اللهاث وراء ” السنة المفقودة “

نهرب من الجدران الخارجية، عسانا نحظى بالأمان بعيدا عن الضوضاء والحرّ وضجيج السيارات والغيوم التي تتشكل وقد  غاب عن بالها أن الخريف لم يأت بعد. نهرب إلى الداخل، لكن.. نكتم أنفاسنا ونحن نلحق بالشاب ميغيل وأخيه لويس وهما يخترقان الغابات والحقول والأنهر وخفر السواحل بحثا عن لفافة السنة المفقودة 1961 التي كانت جزءا من ستين لفافة يصل طولها إلى أربعة كيلومترات، وتكون المفاجأة حين يعثران عليها في أحد البيوت المهجورة في الغابة، لكن المفاجأة الأكبر ما تضمنته هذه اللفاقة من أحد أسرار الأب سالفاتييرّا الذي استغرقه رسم اللفائف الستين ما يقارب الستين عاما، رسم فيها الطبيعة بأشجارها وغيومها وفصولها وأنهارها، ورسم الأهل والأصدقاء والأقارب والنساء والخيول وغيرها، ووثق فيها الحياة السياسية والاجتماعية في بلده، رسمها على لفافات قماش ورثها عن الرسام الألماني الفوضوي هربرت هولت الذي يسكن قريبا من بيته، إضافة إلى ملاءات بيضاء وأغطية شاحنات التهريب التي كان يحصل عليها من المهربين ليرسم عليها. وقد علّمه هولت الرسم الزيتي واستخدام المناظير ومزج الألوان ودراسة الأبعاد، منبّها بأن عليه أن يرسم كل يوم. يقول لويس:” كان علينا أن نتركها في هذا العفن يا ميغيل. إننا نقحم أنفسنا في مسائل غير محمودة. ما كان علينا أن ننبش الماضي بهذه الطريقة”.

الوالد سالفاتييرّا، كان منكبا طوال سنين حياته على رسم مذكراته الشخصية على تلك اللفائف. وكان يعمل بصمت، والكثيرون لا يعرفون أنه يرسم، إذ لم يجر أية مقابلات صحفية، ولم ينظم معرضا ولا كان له دور في الحياة الثقافية في بوينس آيرس. يقول ميغيل ” أعتقد أنه كان يعتبر عمله شيئا شخصيا تماما، نوعا من المذكرات الحميمة وسيرة ذاتية مصورة. ربما لأنه أبكم، فإنه كان يحتاج إلى سرد قصته الخاصة على نفسه، ورواية تجربته الذاتية في جدارية لا تنتهي أبدا. لقد كان سعيدا برسم حياته. ولم تكن لديه أي حاجة إلى عرضها. فبالنسبة إليه، أن يحيا حياته يعني ببساطة أن يرسمها”. عندما كان في التاسعة من عمره تعرض لحادث أثناء ركوب الخيل وسط بستان النخيل، وظل يرسم ذاك الحصان لفترات طويلة. إثر هذا الحادث، تكسرت جمجمته وتحطم فكه وخلع وركه، وفقد حاسة النطق. في تلك الفترة، أهديت له ألوان مائية إنكليزية أحضرها له طبيبه من خلف النهر في الباراغوي. وحين ابتدأ برسم لوحته الشهيرة في سن العشرين، أحرق كل جهوده السابقة في الرسم.

قبل وفاته في المستشفى، سأله ابنه لويس عن الرسم ، أشار بيده وكأنه أراد أن يقول” لا يهمّ، لقد سبق وأن استمتعت به”.. ثم وضع إبهامه أسفل عينه، ورفع ذقنه باتجاه أمي… وقد فهمت من حركته تلك أنه يقول: حافظا عليها، أو شيئا من هذا القبيل”. وقد أدرجت اللوحة الكبيرة ، في ما بعد ، كجزء من التراث الثقافي الإقليمي. وحين تم للأخوين العثور على اللفائف في أحد الأكواخ القريبة حيث كان الأب يرسم حياته هناك، فوجئا باللفافة الأخيرة غير مكتملة” كانت الأمتار القليلة الأخيرة من القماش جميعها بلون المياة الراكدة، شفافة حينا وفي آحايين أخرى غامقة مثل صمت تحت الماء، حيث تسبح أحيانا سمكة وحيدة بمفردها أو تطفو دوائر قليلة على السطح..”. يقول آلدو المشرف على الكوخ” بعد أن أتم هذا الجزء، نفدت قواه. ولم يرغب في المواصلة..”. لقد اختار أن يموت.

رواية ” السنة المفقودة ” للروائي الأرجنتيني بيدرو ميرال، صدرت عن دار مسكلياني في تونس عام 2016، ترجمها أشرف القرقني وقدم لها زياد عبد القادر. يقول صالح علماني”هي رواية صغيرة، ولكنها عبقرية، فيها تتكلم رسوم سالفاتييرّا من تلقاء ذاتها لتقول لنا: كان يا ما كان..”. ويقول زياد عبد القادر” تكون في راحة من عقلك وبمجرد أن تتصفح الكتاب يختل توازنك، وتمضي في نهر الحكاية مسحوبا باندفاع التيار، بعيدا عن غرفتك، عن طاولتك وكرسيك ومصباح مكتبك، وأنت تجدّف خلف الراوي(الابن ميغيل)، باحثا عن لفافة الرسم الضائعة. تجتاز قرى أرجنتينية، تقابل صيادين ومهربين، تمشي على طول أنهار موحلة وتركب عبّارة صدئة في جنح الظلام قبل أن تهتدي إلى أنك كنت بصدد البحث عن قصيدة رسمها بيدرو ميرال وكتبتها عيناك على الطريق وأنت تقرأ..”.

مؤسسة رويل الهولندية أرسلت مندوبيها لتصوير اللوحة رقميا لتعرضها في متحف في أمستردام على أن يتم لاحقا نقل اللفائف الأصلية إلى هناك. لكن الحريق التهم الكوخ بكل محتوياته مع اللفائف، وبقيت لوحة السنة المفقودة التي عثر عليها لاحقا. فلماذا سرقت هذه اللفافة واختفت؟

في إحدى الليالي، قام جدال عنيف بين أصدقاء سالفاتييرّا، فقام أحدهم ويدعى فرمين إيبانيز، وهو رجل أسود، بشقّ قماش اللوحة بسكينه وقام بتهديد سالفاتييرّا. ثم انتهت الليلة بالصلح بينهم. في لوحة السنة المفقودة، كانت هناك امرأة ذات عينين مضيئتين وهي يوجينيا راكامورا مرسومة بواسطة التذكر عارية في سرير من أسرة غرف النوم السرية في مقاطعتهم بارّانكالس، تسقط أشعة الشمس عليها. تعرّف عليها ميغيل عندما ذهب إلى مكتب البريد حيث كان يعمل والده سالفاتييرّا ليسأل الموظفة المسنّة عن اللفافة المفقودة، وهي تدعى يوجينيا راكامورا. ثم يطلّع ميغيل على صورها في أوضاع مختلفة في رسومات أبيه.. وكانت صدمة كبيرة له ولأخيه، إذ تيقنا أن والده وهذه المرأة أقاما علاقة حميمية سنة 1961 وهي السنة التي اختفت من الرسومات، إذ كانت في الخامسة والعشرين وهو في الثانية والخمسين ومتزوج. حين اكتشفا خيانة أبيهما، قال لويس” إن ما يحدث لشخص ما ينتمي لزمانه هو. كان ينبغي أن لا تنقّب عنه، فترفعه إلى السطح. (ثمّت) حكمة ما في بقائه منسيا. على كل شخص أن يعيش حياته الخاصة ويترك الموتى يرقدون بسلام”. وتذكرا تلك الليلة قبل وفاته في المستشفى حين رفع الأب يده بعد أن سأله لويس عن مآل الرسومات، وأشار إلى زوجته، واعتقدا حينها أنه يريد منهما أن يعتنيا بأمهما بعد وفاته. يقول ميغيل”في ذلك الوقت ظننت أنه يقصد انتبها لأمكما، اعتنيا بها، أما الآن فأظنه كان يقول: افعلا ما تريدانه بلفافات الرسم، ولكن، انتبها لأمكما. لا تسمحا لها برؤية الأشياء التي رسمتها..”. ووجدا في اللفافة ذاتها صورة لامرأة سوداء عارية عند مقطع النهر، شبيهة بروح تائهة تفرّ بين أغصان البرسيكاريا وأوراقها. ولاحظ ميغيل بأن هذا القسم قد خيط بشكل قطري من أجل ترقيعه وإصلاحه. فهو التمزق الذي أحدثه فرمين إيبانيز خلال الشجار الذي دار في الكوخ في تلك الليلة.. وكانت المرأة السوداء هي أخت فرمين إيبانيز والتي أنجبت من سالفاتييرّا ابنا غير شرعي هو أخ غير شقيق لميغيل ولويس.

رواية مثيرة تُقرأ دفعة واحدة. مذكرات حياة كاملة بكل تفاصيلها تحكيها رسومات بالألوان.

 

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى