأسلوب إدارتهم، التي لا يمكن أن تتدخل فيها الدولة، فهم يحكمون أنفسهم بقوانينهم الخاصة، التي تقوم المرأة على تنفيذها.
منذ بدء اللقاء، لم تخاطبن الحاجة سليمة إلا بلفظة “ولدي”، تقول “ما تراه هنا يا ولدي لن تراه في أي مكان أخر، ولن تجده لدى قبيلة أخرى، فهنا النظام لا يقبل الجدل، والقانون عندنا ملزم صارم، لا مزاح فيه ولا جدال، ولا يخرج عن قانوننا إلا من قرر أن يخرج من بيننا إلى الحياة بين أبناء المدينة، الذين حولوا الدنيا إلى غابة، يأكل فيها القوي الضعيف، أما عندنا، فالقانون ينتصر للجميع، والكل أقوياء”.
رفضت الحاجة “سليمة” منذ البداية أن نلتقط أي صور للقبيلة، حتى ولو من بعيد، مؤكدة أن هناك من يسعون دائماً إلى طردهم ومنعهم من نصب خيامهم في هذا المكان كل عام، فهم يأتون لقرية رمادة لعدة أسابيع كل عام، ويشكل وجودهم إزعاجاً لبعض سكان القرية، وهو أمر تراه لا مبرر له، فعلاقات أبناء القبيلة طيبة بالجميع، وعندما يتواجدون في هذا المكان لا يشكلون خطراً من أي نوع، بل على العكس يقدمون الخدمات لم يطلبونها، وينشطون حركة التجارة في القرية.
تضيف “الكبيرة” لوكالة “سبوتنيك” الروسية: “تحكمنا هنا قوانين مختلفة، فالمرأة هي كل شيء، هي الأصل، تعمل المرأة ليأكل الجميع، ويتولى الرجل كافة شؤون البيت، فلا تقوم المرأة إلا على الولادة وإرضاع الطفل، بعدها تتركه لأبوه لكي يربيه، والعمل جماعي، فالرجال يربون أطفالهم في جماعات إذا كانوا أولاداً، أما إذا كان المولود بنتاً، فإن أمها تتولى شؤونها بالكامل، وعند سن الثالثة تأتي الفتيات لأتولى مسؤولية تربيتهن بنفسي، فأكون أنا المسؤولة عن إخراج فتاة قادرة على فتح البيت وإطعام الأسرة”.
ولأن الفتاة هي رب البيت ومديره، ولأنها اليد العاملة الوحيدة، فإن المهور التي تقدم للبنات تكون مرتفعة جدا، وحسب الحاجة سليمة، كان مهر البنت حتى سنوات قليلة مضت يتم دفعه بالإبل والأغنام، وعلى قدر همة البنت وما تستطيع أن تجنيه من مال، يكون مهرها، ولكن هذه العادة تم القضاء عليها، بعدما بدأ البعض يتجه إلى تشغيل الفتيات في أعمال غير أخلاقية، أما الأن، فإن المهر يتم دفعه نقداً لأسرة الفتاة، بعدما تم تحديد الأعمال التي تقوم بها الفتيات.
وعن نوعية العمل الذي تقوم به الفتيات والشابات المتزوجات للإنفاق على بيتها، تقول “سليمة”: “العمل الغالب لدينا هو الرعي، فمعظم فتيات القبيلة راعيات غنم وإبل ماهرات، ومن هذه الأغنام والإبل يتم إطعام هذا العدد من الموجودين في المناسبات، كما أنها مصدراً للمال، من خلال التجارة فيها، أما الباقيات فهن يعملن في تجارة الحلويات ولعب الأطفال، ويتم بيعها في الموالد المختلفة، ومحافظة القليوبية بالذات تعج بأصحاب المقامات، وبالتالي هي مكان صالح للعمل في هذه التجارة”.
وتكشف كبيرة القبيلة التي عرفنا أن اسمها “الهواشم”، أن قبائل أخرى تتصل بصلة قرابة معهم، فضلت أن تحيا حياة الغجر كاملة، حيث تعمل بعض فتياتها في أعمال غير قانونية أو غير أخلاقية، فيدفع الرجال مهوراً غالية جداً، في مقابل مطالبة المرأة بدخل كبير كل شهر، وهو ما يضطر الفتيات لارتكاب أي فعل من شأنه أن يجلب المال، حتى وإن كان خارج عن نطاق الحلال والعرف.
ولأن للقبيلة قوانينها الخاصة، فإن الدولة لا تتدخل في شؤونهم، إلا فيما يتعلق بتنظيم وجودهم قانونياً، بالإضافة إلى استخراج شهادات الميلاد والبطاقات الشخصية والبطاقات الصحية والتطعيمات للأطفال، وكذلك شهادات الوفاة في حالة موت أحدهم، ولكن فيما يتعلق بأي خلافات أو نزاعات أو معاملات، فإن كل هذه الأمور تخضع للقوانين العرفية المتفق عليها داخلياً، والتي تحسم شخصية الحاجة سليمة القوية تنفيذها بشكل صارم.
تقول كبيرة القبيلة، إن أغلب المخالفات، مثل الاعتداء بالضرب أو السباب أو السرقة، تكون عقوبتها الغرامة المالية الكبيرة، والمتعمد أن تكون الغرامة كبيرة جدا لضمان عدد تكرار هذه المخالفة، ولكن هناك عقوبات أخرى يتم تطبيقها بصرامة، ففي حالة حدوث جريمة قتل مثلاً، يتم تقديم دية كاملة مقابل القتيل، وإلا فإن القاتل يتم تسليمها إلى الشرطة، مع شهادات كاملة تكفي لإدانته وإعدامه، وفي حالة الاعتداء على الزوجة بالضرب يكون الحكم هو التطليق والطرد من القبيلة، فالسيدة هنا تنال احتراماً كاملاً، ويدرك الجميع قيمتها.
تطوف “الهواشم” كافة أرجاء مصر، بداية من محافظة أسوان، التي يحلون عليها ضيوفاً لمدة شهر كامل، وهي أطول فترة يقضونها هناك، ومحافظة قنا، لزيارة مولد “سيدي عبدالرحيم القناوي”، ومحافظات الغربية والقليوبية والدقهلية والمنوفية والشرقية. ويذهبون لمحافظة البحيرة مرة واحدة كل 5 سنوات، لزيارة أقارب لهم هناك، وهو عرف متبع منذ نحو 30 عاماً.