الدين والتدين.. مقاربة في الفروق

 

حينما يُبحَث في الشأن الديني بحثًا علميًّا – وقلَّما بُحِث فيه كذلك – لا يُنْتَبَه كثيرًا إلى ما يلابِسُ الحديث فيه من تخليطٍ غيرِ مشروع بين المفاهيم ومستويات الظاهرة المدروسة ، عند مَن يكتبون في مسائل الدين وعند جمهور المتلقين. ولقد يَفهم المرءُ لماذا يحصل مثل ذلك الخلط الفاضح، بين مستويات الظاهرة المدروسة ومفاهيمها، عند الكثرة الكاثرة من الكتّاب والدارسين العرب؛ فالأغلب من هؤلاء ليسوا في جملة المتخصِّصين، الذين يُؤْمَن على منهجِ تفكيرهم من الزلل ويُطْمَأَنّ إلى قويم طرائقهم في مقاربة ما يقاربونه، وإنما هم -على الأرجح- متدخِّلون بالرأي من خارج أطرِ التخصّص، الأمر الذي يبيح لهم استسهال تحويل موضوعٍ خاصٍّ بالبحث العلمي – من جنس موضوع الدين والمسألة الدينية – إلى شأنٍ عام يتناولُه الجميع بالحديث على غير أصول! لكنّ الذي يعسُر فهمُه (هو) أن يأتيَ التخليطَ ذاك دارسون لهم حظوظٌ من الإلمام، متفاوتةٌ، بأدوات البحث العلمي وطرائقِهِ وتقاليده.

من الأمثلة على ذلك الكلامُ، بلغة الترادف والمطابقة، على الدين والتديُّن والظاهرة الدينية والفكر الديني، وكأنها جميعَها تفيد المعنى عينَهُ، ثم بناء أفكارٍ أو استنتاجات على الخلط ذاك، وإشاعتها، وتوسُّلها في السلوك والفعل بوصفها أفكارًا حاكمة. وحين يكون الإسلام هو الدين المقصود، تكرّ سبحة الخلط والمرادفة بين: إسلام، مسلمين، إسلاميين، فكرٍ إسلامي، مجتمعٍ مسلم، عالَم إسلامي.. إلخ. ومن مادة الخلط هذا ومعطياته تتركّب معادلات ذهنية، في الوعي، تترجِم نفسَها في أفعال اجتماعية وسياسية على قاعدةٍ افتراضية – يصدر عنها الكثيرون – تقول إنّ الإسلام دينٌ ودنيا، نظامٌ للعقيدة ونظام الحياة، وأنّ ما يقرّره الدين تجري أحكامُه، بالضرورة، على الدنيا وبالتالي، ما يتحصّل للوعي من معطيات عن الدين – مبناها على التخليط ذاك – وجَب أن يجد طريقه إلى التنظيم الحياتي بما يتطابق فيه، وبه، الإيمانُ والعمل على السواء. سنحاول، في ما يلي من فِقر، أن نبدّد هذه الالتباسات انطلاقًا من إعادة رسم خطوط التخوم والفصل الدلالية بين المفاهيم المترادفة في الوعي التبسيطي.

الدين، أيُّ دين (وفي حالتنا: الأديان التوحيدية والإسلامي منها خاصةً) نظامٌ من الاعتقاد مبناه على الإيمان بالمتعالي والمطلق بوصفه علةً للموجود. منه صَدَرَ فعْلُ خلْقِ العالم، وإليه مصيرُهُ بعد الفناء المادي. تتباين الأديان الكتابية الثلاثة في تعيين ما يترتب على المخلوق من الخالق من التزامات، أو في تعيين أدوار الرسل والوسطاء ومكانتهم من الاجتماع الديني لجماعاتهم الاعتقادية، ومَبلغَ ما يملكونه من سُبل النجاة لمعتنقي رسالاتهم، لكنّها تجتمع على القول بمسلمات ثلاث: وجود الله والملائكة واليوم الآخر. يتجسد نظام الاعتقاد بالمطلق هذا في منظومة متكاملة من التعاليم الكتابية المبلَّغة إلى الناس من طريق رُسل اصْطُفوا لأداء التبليغ. والرسول، في الدين، مبلِّغ لِما أوحيَ إليه؛ قوّتُه، عند مخاطَبيه، من قوّةِ ما يحمل (الكلام الإلهي). وهو- مثل الوحي-لا يبغي إقناعًا عقليًا بالحجة للمخاطَبين، وإنما يطلب منهم الإيمان فحسب؛ لأنّ حقائق الدين نفسَها (وجود الله والملائكة واليوم الآخر) ممّا لم يتبلّغها الإنسان بعقله، بل من طريق الوحي والإيمان بالوحي.

ليس التديُّن من الدين دائمًا؛ لأنه حصيلةُ اجتماع تعاليم الدين- كما يستقبلها المؤمنون في بيئات وأوضاع مختلفة- وجملة المواريث الثقافية والروحية والرمزية والأنثروبولوجية التي تكيِّف، في جملتها، نوع التلقي الفردي والجماعي لتعاليم الدين. ولا تَدخَل تأثيرات المواريث تلك في تكوين الطقوس وشعائر العبادات فحسب، بل في تكوين معانٍ للتعاليم تلك في الوجدان والذهن. ربّما بَدَتْ طَقْسَنَة Ritualisation الدين – خاصة للمشتغلين بالأنثروبولوجيا الدينية- أجلى تعبيرًا عن محايثة الرمزيِّ والخياليِّ والاجتماعيِّ والأسطوريِّ للتديُّن، بما هو فعلٌ إيماني، ولكنَّ الآثار تلك في الإيمان الدينيّ لا تقِل عن نظيرتها في السلوك الشعائري. لنأخذ مثالاً لذلك هو الشفاعة والشفعاء؛ لفكرة الشفاعة تاريخ وثني عريق، وكثيرًا ما أحيط الشفعاء بهالةٍ من التقديس تعالت بهم إلى مستوى الألوهة. ولقد جَبَّ التقليد الإبراهيمي- القائم على مركزية فكرة الله الواحد المتعالي في الاعتقاد- فكرةَ الشفاعة، لكن هذه ظلت في التاريخ الديني العبراني (من الأسباط إلى الأحبار). وخاصة في التاريخ الديني المسيحي من يسوع والعذراء وبولس وبطرس الرسوليْن إلى القديسين إلى البابا (وليس طقس الاعتراف Confession الكنسي إلاّ شكلاً من التعبير عنها). ولم يختلف الأمر كثيرًا في الإسلام التاريخي؛ إذ على الرغم من أن الشفاعة ممجوجةٌ ومستَقبَحة في تعاليم الإسلام، لأنها ترمز إلى الشِّرك وتطعَن في عقيدة التوحيد، ولأنّ فيها رهبانيةً ووساطة في عقيدةٍ تُسقطهما، إلاّ أنّ المسلمين لم تَبْرح اعتقاداتهم فكرةُ الشفيع-الوسيطُ؛ فكانوا يعتصمون به- رمزًا دينيًا نبويًا أو صحابيًا أو وليًا صالحًا – ويسألونه الوساطة في صلواتهم وأدعيتهم، وينذرون له النذور…! ولقد كان استشراء تلك التقاليد الوثنية في التديُّن الإسلامي في أساس الكثير من الدعوات السلفية والإصلاحية في تاريخ الإسلام.

من البيِّن، إذن، أنّ التديُّن يتميَّز من الدين بكونه نوعًا من التمثُّل الإنساني لتعاليم الدين: المواريث الروحية والثقافية والاجتماعية، واختلاف شروط المكان والزمان.. إلخ. ولذلك نقول، في حالة الإسلام مثلاً، إنّ الإسلام يتلوّن بلون المجتمعات التي يدخُلها، فتدخل عليه مُضَافات من خارجه، أي من المجتمعات تلك وثقافاتها ونفسياتها الجماعية، وخبراتها المكتَسبة.. وذلك، بالذات، ما جَعَل الفجوة باديةً لمسلمين كثر (إصلاحيين خاصةً) بين إسلامٍ معياري مرجعي (يتميّز بالصفاء والنقاء من الشوائب في الخطاب الإصلاحي) وبين إسلامٍ تاريخي تختلط فيه عقيدةُ التوحيد بما قبلها.

نشدّد على هذا التمييز بين الدين والتديُّن على الرغم من أنّ علم الاجتماع الديني يسلّم بأن الدين يتجسّد في إيمانٍ وأفعال (شعائر، سلوك اجتماعي) وبالتالي، لا يمكن عزله عنها والحديث عنه كنصابٍ مجرَّد.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى