أدبيات الفكر القومي بين الأمس واليوم !

لعل أبرز ما ميز الكتابات القومية منذ بداية القرن العشرين هو مستواها المعرفي المتقدم في الفترة التي كتبت فيها ، وامتلاكها ليقينات ومسلمات وبداهات حول التكوين التاريخي للأمة العربية وحول الفكرة القومية وعناصرها الرئيسة المكوّنة المتوفرة في الوطن العربي وانطواء هذه الكتابات على نزعة تفاؤلية ( وحتى ظفراوية) ترى الأهداف القومية الكبرى قريبة أو قاب قوسين أو أدنى من التحقق ولم تكن تنحكم ب وتنطلق من  الظواهر السلبية والنابذة التي كانت تظهر هنا وهناك في الواقع العربي  كما أنها لم تقفز عنها في الوقت نفسه ولكنها كانت ترى وتشخّص كل ما هو سلبي على أنه سياق من سياقات حركة النهوض القومي العام ومنعرجاته وتحولاته المفترضة ومساراته اللولبية وجدلياته في السقوط والنهضة ، والأهم أنها لم تر في السلبيات والإخفاقات نهاية تاريخ ومطاف ، أو منطلقات للعدمية والنكوص واشتقاق الفكرالعقيم.

وأسست الأدبيات القومية بهذه المثابة أنساقاً بدئية من الفكر النهضوي المتجدد والمطابق لحركة التاريخ والمجسد لتطلعات الأمة والجاذب للجماهير العربية فكان أن التفّت الجماهير العربية حول هذا الفكر وحركاته وأنتجت الكثير من التجليات والواقعات التاريخية والسياسية وخاضت تحت عناوين الفكر القومي معارك  مع الاستعمار ومخططاته ومشاريعه في المنطقة ومع أضداد وأعداء الوحدة والتقدم والشدّ العكسي في الداخل وحققت الكثير في مجالات التقارب والتوحد والاندماج والاجتماع على كل ما يحقق الأهداف القومية الكبرى وفي مقدمتها تحرير فلسطين وكل الأراضي العربية السليبة .

لكن مراحل و ومحطات من الاخفاقات والانتكاسات  والانهيارات أخمدت هذه الاشتعالات القومية العربية ووضعتها أمام نقطة  تاريخية صفرية عام الهزيمة 1967 وكان أن انكسرت وذبلت  الارادات وتهاوت التطلعات وبدأت مرحلة فكرية نقدية  محدودة الأثر مبعثرة المناهج والرؤى لقراءة  هذا الواقع المأزوم والمهزوم إلا أنها تعثرت في استعادة الوعي القومي الشعبي أو التقاط مزاجه المنكسر وبدا الشطح السياسي والدروشة وجلد الذات عنوانا لتلك المرحلة وخمد وهج الفكر القومي ، لكن مفرداته وأطروحاته لم تندثر ولم تخرج من المجال وبقيت كامنة في الضمائر والوجدانات بشكلٍ أشدّ وأمضى من وجودها في الواقع وتقلص ميدان اشتغالها وجاذبيتها وبدأت في تلك المرحلة  معارضات وحملات جديدة من الهجوم والتتفيه والانتقاص من هذا الفكر ونسبة المصائب العربية إلى دعاته وحامليه ، وبدأ طغيان وفشوّ موجات من الفكر الأممي بجناحيه الاسلاموي والماركسوي وتداخلات “ثوروية” تلفيقية واستدخالات فكرية اعتباطية ومحاولات أخرى لتقليد بعض الحركات اليسراوية في العالم وضاعف ذلك من القلق والفوضى الفكرية وأنشأ في الوقت نفسه مهمات جديدة للفكر القومي بأن يبادر ويستعيد حيويته وألقه ويشتق ويفتتح الآفاق والمساحات الجديدة الممكنة للخروج من الأزمة .

ومع أن  ما ذكرته في الفقرة السابقة ليس من الانشغالات الرئيسة لهذه المقالة ( لأنه يحتاج إلى قراءة مطولة وخاصة وفحص موضوعي لنصوص تلك الفترة )  وإنما أردتها  أن تكون إلماحات وإلماعات عن قطيعات فكرية فاصلة حدثت على صعيد الفكر القومي  وجعلت هذا الفكر يراجع نقدياً مسلماته ويقيناته وآفاق تطوره وتبيان ما فيها من فراغات وإشكاليات ، وظهرت على ضوء ذلك إلى العلن كتابات قومية نقدية تجديدية أعادت ترتيب جدول أعمال اهتماماته على ضوء ما استجد من تطورات وتحولات وتراجعات في الواقع العربي  وتأسست في هذا المجال مراكز دراسات قومية ( مركز دراسات الوحدة العربية على سبيل المثال ) لتصوغ فكراً قومياً معاصراً يتأسس على قاعدة علمية – معرفية وفكراً نقدياً متجدداً يغترض ويتغيا إشاعة فكر قومي حداثي تتلاقى فيه وتنصهر كافة المدارس والتيارات القومية وتتأسس من خلاله مرجعيات فكرية عقلانية للفكر القومي ترسخ شرعيته وحضوره وراهنيته.

ويمكن القول أن الفكر القومي قد توزع في هذين المدارين والمرحلتين بين فكر ينطوي على تفاؤل الارادة بصياغاته التبشيرية الاستنهاضية البدئية ( التي شاء البعض تسميتها بالشاعرية والرومانسية والإنبناء على فكر رغبوي ) وآخر ينطوي على تشاؤم العقل وصرامة المنهجيات والمحددات ويعاني في بعض حالاته من الانئسار المطلق في شرنقة  المعطيات والتحديات النكوصية وينطلق منها لتفسير كل ما يجري في الواقع العربي باعتبار ذلك من متطلبات وضرورات الواقعية علماً أن هذا المنحى كان يعني في بعض لحظاته وتعبيراته انحصاراً معرفياً وانعداماً لإبداع البدائل وواحدية في الرؤية والتحليل وفشلاً في تفسير الواقع وقصوراً في فهم مسارات التاريخ وتحولاته  .

وإذا أمعنا النظر في الأدبيات الحديثة للفكر القومي وفي ما يصدر عن مراكز الدراسات القومية التي بدأت تظهر في أكثر من قطر عربي  فإننا سنجد نزوعاً لاستكمال ما بدأه رواد الفكر القومي ومواصلة تعميق وتجديد أطروحاته وتقديم ( رؤى جديدة حول الواقع العربي وممكنات نهوضه ، والاستفادة من المناهج والاطروحات الجديدة حول القومية ومفاهيمها ومظاهرها المتجددة وحركة استيقاظ القوميات على صعيد العالم نهاية القرن الماضي والدروس المستفادة منها )   ،  والسعي الجاد لافتتاح مرحلة نقدية في هذا الإطار تعيد قراءة وتفحص نصوص هذا الفكر التي ظهرت في مراحل مختلفة ومحاولة إعادة بناء عناصره على أسس من الحداثة والعقلانية وخلق تصورات وادراكات قومية استشرافية مطابقة لمعطيات الحاضر ومتطلبات المستقبل .

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى