في تفاوتِ حسابات الحقل والبيدَر السوريين .. آفاقٌ جديدة للصّراع

 

تكفي المؤشّرات الظاهرة و المستقرّة لتوحي بتحوّلاتٍ في الحرب السّوريّة في مظاهر انفراجاتٍ للأزمة العامّة للصّراع، بحيث يستطيع من يُريد أن يقرأ في ذلك شيئاً من الحلولِ العامّة لأعقد مفاصل الحرب، أن يتكهّن بانطفاء بعض مراكز النّار.

جلّ السّياسةِ في مكانٍ ما على بعد من “المعلومة”.. هي من قبيل التّكهّنات!

تحوّلات سياسيّة إقليميّة واسعة سوف لن تكون تضحيةً بالمصادر التّقليديّة لما يُسمّى “الإرهاب”، و لو أن ( قطرَ ) هي التي وقع عليها اختيار النّحرِ على مذبح السّياسة.

و لكن كما هو ” القربان المقدّس “- و هو تقليد قديم في السّياسة ، على كلّ حال- فإنّ ( قطر ) لن تكونَ بمثابة ” الشّيطان ” السّياسيّ الصّانع للإرهاب – كما تولّى الإعلام هذه الخرافة – و لو أنّها ، مهما كابَرَتْ – سيوحى لها بأن توحي بقبولها هذا ” الدّور “.

ثمّة أدوارٌ في صناعة و تصاعد و تأجيج ” الحدث ” المأساويّ التاريخيّ الذي صنعته هذه الحرب، و ما تزال، كما أنّ ثمّة أدواراً أيضاً تساهم بالإيحاء بانحداره نحو الانطفاء المديد.

يبدو أنّ المطلوبَ هو أن يُستعادَ توازن ” المنظومة الإقليميّة ” في وئامٍ سياسيّ مؤقّت تحتاجه إعادة ترتيب الأدوار بهدوء، ريثما يحين دور الفصل القادم من ” المسرحيّة ” العالميّة في ” الشّرق الأوسط “.

هو ليسَ تصدّعاً في جدارِ النّار الذي أحاط بسورية و أصدقائها و حلفائها، و إنّما استراحةٌ لهُ لإعادة شحنهِ بالوقودِ المستحدث و المتطوّر في الفكر و السّياسة سواء بسواء.

عندما أطلق المركز الإمبرياليّ فكرة ” نظريّة ” الفوضى الخلاقة، تصور الجميع أنّ هذه ” الفوضى ” سوف لن تأخذ لها سوى إيقاع واحد، و مظهر واحد ، و لكنّ الحقيقة مختلفة عند أصحاب النّظريّة.

إنّهم على الأقلّ يفكّرون في ” الأثناء ” ما بين التّخطيط و الإنتاج و الإخراج، على غير ما يُفكّر فيه المشاهدون.

في الواقع نستطيع تقرير مسألة أن النّتائج العامّة في الحصيلة المرحليّة للصّراع ، قد أرضت ” الجميع “.. .!!؟

لن نُفَصِّلَ في الأمر تفصيلاً مدرسيّاً ، و لكنّ ما هو ممكنٌ قوله هو أنّ النّتائج لم تكن قاضية على أحد قضاءً مبرماً ، و هذا هو – ربّما- ما كان ، في الأصل، في قائمة الأهداف.. !

لم تنمحِ خرائط ، و ليس هنالك ما يدعو إلى التّوقّع بانزياح الحدود السّياسيّة    ( و هذا ما كان هو رأينا دوماً ، إذ لم نعتقد يوماً بالتّقسيم الذي طنطن له ” الإعلام “) أو تغيير عميق في ” الدّيموغرافيا “، الّلهمّ إلّا في إعادة توزيع “داعش” توزيعاً جديداً كمثل توزيع أيّ ” رأسمال ” رمزيّ ، يجري ادّخاره إلى ” مناسبات ” ملائمة، أو كمثل احتمال ابتكار حلّ ما ( و لو مؤقّت ) في صيغة جغرافيّة مُستحدثة للّاجئين السّوريين في شمال ( الأردن )، و ربّما بالتّداخل مع مشكلة الّلاجئين الفلسطينيين.

في الوقت نفسه ، فإنّ التّحوّلات السيّاسيّة الكبيرة في ” المنطقة ” قد اصطدمت بواقع العوَز العميق للتّفاهمات و التّقاطعات و التّفاوضات ما بين القوى الرّئيسة في الصّراع.

ربّما تأجّلت مجموعة حلول أهمّها حلّ ” القضيّة الفلسطينيّة ” و مشكلة ” التّوطين ” طالما أن ” الحلّ المرغوب ” بات في متناول ” الممكن ” السّياسيّ، بعد التّفوّق ” الإسرائيليّ ” الذي حققّه الصّهاينة كنتيجةٍ مُستفادةٍ و غير مباشرة لمجريات عقدٍ من الحرب الطّاحنة ما بين ” أعداء “( إسرائيل ) ” التّقليديين “. واضح أكيداً أنّهم ليسوا جميعاً كذلك!

لقد حان الوقتُ لترحيل ” الملفّ ” كلّه إلى ( أستانة ) و ( جنيف ). و هناك سوف يُكتبُ له عمرٌ مديدُ من جديد ، قد لا يقلّ عن عمر الحرب نفسها في إطار ما تقرّر فيها من حلول عسكريةّ ضرورية كمقدّمة للحلّ المسمّى سياسياً بتصرّف!

ما سوف نشهدهُ متبدّلاً من جديد في ” الصراع ” هو هذا الشّوط السياسيّ المرهق ، أيضاً، حول ” الكلمات ” و ” المصطلحات ” و ” الأفكار ” التي من شأنها أن تُبْقِي على ساحة الصّراع العسكريّ تَغلي و تَمُورُ في أقرب منطقة من أبواق ” الإعلام “. و لكن من أين سيُمارسُ جميع هؤلاء الموظّفين  ( في الإعلام و ما يتّصلُ به ) أعمالهم لقاء الأموال التي تُغدقُ عليهم بلا حدود.. ؟

نحنُ ، إذاً، على أبواب مرحلةٍ من التّذريةِ على أرضِ البيدرِ السّياسيّ القريب ، بطبيعة الحال ، من الحقل المشتعل ، بعد اشتعال الجمر تحت الرّماد.

جملة من ” المبادئ ” سوف يجري تبادلها و تداولها في ( أستانة ) و في ( جنيف ).

التّلويح بورقة ” التّقسيم ” على شكل ” اغتصاب ” لأراضٍ في جنوب سورية و شمالها، و شرقها طبعاً، في عمليّة من الابتزاز االسّياسيّ و الدّبلوماسيّ ، مقابل أوراقٍ متناثرة هنا و هناك حول “جَعالات” إعادة الإعمار السّوريّة، التي ستُفرضُ- ربّما- أكثرها على ( قَطَر )، بعد أن حوصِرَتْ كشمّاعة للإرهاب ” الدّوليّ “، بينما هي لن تتردّد في الانصياع و الإذعان مقابل استعادتها لنجاتها ” المُشرّفة ” المدفوعة الثّمن.

الاستبقاءُ على رقابةٍ أو وصايةٍ أميركيّة للتّحوّلات الدّيموغرافيّة – الجغرافيّة في شرق سورية و شمالها و جنوبها، شرطٌ ضمنيّ لن يُعلنَ إعلاناً نهائيّاً ، و ذلك لتتمكّن أميركا من الإبقاء على باب الابتزاز مفتوحاً ( مُوَارَباً ) في وجه الرّوسيّ، و التّركيّ.. و الإسرائيليّ أيضاً.. !!؟

و هل لأحدٍ عاقلٍ أن يتجرّأ في ” السّياسة ” فيقول بتطابق المشروعين الأميركيّ و الإسرائيليّ في سياسة المكان و الزّمان.. ؟؟! و من النّافل أن نقول، أيضاً، في وجه الإيرانيّ! ..

وَمن لا يرونَ ذلك ، نُحيلُهُم إلى الاتفاق النووي مع إيران ، الذي عُقِدَ رُغْمَ أنْفِ ” إسرائيل ” .

و المعركة حامية الوطيس سوف تكون حصراً، هناك.. ، على “الدّستور السّوريّ” و مقارنات “المشاريع” التي لا تُحصى و المقدّمة كتوطئةٍ له جرى عليها التّوافق الضّمنيّ و البَدَهيّ في تناقضات بين الأطراف الأساسيّة للصّراع، مع صمتٍ أو تزكيةٍ بالصّمت لقاء ” التّقدّم ” الكاذب في ” المفاوضات “، من قبل جميع الأطراف ( الّلاعبين ) الإقليميين و الدّوليين، كُلٍّ منهم بما يخده أغراضه و أهدافه في تمرير مشاريعهم التي تختلف و تتفاوت بين ” المؤامرة ” على سورية، و بين الاستهتار بمستقبلها.

لا يتألّم أحدٌ كما سوف يتألّم السّوريّ و لن يدفع أحد أثمان الخسارات السّوريّة الماثلة في الأفق ، كما سوف يخسرها السّوريّ خسارة أكيدةٍ في كلّ حال!

و من مُلحقات معركة ” الدّستور ” ما هو راهنٌ منذ هذه الّلحظة حول شكل ” الحكم السّياسيّ” في سورية. تُرى هل سوفُ تُلحقُ سورية إلحاقاً مباشَراً بديموقراطيّات ” العالم الحُرّ “.. ؟؟!

إنّ الخلط الهائل للخطاب الإعلاميّ على جميع محطّات العالم المعنيّة بالصّراع في سورية ( و أصحابها هم أكثر ممّن يُعتقد أنّهم كذلك لأوّل وهلة.. ! )، يجعل من كلّ مراقبٍ سياسيّ لا يُمكن أن يأنسَ لأخبارٍ ميدانيّة و عسكريّة محضة، في خلط مباشرٍ لها مع” الدّبلوماسية ” و ” المباحثات الدّولية ” و” التّصعيد” في ” الشرق ” السّوريّ و في ” الشّمال ” و في “جنوبه”، في وقتٍ واحدٍ و فيما لا يتعدّى، أحياناً، موجزاً من “الإعلام” لا يتجاوز الدّقائق المعدودات! نحنُ أمام اندياحِ سيلٍ عرمرمٍ من قمّة جبلٍ عارم من غسلِ الأدمغة و العقول.

في باطن و ظاهر السّياسة ثمّة الكثيرُ ممّا يمكن أن يبلغه التّكهّن و التّوقّع السّياسيان . و لكننا، في الحالة السّورية، قد تجاوزنا – فيما تجاوز الحدث – مرحلة الكهانة الخالصة.

إنّه شيءٌ من قبيل الحقيقة أن نقول: إنّ تفاؤل السّوريّ، بصموده الأسطوريّ ، بدأ يُحَفّ بالكثير من رياح الحتِّ و التّعريةِ السّياسيّة.

و ما هو من غير الواضح، حصراً، إنّما هو ذلك المقابل المكافئ و المناسب من ” كمّيّة ” النّصرِ المنتظر، مقابل تكالب ” الآخر ” الذي يُفرّقه الهدف، بكل تأكيد، بينما يجمعه ” الغرض”.

أهداف مختلفة عند جميع الأطراف و الّلاعبين، و لكن الغرض واحد في الاستئثار بما يُمكنُ أن يعتبره كلّ منهم.. أو يجده ثمناً لما أسهم به في “حضور” هذه الملحمة التاريخيّة السّوريّة و المشاركة فيها من قريبٍ أو بعيد.

سوف تكون كلّ لغة قاصرة عن الإحاطة بواقع ” الشّيءِ ” أو ” الأشياء “، ما لَمْ تنطلق هذه الّلغة من الأرضِ السّوريّة التي احترقت بالنّار و بالدّماء و الوَيلات! و بعيداً عن الوجدانيّات الشّعريّة، في القراءة السّياسية، فإنّ ثمّة من ” الأشياء ” ما لا يُمكنُ أن تعبّرَعنها سوى كلماتٍ محدّدة بعينها على الحصر.

تبدأ، اليومَ ، حرب السّياسة و الدّبلوماسية ، بعدَ أن لم تنتهِ حرب النّار و الدّماء.

و في الدّاخل، في سورية، يستفيق الشّعب على أملٍ في التّخفيف و التّقليل من وطأة هذه الحرب المستذئبةِ على السّوريّ في نمط حياته و مقدّرات عيشه و طمأنينته في المأكل و المشربِ و المأوى، و في حياته النّفسيّة و الأخلاقيّة.

و سوف يتكرّرُ سؤال :

كم نحنُ السّوريين، إذاً، نحتاجُ إلى ” مفاهيم ” و ” وسائل ” و ” أدوات ” و ” مؤسّسات ” و ” أفكار ” و ” عمالقة ” و ” أبطال “.. لنستطيع أن نتجاوز كلّ ما هو في انتظارنا على مقربةٍ منّا ، و كأنّه شَفَا هُوّةٍ سحيقةٍ أو كأنّه سيفٌ مُصْلَتٌ على حبلِ الوريد.. ؟؟!

و من النّافل القول إنّ ما ينتظرُ السّوريين ، لا زال هو : شيءٌ من ” الحرب ” و ” المقاومة ” ، و شيءٌ من ” السّلامِ ” الواهن الصّعب ، و شيءٌ من ” إبداعِ ” فكرٍ و عملٍ ، و إبداعِ وطنٍ من جديد.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى