شجون حول ثورة 23 يوليو

بقلم : احمد الجمال/القاهرة 

أستأذن القارئ الكريم في سطور قد تبدو خواطر أو شجونا ذاتية بمناسبة انقضاء 65 سنة على الثورة التي شكلت وجداني ضمن ملايين، وأبدأ فأقول إن هناك فارقا بين ثورة يوليو وبين جمال عبدالناصر وبينهما وبين الناصرية، ثم بين الثلاثة وبين الناصريين، ولا يجوز في مجال قراءة وفهم التاريخ الخلط بين الظواهر، حيث لكل ظاهرة خصوصيتها في المنشأ والمسار، وهذا لا ينفي التداخل وعلاقات التأثير المتبادل بين كل ظاهرة وبين غيرها، الأمر الذي يستدعي دقة شديدة من المحلل السياسي أو المؤرخ، وهو يفصل بأدواته العلمية بين هذا وذاك، أقول ذلك لأنني أعتقد أنه آن الأوان للتحليل العلمي الرصين الذي يضع النقاط فوق الحروف وينسب كل فعل لفاعله وكل خطأ للمتسبب فيه وكل خطيئة لمرتكبها، وكل إنجاز انبنى على فكرة صائبة وتطبيق سليم ومتابعة نزيهة لمن قام به.. لأن يوليو لم تكن «شروة» سمك أو خيار، تؤخذ كلها على بعضها، وعبدالناصر الشاب الصغير مختلف عن الضابط حديث التخرج ثم حامل رتبة البكباشي «المقدم» ومختلف عن صاحب الفكر السياسي المتجه للعمل تحت الأرض في تنظيم سري، ومختلف عن الرئيس والزعيم الذي حظى بإجماع لا يمارى فيه ألد خصومه وأقوى أعدائه، ثم إن النظرية الاجتماعية – حسب سعد الدين إبراهيم- التي اكتملت جوانبها المنهجية والفكرية وحملت اسم الناصرية جاءت بعد عبدالناصر.. وأصبح من اقتنعوا بها وسعوا لدور وطني تحت لافتتها متوزعين – ولن أقول متفرقين- بين أحزاب وتنظيمات وجماعات، وربما وصل الخلاف بين بعضهم لدرجة سمحت لبعض ذلك البعض أن يمدوا أيديهم للإخوان المسلمين، وأن يستظلوا بمظلتهم.

شاء القدر أن أقترب من بعض الذين ارتبطوا بيوليو وكانوا من الضباط الأحرار.. ومن الذين عملوا كمسئولين تحت رئاسة الزعيم جمال عبدالناصر ولم يكونوا كلهم من الضباط الأحرار.. وأن أكون واحدا من الذين رفعوا لافتة الناصرية وتحركوا لأجل تكريسها في الشارع السياسي وترسيخها كبناء نظري، ثم أن أعمل مع آخرين كثيرين من أجيال مختلفة وفئات متعددة وثقافات متفاوتة لبناء حزب ناصري، وكانت المحاولة الأولى العلنية هي المنبر الاشتراكي الناصري الذي كتبت برنامجه وتم تقديمه ﻟ«لجنة مستقبل العمل السياسي» التي شكلها السادات عام 1976 وكان يترأسها سيد مرعي، وكنت واحدا من ثلاثة ذهبوا إلى الاجتماع الذي رأسه مصطفى خليل نيابة عن مرعي، لمناقشة برنامج المنبر الناصري الذي قرأه أمام اللجنة المناضل الوطني الفذ المرحوم السيد كمال الدين محمود رفعت، المشهور بكمال رفعت، وقد توثقت علاقتنا جدا بعد تركه العمل سفيرا لمصر في لندن واختلافه مع السادات.

اقتربت من الضباط الأحرار، كمال رفعت وأمين هويدي وصلاح سعدة وحلمي السعيد وأحمد شهيب وأحمد حمروش وخالد محيى الدين وعبدالمحسن أبو النور.. واقتربت من الذين عملوا مع الرئيس، السادة علي صبري وشعراوي جمعة وأمين هويدي ومحمد فائق وضياء داود ومحمد فوزي وسعد زايد وحلمي السعيد وحامد محمود وسامي شرف.. وأزعم أن لديّ الكثير مما يمكن أن يذكر كوجهة نظر شخصية قابلة للنقد والمناقشة.

وإذا جئت للمدى الزمني من 1971 إلى الآن، أي نحو 46 سنة، فإن فيه سنين لم يكن يمر فيها يوم إلا مع الناصريين والماركسيين والتجمعيين ومن بعدهم مع المنتمين للوفد ولحزب العمل والتيار الإسلامي.. أي أن الجعبة ليست ممتلئة فقط وإنما فاضت جوانبها!

ثم إنني التقيت الرئيس أنور السادات وهو من الضباط الأحرار.. ومن الذين عملوا مع الرئيس عبدالناصر، ولكن بحكم وصوله لسدة الرئاسة لم أستطع وضع اسمه بين الأسماء السابقة، وكان اللقاء الذي رتبه الأستاذ هيكل، رحمة الله عليه، في سبتمبر 1973، وحضره السيد ممدوح سالم والدكتور أحمد كمال أبوالمجد والدكتور إسماعيل غانم، مدير جامعة عين شمس آنذاك ووزير التعليم بعد ذلك.. رحمه الله رحمة واسعة، وامتد اللقاء الذي حضره مجموعة من قيادات اتحاد طلاب الجامعة نحو خمس ساعات ونصف الساعة، وكنت المتحدث الثاني الذي أسهب طويلا حتى قال له الرئيس: «كفاية بقى علشان زمايلك يتكلموا..» وجاء الرد من الزملاء.. «خلليه يكمل».. وأكملت ليسأل الرئيس عن الاسم فقلته، فنظر لممدوح سالم وقال: «ابني فلان.. يا ممدوح.. لو طلب يشوفني نص الليل تجيبه يا ممدوح»!.. وقد حدث وأتى بي السيد ممدوح سالم إلى حيث الحبس الاحتياطي لما يقرب من سنة عام 1977!

كل تلك التفاصيل هي ما دفعني لتأكيد حتمية التمييز بين ثورة يوليو وبين جمال عبدالناصر وبين الناصرية.. وأيضا الناصريين.

واقتربت أيضا من فئة أخرى عملت مع الرئيس جمال عبدالناصر، وهم الذين لم يكونوا ضباطا أحرارا أو من الذين عملوا في القوات المسلحة، وإنما كفاءات مدنية كالدكتور عزيز صدقي والدكتور مصطفى خليل والدكتور محمد حلمي مراد والأستاذ فتحي رضوان والأستاذ محمد حسنين هيكل، ناهيك عن كثيرين ممن اقتربوا من الرئيس وتعاونوا معه وكان معظمهم من أقطاب اليسار الماركسي، ولكل واحد من هؤلاء روايته ورؤيته حول يوليو وناصر والناصرية والناصريين، وأشهد أن الرؤى المختلفة على امتدادها من ضباط أحرار أسهموا في بناء التنظيم وفي صنع الثورة وفي العمل كمسئولين في نظام الرئيس عبدالناصر، إلى مسئولين من أصول مدنية أكاديمية، اتفقت على أمر رئيسي، هو أن الانتماء للوطن والإيمان بالدور الرسالي الذي لا يبغي جزاء ولا شكورا من أحد، ووضوح الرؤية السياسية والاجتماعية كان الأساس والمنطلق الذي أنجز كل ما تم إنجازه والذي استغرق من أرادوا هدمه زمنا طويلا جدا لهدمه، ومنه ما استعصى على الهدم.

وتسألني عزيزي القارئ إذا كان الأمر لا يحتمل خلطا بين الظواهر، والتحليل يحتاج دقة لوضع كل ظاهرة في سياقها السليم ومناقشة مساحات التداخل والتأثير المتبادل، فلماذا لا يقوم الذين يدركون الأمر على هذا النحو بالمهمة؟! وأجيبك: إنه الإهمال وضياع الوقت في ذب الهاموش الكثيف الذي لا يتوقف عن مهاجمة يوليو وناصر، ويجد في الناصريين من يجعل هذا الهجوم مسوغا ومقبولا.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى