مريم التونسية فتاة عشقت الخط العربي لانه الجامع بين الثقافة والهوية
كتب عائد عميرة/ تونس
منذ طفولتها كانت مريم تمارس أنواعًا عديدة من الفنون، كأنها في حالة دوران داخلي بحثًا عن فن يحتضن طاقتها ويعكس شخصيتها، فتجدها تنتقل من التصوير تارة إلى الرسم تارة أخرى إلى الموسيقى والعزف حتى استقرت على هذا العالم، عالم الخط العربي، أين وجدت نفسها التي كانت تبحث عنها.
في هذا العالم الجميل أيقنت مريم السكوحي، الفتاة التونسية ذات الـ24 ربيعًا، أن الخطّ لطالما كان بداخلها، يسكن طيّات قلبها باحثًا عن فرصة الظهور للعلن، فلعبت الصدف دورًا مهمًا واجتمعت العوامل والظروف، وبعد محاولاتها الفردية التحقت بالمركز الوطني لفنون الخط بالمدينة العتيقة في تونس العاصمة لصقل موهبتها وتأطيرها أكاديميًا.
وتقول مريم : “بدايتي مع الخط العربي لا يمكنني ربطها بتاريخ محدد”، وتضيف “ما يبقى عالقًا في ذهني تلك اللحظة الأولى التي لامست فيها القصبة (القلم)، وتبقى تلك القصبة مميزة بين أقلامي، في البداية كنت أمارس هوايتي في البيت، بعدها كان الاحتراف في المركز الوطني لفنون الخط”.
ويقع المركز الوطني لفنون الخط في المعلم التاريخي “زاوية سيدي علي شيحة”، الواقعة في منطقة الحلفاوين في ربض باب سويقة بمدينة تونس العتيقة، بعد أن تم ترميمها وصيانتها لإيواء مختلف المصالح والأنشطة والدورات التكوينية، ويعد المركز الذي تأسس سنة 1994 أحد أهم المؤسسات الفريدة من نوعها في المنطقتين العربية والإسلامية الناشطة في مجال الخط العربي والزخرفة الإسلامية تكوينًا وبحثًا وتنشيطًا ومحافظة وتطويرًا، حسب تعريف له في موقعه الرسمي.
وبالنسبة لمريم يتعدى الخط معناه فيصبح ذا أبعاد رمزية يجمع فيه الهوية والثقافة والأصالة، وتستدل على ذلك بقول الرسام الإسباني الكبير بيكاسو: “أردت الوصول إلى نقطة فرأيت الخط العربي قد سبقني إليها”، وفي لحظة تأمل، تقول مريم: “حين يكتب الخطاط يشعر بنوع من الحنين، حنين إلى زمن لم يعشه ولكنه باتصال دائم معه، زمن الإمام علي رضي الله عنه أول الخطاطين وابن مقلة والمستعصي وشوقي وهاشم وغيرهم من علماء وأقطاب الخط الذين طوروا الحرف العربي ووضعوا مدارس نسير على منهجها اليوم”.
عند وضع اللوحة أمامها تنشغل مريم عن العالم، وتكون في اتصال روحي معها، اتصال لا يفقه الكثير معانيه، فوحده العالم بأسرار تلك الحروف له أن يفهم ذلك، فـ”ممارسة هذا الفن فعلًا عبادة، إذ للحرف العربي جلالة وهو نوع من الصلاة بلسان اليد، كما يصفه ابن عباس، وهو فنّ يستهوي المسلم وغير المسلم، فيمس القلب بحركاته وأشكاله الهندسية ويخاطب الخيال ويحرك الوجدان”، تقول مريم وفي عباراتها لحن، تصمت قليلًا ثم تضيف “الخط العربي بجمالياته وفنونه الواسعة نوع من الرياضة العقلية والفنية التي تنمى بالتدريب والممارسة وتضمُر بالترك والإهمال، وتسهم قوة الأمة الحضارية في تعزيز إقبال الآخرين على تعلم فنون اللغة العربية مثل الخط، وينصرف الآخرون وأبناء الأمة أنفسهم عن لغتهم وفنونها في أوقات التردي الحضاري كالحقبة التي نمر بها اليوم”.
لم يكن الخط العربي يومًا شيئًا عابرًا في حياة مريم، فهو يعبر عن حالات الوجد والسير الروحي والاتصال بالروح الكلي، حيث كل حرف له قدسيته ورمزيته ويرسم بشكل فني دقيق، ومضبوط بقواعد وميزان إن أخل بهما انهار الحرف وفقد جماليته”، كما قال الخطاط ياقوت المستعصي هو “هندسة روحانية تمت بآلة جسمانية”.
وبقدر حبها للخط العربي، تتحسّر مريم على حاله في بلدها تونس، فمقارنة بباقي الدول العربية وحتى على النطاق المغاربي، يبقى للأسف إشعاع هذا المجال في تونس محدودًا، حسب قولها، ولامست مريم هذا الضعف من خلال محدودية عدد الخطاطين وعدد العروض في تونس”.
وعن سبب هذا الضعف تقول مريم: “حقيقة لا يمكنني تحديد أسباب عدم ازدهار هذا الفن كما يحصل في بلدان شقيقة أخرى، رغم أنه ليس بالغريب على تونس بلد الخط الكوفي القيرواني وخطوط مغاربية أخرى، فمتحف رقادة للفنون الإسلامية بالقيروان يأوي مخطوطات قديمة ترجع للقرن العاشر تتميز بأناقة أساليبها وثراء منمنماتها ومنها صفحات من المصحف الأزرق”.
وتستدرك بقولها “أومن أن لدينا تراثًا خطيًا ثريًا قد يجعل من تونس بلدًا رائدًا في فن الخط العربي”، ودعت مريم كل من له حب لهذا الفن النبيل أن يسير في هذا الحلم، “فلنا أساتذة خطاطون يُشهد بقدراتهم في المسابقات والمهرجانات الدولية، فالخط العربي أمانة برع فيه أجدادنا ووصلوا به إلى أعلى المراتب حتى درجة العظمة والخلود”.