ابو وادي ما زال يصنع السيوف رغم غياب زمن الفروسية والفرسان
رغم الحصار المشدد عليه لا يزال قطاع غزة متمسكا بكل قوة بالحفاظ على التراث الفلسطيني العريق، ويقاوم اندثار مهن أجداده التي صنعت تاريخ وحاضر فلسطين وتوارثها عبر الأجيال.
“معين أبو وادي”، الملقب بـ” سياف العرب”، هو مثال فلسطيني حي في الحفاظ على التراث ومهنة أجداده التي تمتد لمئات السنين، فيعتبر آخر صانع للسيوف في فلسطين، ويأخذ من ورشته الصغيرة مكاناً لمقاومة اندثار هذه المهنة ويبقيها حيةً لا تموت.
رحلة البحث عن “سياف العرب”، لا تحتاج لدليل وجهد كبير، فقط ما عليك إلا زيارة حي الزيتون الهادئ شرق مدينة غزة والتجول في شارعه الرئيسي، لكنك ستسمع حين اقترابك من منتصفه أصوات صاخبة تعكر صفو هذا الهدوء المنبعثة من الورشة الوحيدة في المكان.
أصوات الطرقات العالية وقص الحديد وحفه وتلميعه، ستوصلك للأربعيني “معين أبو وداي”، وتدخل في ورشته الصغيرة لتجد سيوفا عثمانية وسورية وخناجر فاخرة ومنوعة الأشكال والألوان والأحجام تعود أعمار بعضها لأكثر من 500 عام، كلها صنعت بأيد فلسطينية خشنة.
ورشة صغيرة، وصورة لمُورث المهنة تعلو رأسه، وسيوف وخناجر معلقة على جدران محلّه، وضجيج خارج من صوت ماكينة حف الحديد وتلميعه، والتي يُمسك بها الفلسطيني ليُجهز سيفًا من عشرات السيوف التي يصنعها لزبائنه المحددين، ملامحٌ كاملة لحياة “أبو وادي”، الذي حافظ على مهنة والده من الاندثار.
“أبو وادي” ابتعد قرابة خمس سنوات عن مهنة أجداده في صناعة السيوف بعد وفاة والده الذي اتخذها الأخير مجرد هواية وحفاظاً على تراث عائلته وليست بابا للرزق يقدمها هدايا للأحباب في الأفراح والمناسبات، إلا أنه عاد إليها وبالقوة محملا بالشوق، ليصبح رائدًا هذه الصناعة التي غابت عن صناعات غزة المحاصرة إسرائيليا بشكل ملحوظ ليجمع زبائنه من شمال القطاع حتى جنوبه.
ويقول “أبو وادي”: “أتذكر ملامح والدي واللحظات التي تجمعني معه داخل زوايا هذه الورشة، عندما أنتهي من صنع سيف أشعر بفرح كبير، وكأني رزقت بولد بعد سنين من الحرمان احتضنه بين ذراعي وأشتم رائحة والدي”.
ويضيف:”صناعة السيوف هي مهنة عائلتي الرئيسية منذ مئات السنوات، وقد توارثناها من جيل لجيل حتى وصلت اليّ الآن، وأنا اليوم أنفض الغبار عنها وأعيد إحياءها من جديد حفاظاً على مورث عائلتي ومنعاً لموته”.
ويتابع “أبو وادي” حديثه، وهو يحاول تلميع أحد السيوف التي بين يديه:”رغم كل العقبات والصعوبات التي أواجهها في إحياء هذه المهنة، إلا أنني مصمم على التمسك بها، وتعليم أولادي لكل تفاصيلها حتى تبقى حية لا تموت، وتكون عنواناً للتراث الفلسطيني”.
ويقول أبو وادي ايضا : إن اقتناء السيوف والخناجر بدأ يعود من جديد إلى قطاع غزة، فخلال الشهور الأخيرة كان هناك إقبال كبير لدى المواطنين على شراء أفضل وأجود أنواع السيوف وتقديمها هدايا للأصدقاء والأحباب في المناسبات العديدة، إضافة لاستخدامها الملفت في الأعراس الشعبية والبدوية القديمة.
ويشير الملقب بـ”سياف العرب”، إلى أن السيوف ثقافة أصيلة من حضارتنا العربية، وهي لغة القوة والفخر والكرامة بين الفلسطينيين، ولا يمكن أن نتخلى عن هذه الصناعة التي نحبها، لأن بقاءها يعني بقاء أصولنا الحضارية العربية راسخة من جيل لجيل.
وتعتبر أكثر الأنواع المطلوبة والمصنوعة بغزة، هما سيفا “الحنية” و”الشقة”، وهما نوعان يختلفان في شكل الحديد المعتدل أو المَحني، إلى جانب أنه يقوم بتصنيع السيوف الدمشقية لأحد زبائنه الذين يطلبونها لمنحها كهدية لأقاربهم في دول عربية خلال سفرهم نظراً لجودة إتقانه صناعته، كما أنه يقوم بصنع سيوف الياتغان العثمانية لبعض الأشخاص من هواة السيوف في الضفة الغربية.
وحول مراحل صناعة السيوف، يوضح أبو وادي أنها تمر بعدة مراحل أساسية، من جمع الحديد ووضعه تحت النار لصهره ومن ثم حنيه وحفّه، من ثم سنه عبر جهاز يقوم بتنعيم ملمسه حتى يأتي دور تركيب المقبض والواقي النحاسي، وأخيرًا تركيب الغمد اليُكسى بالنحاس المزخرف.
وبحسب “أبو وادي” تستغرق صناعة السيف الواحد أسبوعًا كاملاً، وهو يعمل ما بين أربع حتى ست ساعات باليوم بأشكال وأنواع متعددة حسب رغبة زبائنه، فيما يعتبر انقطاع التيار الكهرباء المستمر في قطاع غزة أبرز الصعوبات التي تواجه “أبو وادي” في صناعة السيوف وتسليمها لزبائنه في موعدها.
وعن أسعار السيوف، يوضح أبو وادي أن سعر السيف العادي الواحد يبلغ 150 دولارا، لكن هناك أنواع أخرى يصل سعرها إلى 500 دولار.