لماذا يذهب كبار الادباء الى الموت بدل الجلوس في انتظاره ؟
في 28 من آذار عام 1941 ملأت الكاتبة الإنجليزية فيرجينيا وولف جيوب معطفها بالحجارة واتجهت صوب نهر الأوز لتُنهي حياتها بالانتحار غرقًا واضعة بذلك حدًا لنوبَات الجنون التي كانت تجتاحها، وهكذا سكتت الأصوات التي كان يُخيَّل لها أنها تسمعها للأبد. وبعد 20 عامًا أطلق إرنست هيمنجواي رصاصة من بندقيته المفضّلة على رأسه واضعًا بذلك حدًا لحياته التي عانى في أواخرها من اضطراباتٍ نفسيةٍ شديدة الوطأة عصفت بحياته، لتحذو الشاعرة الأمريكية سيلفيا بلاث حذوه بعدها بعامين فقط وتنهي حياتها بطريقةٍ استثنائية حين وضعت رأسها في فرن الموقد لتشمّ الغاز القاتل منهية بذلك سلسلة الخذلان التي تعرّضت لها في حياتها وتعلن انتصارها على الموت الذي طالما «راوغها» منذ الثامنة من عمرها (حين تُوفي والدها) فذهبت هي له طائعة مختارة.
وقد حُكي أنه عند سماع الشاعرة آن سيكستون بخبر انتحار هيمنجواي أشادت بجرأته وقدرته على إنهاء حياته وهو في أوجِ مجده قبل أن يستسلم للاكتئاب الذي ألمّ به ويتحول هذا المجد إلى ذكرى ويأتيه الموت فيجده عجوزًا حزينًا، كما أنها قد عقبت على هذا الأمر قائلة «لقد كان ذلك خيرًا له».
لكنّ سيكستون التي رأت أن انتحار هيمنجواي كان خيرًا له قد انتابها الرعب عندما سمعت بنبأ انتحار صديقتها سيلفيا بلاث إذ صرخت قائلة «كنت أنا أولى بهذا الموت»، وبعد 11 عامًا قرّرت سيكستون اللحاق بصديقتها إذ ارتدت معطف الفراء الخاص بوالدتها الراحلة وأغلقت باب المرآب وشغّلت محرك السيارة وظلت تستنشق غاز أول أكسيد الكربون القاتل ليُعلن عن وفاتها انتحارًا في الرابع من تشرين الأول عام 1974.
لم تكن فيرجينيا وولف بالطبع هي أول من ينتحر من الأدباء وكذلك سيكستون لم تكن آخرهم إذ سبق الأولى وتلا الأخيرة عددٌ كبير من الأدباء الذين لم يستطيعوا أن ينتظروا الموت حتى يأتي إليهم فذهبوا هم إليه طواعية جاعلين الناس بذلك يتساءلون لعقودٍ طويلة لماذا كل هذا الأسى؟ وهل يعتبر الاكتئاب المفضي إلى الانتحار هو ضريبة التميُّز والإبداع، أم أنّ معرفة الحياة على حقيقتها والإسراف في إدراك الأشياء والشعور بها هو حقًا مرض يجعل الحياة تستحيل؟ وهل هؤلاء الأدباء الذين أرادوا الذهاب إلى الموت وهم يحدقون في عينيه شجعان مِقدامون أم أنّهم مجرد جبناء يهربون من مواجهة الحياة.
في هذا الصدد يرى نيتشه أن حياة الإنسان مرتبطة بمدى قدرته على العطاء، وأنَّه متى شعر الإنسان بعدم قدرته على تقديم المزيد أو العلوّ أكثر مما هو عليه فإنّه يشعر بحاجةٍ شديدة إلى الموت ولذلك يجب أن يجعل الإنسان من موته عيدًا فيختار هو موعده وشكله وطريقته ليقطع بذلك الفرصة على الموت المفاجئ أن يحرمه حق الاختيار. فهو يرى أن الموت الذي لا دخل لإرادة المرء فيه هو موت الجبناء ولكنه على الرغم من ذلك، قد حُرم من جعل موته عيدًا – كما يقول – إذ انتهى به الأمر بأن مسته لوثة من الجنون استمرت 11 عامًا أودع على إثرها في إحدى المصحات العقلية حيث انتهت حياته.
الكاتبة فيرجينيا وولف
على الجانب الآخر يرى الفيلسوف ألبير كامو أن الانتحار ليس حلًا مناسبًا لأنه ينفي المشكلة بدلًا من حلها ويقول إن الحلَّ المناسب إنما يكمن في مقدرة الإنسان على خلق فنّ يعكس حالته الإنسانية. ولكنَّه – على الرغم من ذلك – قد صرح لأحد أصدقائه المقربين لأكثر من مرة بأنه يشعر بالخواء الداخلي وأنه مليء باليأس القاتل وليس من المستبعد أن يلجأ للانتحار.
ولكن ماذا لو كان الكتاب المنتحرون يشعرون بقوة غامضة تدفعهم دفعًا لإنهاء حياتهم؟! ماذا لو لم يكن قرارهم بالانتحار نابعًا من رغبتهم في إثبات مدى شجاعتهم في مواجهة الموت أو هربًا من المشاكل التي تعج بها حياتهم؟ وماذا لو كان انتحارهم هو وليد صراعات طويلة مع أمراض نفسية كالاكتئاب الشديد أو الاضطراب ثنائي القطب؟
هل حقًا لدى الأدباء شغفٌ بالموت؟
سوف أقتل نفسي غير آسف على الحياة
سوف أنتحر لأنني لم أعد قادرًا على الحياة
لقد تعبت من النوم والاستيقاظ كل يوم
يا لها من عادة مملة رتيبة
أريد أن أنام مرة واحدة إلى الأبد.
*الشاعر الفرنسي شارل بودلير.
من بين كل الفنانين، كان الأدباء هم الأكثر تأثرًا بفكرة الموت وفلسفته، ولكن درجة تعاملهم معه وتأثرهم به اختلفت من فردٍ لآخر؛ فمنهم من أبقاهُ مجرد موضوع يناقشه في أعماله الأدبية ومنهم من نجح الموت في التسلل من كتاباته وأصبح هاجسًا له وشغفًا أصبح يطارده ورأى أنه الملجأ والخلاص الأخير من عالم لم يعد يُحتمل من وجهة نظره.
في محاولة منه لتوضيح السبب وراء النزعات الانتحارية التي لا يستطيع بعض الفنانين على وجه العموم والكتاب على وجه الخصوص مقاومتها، قام روبرت جاي ليفتون، أستاذ الطب النفسي بجامعة نيويورك، بطرح ما أسماه «بنية الانتحار». وهي فكرة أو صورة داخلية تعزز لدى الشخص الرغبة في الانتحار نتيجة لقيام أحد أفراد عائلته المقربين بالإقدام على إنهاء حياته. أو ربما تتمثل بنية الانتحار في رغبة الشخص المقدم على الانتحار في البحث عن عالم أفضل لم يستطع إيجاده في الدنيا، أو لرغبته في تحقيق شيءٍ ما لم يستطع تحقيقه في حياته فسعى إلى خلق فرصة جديدة في عالم آخر ربما يكون أفضل.
وقد تحدث ليفتون عن افتتان الكاتب الياباني يوكيو مشيميا، الذي قضى منتحرًا بطريقة الساموراي (هارا كيري)، قائلًا إن بنية الانتحار لديه كانت قوية جدًا لدرجة أن الموت كان يمثل شيئًا أقرب إلى الشبق بالنسبة إليه. أما بالنسبة لإرنست همنجواي؛ فيرى ليفتون أنه قد قرر أن يواجه الموت الذي قد تتبعه منذ وفاة والده انتحارًا فتخلص من حياته، وقد حذت الشاعرة سيلفيا بلاث – كما يرى ليفتون – حذوه وقررت إنهاء حياتها بطريقة تحمل الكثير من التصميم ليكون الموت وسيلتها لمقابلة والدها الذي أهمل في علاج نفسه ورحل وتركها وحيدة، حسب تعبيرها هي، في عمر ثماني سنوات.
الكاتب الياباني يوكيو ميشميا
في هذا الصدد ترى الطبيبة النفسية والكاتبة الأمريكية كاي جاميسون أنّ العوامل التي تؤجِّج ملكة الإبداع عند الكاتب وتصاحبه في رحلته الفنية، كالطاقة الزائدة، والذكاء المتقد، ونفاذ البصيرة والمزاج المحموم الذي لا يعرف الهدوء، عادة ما تصاحبها حالاتٌ مزاجية شديدة القتامة، وأفكارٌ سوداوية، بل وأحيانًا نوباتٌ من الجنون. وبذلك فإن هذه الحالات المزاجية المتضاربة التي يعاني منها الكاتب والتي تثير بداخله العديد من الانفعالات والعواصف لا تشكِّل فقط المزاج الفني بل إنها تشبه العوامل الرئيسة المميزة لمرض الهوس الاكتئابي الذي يزرع في الشخص المصاب به ميلًا كبيرًا إلى الانتحار، كما تقول كاي جاميسون.
ولعل الشاعر الإنجليزي وأحد روَّاد الحركة الرومانسية، اللورد بايرون، قد فطن إلى هذا الأمر باكرًا حين قال متحدثًا عن نفسه وأقرانه من الشعراء: «نحن أصحاب الصنعة كلنا مجانين؛ فجميعنا تصيبنا نوبات الحبور الزائد والكآبة المفرطة».
وتُشير دراسة نشرتها إحدى الدوريات المتخصصة في علم النفس، التي تصدر عن الجمعية الأمريكية للطب النفسي، إلى أن عددًا كبيرًا من الفنانين تنطبق عليهم معايير تشخيص مرض الهوس الاكتئابي (يُسمى أيضًا بالاضطراب ثنائي القطب) أو الاكتئاب الشديد، وأن الأدباء بالأخص معرضون للإصابة، بنسبة تتراوح من 10 إلى 20 مرة أكثر من عموم الناس، بمرض الاضطراب ثنائي القطب أو الاكتئاب الشديد الذي يدفع المصاب به إلى التفكير بالانتحار أكثر مما يفعل أي اضطراب نفسي آخر.
الشاعر الإنجليزي اللورد بايرون
هذا التأرجح بين الحالات المزاجية المتضادة هو ما جعل الناس عقودًا طويلة يصفون الشخص المبدع بالمجنون ولكنهم لم يصلوا إلى اتفاقٍ بعد حول أيّ نوع من الجنون يكون عليه المبدع، أهو الجنون الذي يُذهب بالعقل أم أنَّه ذلك الجنون المحبَّب الذي يُثري الإبداع بدلًا من أن يضرَّه وينم عن ذكاءٍ متقد ونفاذ بصيرة وحس إبداعي يعج بالخيال والصورة الجمالية؟
ترى كاي جاميسون أنّ الهوس الاكتئابي وما يصاحبه من حالاتٍ مزاجية تحمل قدرًا من الجرأة، والإحساس المتعاظم بالأشياء والسخط على الحياة ومجريات أحداثها إنما يُثري مقدرة الكاتب الفنية لأن هذه الأعراض هي عينها التي تميز الفنان المبدع. وأضافت أن الباحثين قد توصلوا إلى أنّ الإنسان الطبيعيّ يميلُ إلى التفكير بصورة أكثر منطقية وعقلانية في الحالات العادية بينما يطلق لخياله العنان ويلجأ للتفكير النقدي عند شعوره بالاكتئاب.
وربما كان هذا هو الرأي الذي تبنته الكاتبة الأمريكية جويس كارول أوتس في مجرى حديثها عن الشاعرة الراحلة إميلي ديكنسون التي كانت تعاني من العُصاب النفسي (الاضطراب العصبي) إذ قالت: «إنَّ مرضى العصاب النفسي ومعاقري الخمر إنما يضعون بصمتهم على الحياة ويجعلونها أفضل ويظلّ الناس يحكون حكاياتهم أمدًا طويلًا، بينما يكتفي الناس العاديون بأداء عملهم فقط».
وبذلك ظُنّ أن الكاتب لو افتقد حالاته المزاجية المتضادة فإنه سوف يصبح شخصًا عاديًّا كغيره وسيفقد قدرته على الإبداع. فقد قيل قديمًا إنّ الإبداع إنَّما تذكيه الشياطين التي يراها الفنانون في أحلامهم ويصارعونها في أحلك أوقاتهم، ولعل الأديب الأمريكي ويليام فوكنر قد أكّد هذا الأمر حين قال في مقابلة مع مجلة ذا باريس ريفيو إنه يرى أنّ: «الفنان خالق. ولكنه خالق تدفعه الشياطين. وهو لا يعرف لماذا اختارته الشياطين هو بالذات، وهو دائم الانشغال عن التساؤل عن سر ذلك».
سارة كين: هذا العالم مُخيف
أنا أكتب الحقيقة وهذا ما يقتلني. على أنفاس حبيبي سأشنق نفسي في تمام الرابعة وثماني وأربعين دقيقة.. هل أعددت أي خطط؟ تعاطيت جرعة زائدة، وجرحت معصمي ثم شنقت نفسي.. كل هذه الأمور معًا؟
لا إمكانية لإساءة فهم هذا الأمر كصرخة لطلب المساعدة. سارة كين من مسرحية (ذُهان 4:48).
ست مسرحيات كُتبت في خمس سنوات فقط هم الرصيد الفني للكاتبة المسرحية البريطانية، سارة كين، التي نشرت أولى مسرحياتها بعنوان «البغيض – Blasted» وهي في الثالثة والعشرين فقط من عمرها وماتت بالانتحار شنقًا بعد فترةٍ وجيزة من إنهاء مسرحيتها الأخيرة «ذهان 4:84 – psychosis 4:48» وهي في الثامنة والعشرين.
في عام 1995م، أثناء الحرب على البوسنة، عرضت سارة كين أولى مسرحياتها – التي وصفها النقاد بالعدمية – على خشبة مسرح «رويال كورت» الذي اشتُهر بسياسته الداعمة لتقديم الكتاب الجدد الذين يقدمون أعمالًا تتسم بالجرأة. فهو المسرح الذي قد قدم قبلًا، تحديدًا عام 1965، مسرحيتين أثارتا الكثير من الجدل. كانت أولاهما مسرحية رأى النقاد أنها سجلت البداية الحقيقية للحداثة المسرحية خلال النصف الثاني من القرن العشرين، وهي «انظر إلى الوراء في غضب – Look Back in Anger» للكاتب المسرحي جون أوزبورن الذي أصبح واحدًا من أهم المسرحيين في القرن العشرين بعد عرض هذه المسرحية. أما المسرحية الثانية فكانت مسرحية «الناجي – Saved» للكاتب إدوارد بوند التي أثارت عاصفة من استياء النقاد والجمهور على حد سواء لأنها احتوت على مشهد مروع لطفل رضيع يتم رجمه بالحجارة وهو في مهده حتى الموت.
إذن فظاهرة العنف ليست غريبة على المسرح البريطاني، ولكن ما كان غريبًا حقًّا هو أن تقوم فتاة لديها 23 عامًا فقط بتأليف مسرحية يحتوي مشهدها الافتتاحي على رجلين أحدهما جندي يغتصب الآخر بوحشية ثم يفقأ عينيه ويجبره بعدها على أكل لحم طفلٍ ميت. ولم يكن هذا المشهد هو الوحيد المفزع وغير المقبول في هذه المسرحية، بل إنها احتوت على مشهدٍ آخر أكثر وحشية وإيلامًا يقوم فيه صحفي انتهازي باستغلال فتاة مراهقة معاقة ذهنيًا واستدراجها إلى غرفته في الفندق ثم يغتصبها ويمعن في إذلالها.
كان العالم هو الشيء «البغيض» في نظر كين التي لم تتورّع عن أن تكشف قبحه وكيله بمكيالين غير عابئة بما قد يقول النقاد، أو حتى الجمهور، عن مسرحيتها الأولى وما تحويه من مشاهد صادمة تحمل قدرًا كبيرًا من العنف النفسي والجسدي الذي يصعب أداؤه على خشبة المسرح أمام جماهير المتفرجين. فبينما كتبت صحيفة ديلي ميل عن المسرحية واصفة إياها بأنها «وليمة من القذارة المثيرة للاشمئزاز»، عبّرت كين عن دهشتها الشديدة لتركيز الصحافة والإعلام بشدة على مسرحية عُرضت في مسرح سعته 65 متفرجًا فقط بينما يتم هذا الأمر يوميًا، ولكن بشكلٍ حقيقي وليس مجرد تمثيلٍ مسرحيّ، في معسكراتِ الاغتصاب في البوسنة. وردت محتدة على الصحفي الذي كان يلمح إلى كونها مريضة لتكتب مسرحية تحمل هذا القدر الهائل من العنف قائلة: «مريضة؟! من الذي تدعوه بالمريض؟ أتعلم، ما هو مريض بحق؟ هو رد الفعل المبالغ فيه على مسرحيتي». لقد رأت كين أن العالم بغيض ومريض لدرجة أنّه يغضُّ الطرف عن الاغتصاب والعنف الذي يدور في البوسنة بينما تثور ثائرته عندما تقرر هي أن تُريه نموذجًا لما يُفعل هناك جهارًا على خشبة المسرح.
بعد ذلك توالت أعمال كين المسرحية التي لم تخلُ من الإبداع واللغة المركزة وكذلك التشوهات والقبح والأمراض النفسية المرافقة للذات الإنسانية، وإن كانت قد تناولت الأمر بطريقةٍ أكثر لباقة فيما بعد، ولكنها أكدت على أنها لم تأت بجديد بل تستوحي أحداث مسرحياتها مما تراه وتعيشه يوميًا. حتى جاءت مسرحيتها الأخيرة «ذهان 4:48» بمثابة صرخة استغاثة أخيرة من الاضطراب والألم اللذينِ ألمَّا بها؛ فقد كُتبت هذه المسرحية في خضم معاناة الكاتبة من مرض الاضطراب ثنائي القطب لدرجة أن وكيلها الأدبي قد قال: «لقد كان يجب عليّ أن أفطن إلى أن هذه المسرحية كانت رسالة انتحار ولكنني أدركت الأمر متأخرًا».
وصفت هذه المسرحية الاكتئاب بدقةٍ شديدة وكأن الاكتئاب هو الذي يتحدَّث عن نفسه فيها، كما أنّ الكاتبة قد اختارت الساعة 4:48 صباحًا بالتحديد لأنّ هذه هي الساعة التي كانت دائمًا ما تصحو فزعةً فيها خلال معاناتها من نوبات الاكتئاب، كما يروي صديقها الكاتب المسرحي ديفيد كريغ. ويستطرد كريغ قائلًا إنّ هذه القطعة الأدبية مؤلمة بشكلٍ لا يمكن وصفه لأنّها «كُتبت وكأن كاتبتها كانت تعلم تمام العلم أنها ستُنشر بعد موتها» فأفرغت فيها معاناتها وأفكارها المتضاربة دون مداراةٍ أو خجل.
بلا فصول ولا شخصيات محددة كتبت كين مسرحيتها الأخيرة، التي بدت على الورق كقصيدةٍ مقبضةٍ مخيفة وحزينة، أو رحلةٍ في عقل شخصٍ معذَّب، أو مقابلة بين مريضٍ وطبيبه النفسي، أكثر من كونها مسرحية في الفترة الممتدة بين خريف وشتاء عامي 1998 – 1999 أثناء إصابتها بإحدى نوبات الاكتئاب التي أودعت على إثرها بإحدى المصحات النفسية.
وهناك، في مستشفى مودسلي بلندن، حاولت كين الانتحار عن طريق شرب كمية كبيرة من الدواء الذي تتعاطاه للمعالجة من الاكتئاب ولكن تم إنقاذها لتقوم بعدها بيومين فقط – في يوم 20 شباط عام 1999 – باستغلال انشغال الممرضة عنها وتسرع بشنق نفسها في حمام المستشفى مستخدمةً رباط حذائها. وبذلك أسدل الستار على حياة سارة كين التي لم ينجح أي عقار في العالم في إعطائها معنى وهزمتها نوبات الهوس الاكتئابي في آخر الأمر إذ استسلمت لوسوسات «شياطينها» وأنهت حياتها في ذلك العالم الذي كانت تراه بغيضًا آملة في أن تجد فرصة للسلام في عالم آخر.
الكاتب الامريكي إرنست همنجواي
“ما من شيء لتكتب. كل ما عليك فعله هو أن تجلس إلى الآلة الكاتبة وتبدأ في النزيف”. *إرنست همنجواي.
يجري فتىً صغير في إحدى الغابات، ولكنّه يسقط على الأرض وتخترق عصا حادة في حجم السيجار حلقه لدرجة أنّها تدفع بجزءٍ من لوزتيه خارج فمه. فيذهب من فوره إلى المنزل، حيث والده الطبيب الجرّاح، والدم يقطر من حلقه فتُصعق أمه لرؤيته بهذا الشكل وينتابها الذعر ولكنّ والده يهدِّئ من روعه ويحاول إيقاف النزيف وتطهير الجرح وتخييطه، وعندما يصرخ الصغير من الألم يخبره والده في هدوءٍ أن عليه أن يتجاهل هذا الألم تمامًا وأن يصفر بفمه لحنًا مبهجًا لأن الصفير أفضل مسكِّن للألم.
كان هذا الصغير هو الكاتب الأمريكي إرنست همنجواي الذي تعلَّم من والده، منذ ذلك اليوم كيف يقاوم الألم ويواجهه دون خوفٍ إذا لزم الأمر. ولكن ماذا حدث للوالد، كلارنس همنجواي، وجعله يقرِّر الانتحار؟ أيمكن أن يكون قد واجه ألمًا عظيمًا لم يستطع الصفير تسكينه؟! ولماذا حذا ابنه حذوه وأنهى حياته بدلًا من أن يعزف بفمه ألحانًا مبهجة يواجه بها آلام الصدمات الكهربائية التي كان يتلقاها جراء الاكتئاب الذي ألمَّ به؟
فضلًا عن أن همنجواي كان أديبًا مرموقًا حائزًا على جائزة نوبل، إلا أنّه لم يكن رجلًا عاديًا ؛ فهو مصارع الثيران، والمغامر الذي يعشق الإبحار في المحيطات لصيد الأسماك ورؤية الحيتان، والبطل الذي شارك في الحرب العالمية؛ فلماذا إذن وكيف يقدم على الانتحار؟
في عام 2006 نشرت المجلة الأمريكية للطبّ النفسيّ مقالًا مطولًا لكريستوفر مارتن أستاذ الطب النفسي قد يحتوي على إجابات لهذه الأسئلة. يقول مارتن إنه بعد أن قرأ حوالي 15 سيرة ذاتية ومذكِّراتٍ خاصة بهمنجواي فإنه قد توصل إلى استنتاج مفاده أن الكاتب الكبير كان يعاني من اضطراب ثنائي القطب وإدمان الكحول. ويضيف مارتن أنّ مرض الهوس الاكتئابي (الاضطراب ثنائي القطبين) يعدُّ مرضًا وراثيًا تتناقله عائلة همنجواي؛ فوالده وأشقاؤه وابنه وكذلك حفيدته – مارجوس – كانوا يعانون جميعهم من هذا المرض المميت في أغلب الأحيان.
وعلى الرغم من أنّ همنجواي قد رأى أنّ انتحار والده ينمُّ عن جبنٍ في بادئ الأمر، إلا أنَّه لم يستطع تجنُّب المصير ذاته. فعلى الرغم من نجاحه الكبير أديبًا إلا أنّ القلق لم يتركه وشأنه إطلاقًا فقد كان دائم الخوف من شيءٍ ما لا يمكن تحديده، حتَّى إن فوزه بجائزة نوبل قد أخافه أكثر مما أسعده لأنّه كان يرى أن الأدباء عادة ما لا يكتبون شيئًا ذا قيمة بعد حصولهم على هذه الجائزة.
وهكذا انتظر همنجواي الكلمات أن تأتيه بعد نوبل، ولكنّ الاكتئاب كان قد أتى بدلًا منها وانتابته الشكوك في تتبع «إف. بي. آي» له، وإن كان هذا الأمر صحيحًا في الواقع، وكثرت زياراته للعيادات النفسية وحاول الانتحار مرتين، وأودع شهرين في إحدى المصحات النفسية حتى ظنّ طبيبه أنه قد تعافى وسمح له بالخروج. وفي الساعات الأولى من صباح الثاني من تمُّوزعام 1961 كان ألم همنجواي قد بلغ أقصاه حتى قرَّر أن يسكته بإطلاق النارعلى رأسه ليلحق بوالده الراحل الذي ربما قد أورثه جيناتِ الاكتئاب والميل إلى الانتحار.