الاصــوليــة البعثيــة مــاذا تعنــي ؟ (2)
بقلم : صلاح المختار
ليس ثمة شك في ان قدرة البعث على تحقيق الهدف الجوهري وهو القضاء على التشرذم بكافة اشكاله ولاي سبب نشأ تعتمد على ما يتميز به فكريا وتنظيميا من جهة ، وعلى امتلاكه شعبية منظمة استقطبت شرائح اجتماعية مؤثرة تمثل الكتلة الرئيسة في الامة من جهة ثانية ، فمن دون وجود هوية توحيدية لا يمكن مقاومة التشرذم بنجاح لانها البوصلة الهادية ، ومن دون تنظيم جماهيري منتشر في الاوساط الشعبية لايمكن تحويل النظريات الى تطبيق ميداني ملموس . لهذا علينا ان ندقق هوية البعث التكوينية ، والتي تشكل جوهر الاصالة البعثية ومصدرها ، لنرى كم هي توحيدية وتنقض كافة النوازع التفتيتية :
1- الميزة الاساسية للبعث هي انه حزب قومي عربي في المقام الاول فهو يؤمن ايمانا راسخا بان العرب امة واحدة وهدفه الرئيس والاهم هو تحقيق الوحدة العربية بكافة مستوياتها النظرية والعملية بكافة الطرق فالوحدة من منظور البعث هي الضمانة الاساسية لنهضة العرب وتقدمهم وحصانتهم بوجه كافة التحديات ، وهي لذلك اول واهم عوامل نقض التشرذم العربي المبرمج .
والقومية في البعث ليست مفهوما عنصريا او عرقيا بل مفهوما حضاريا ثقافيا يتحدد فيه العربي بمن يتحدث العربية ويخلص للعرب وهو التعريف المحمدي المعروف ، ولهذا فان عوامل التنافر العنصري التي تشكل احد مصادر التشرذم تزول في ظل البعث . قوميتنا العربية تمنع بحكم طبيعتها الانسانية كل اشكال التشرذم مثل الطائفية او العرقية او المناطقية وتعبر فوق ، وتتعالى على، كافة هذه الفروع المكونة للشعب ، فتعيده الى طبيعته الوجودية الانسانية كوجود منسجم تربطه صلات مشتركة ومتفوقة على ماعداها ضامنة للانسان مكوناته الفرعية دون السماح لها بالطغيان على الهوية الوطنية والقومية .
2- ( الاشتراكية دين الحياة وظفر الحياة على الموت ) كما وصفها بعبقرية فذة القائد المؤسس ميشيل عفلق محددا بدقة متناهية الهوية الدنيوية للبعث ، فهي دين الحياة بمعنى انها رسالة دنيوية وليست دعوة دينية رغم ان جوهرها الحضاري والثقافي هو الاسلام ، ودين الحياة يقصد به اسلوب العيش فالاشتراكية هي الضمانة لجعل الحياة تزدهر في ظل العدالة الاجتماعية ، وبدون العدالة الاجتماعية تتحول الحياة الى بؤس ومظالم نتيجة الاستغلال والتمييز الطبقيين ، ولهذا فالاشتراكية بازالتها للفقر والتمييز الطبقي تحرر الانسان من الحاجة التي تجبره على ممارسة كافة اشكال الانتهازية والكذب والفساد والافساد ، وتبني مجتمعا دنيويا عادلا .
الاشتراكية القومية توفر للانسان حاجاته المادية وبيئة اجتماعية وثقافية يحقق بها تطلعاته الروحية فلا يبقى للموت الا العظام النخرة واللحم الجاف كما قال القائد المؤسس . فالاشتراكية بهذا المعنى مكون اساس لاصالة البعث وهويته وهو مكون توحيدي لانه يزيل اغلب اسباب التشرذم من المجتمع.
3- ولتحقيق الوحدة يجب ان يصبح الحزب انموذجا لها بتنظيمه القومي وعلاقاته الرفاقية فمن غير الممكن اقامة الوحدة العربية بدون الطليعة الثورية التي تفهمها وتناضل من اجلها ، وهذه الطليعة ليست تجمعا يضم كتلا مختلفة ، كالاتحاد الاشتراكي الذي اسسه المرحوم ناصر ليكون منافسا للبعث فاندثر ، بل هي طليعة ترعرت ونشأت في بيئة قومية عربية ثورية مركزية – اي الحزب – وبناء على برنامج قومي نضالي واضح تنفذه قيادة قومية منتخبة تعمل بروح الفريق المنسجم والقيادة الجماعية ، معتمدة على النهج القومي في عملها العقائدي والتنظمي اخذة بنظر الاعتبار البيئة المميزة لكل قطر عربي .
تميز البعث بتلك السمة الاساسية مبكرا ولهذا فان التنظيم القومي ليس ظاهرة شكلية وفرعية فيه بل هو ظاهرة عضوية كعضوية اي فرع في جسد الانسان وتكمن رمزيتها في انها تجسد الوحدة العربية بصورة مصغرة ، وبهذا المعنى فان عضوية التنظيم القومي احد اهم مداميك قيام بناء الحزب وبدونه تنتفي الصفة البعثية عن اي تنظيم مهما اقترب من عقيدته نظريا ويصبح محض تنظيم قطري ، وكما اشرنا التجربة الناصرية حاولت تقليد البعث بأقامة تنظيمات ناصرية في اقطار عربية لكنها فشلت لان تنظيمها كان يفتقر لسمة العضوية وقام على تجميع المتناقضات وهو ما جعلها تعتمد على شخص ناصر وعندما مات ماتت معه بينما بقي البعث رغم موت مؤسسيه وقادته الاصليين.
وتطورات العالم في القرن الجديد عززت النزوع نحو التفتيت والعودة للاصول التكوينية حتى داخل الانسان الواحد الذي يتعرض للتمزق الداخلي وفقدان اي بوصلة رئيسة ما عد الذات الانانية فزاد العالم تعقيدا وخطورة بطريقة ومستوى غير مسبوقين في التاريخ ، وهو ما عظم اهمية التنظيم القومي وعززها فلا يصمد امام عواصف الشرذمة هذه للفرد والمجتمع الا القوي والكتل الكبيرة التي توفر احد اهم عوامل البقاء وكسر موجات العواصف . ولهذا فان الاصالة البعثية وفاعليتها الثورية تستمد حيويتها وديمومتها من عضوية التنظيم القومي وتعزيزها وتعميق صلاته.
4- الحرية في عقيدة البعث بكافة تعبيراتها خصوصا الديمقراطية احد اهم شروط تفتج الطاقات الانسانية الخلاقة لان القمع والاستبداد يقتلان القدرات الابداعية . وبما ان التشرذم يجد مناخه الامثل في القمع والاستبداد والفساد والاستغلال فان توفير الحرية للانسان واقترانها بالاشتراكية والمنعة عبر التوحد يزيل اغلب عوامل التشرذم . وما جرى ويجري من حروب وازمات وافقار وظيفته قتل منابع الحرية من خلال اصطناع تحديات تفرض الطوارى وربما الاستبداد لتحرم الطليعة الثورية من فرص اقامة الديمقراطية والعمل على ازدهار الحريات .
5- المواطنة هي المعيار الاساس في التعامل مع ابناء الشعب وليس الدين والطائفة والاثنية والمناطقية او القبلية ، دولة البعث دولة مدنية وليست دولة دينية ورجال الدين مجالهم الدعوة والتربية الدينية وليس حكم الدولة وان كان من حق رجل الدين بصفته مواطنا مثل غيره المشاركة في العمل السياسي وفي مسؤوليات الحكومة ولكن ليس بصفته رجل دين او ممثل لدين او طائفة. ومدنية دولة البعث هي التي ضمنت اثناء الحكم الوطني زوال مشاعر التمييز الديني والطائفي والعرقي وغيرها فمنعت ظهور عوامل التشرذم .
6- البعث حزب ايماني وضد الالحاد ولهذا قال القائد المؤسس ميشيل عفلق ( العروبة جسد روحه الاسلام ) وواضح وبلا اي لبس في هذه المعادلة العبقرية ان العروبة بدون الاسلام وهو روحها لاقيمة لها وبالمقابل فان الاسلام اذا فقد جسده اي العروبة صار نظرية معلقة في السماء ليس هناك من يوصلها للارض وان حاول غير العرب ايصالها نواجه امثال خميني الفارسي والمودودي الهندي وغيرهما وتلاميذهما العرب من الشعوبيين الذين نظروا للتطرف الاسلاموي بكافة اشكاله وكانوا وراء موجات التشرذم المصطنع .
7-النظام في ظل البعث ديمقراطي شعبي تعددي دستوري يضمن توازن الحكم والسلطات .
هنا نجد انفسنا امام المكونات الاساسية الواضحة للاصولية البعثية والتي تشكل بعناصرها المندمجة بنيويا الرد الحاسم والفعال على الظاهرة التشرذمية التي ولدت اصوليات تعمل كلها ضد الهوية القومية والوطنية وتمزق الشعب وتبدد قواه الاجتماعية ـ ويشكل التمسك بتلك الاصولية قارب النجاة الوحيد للامة العربية من كوارثها وازماتها الحالية وردا طبيعيا على المخطط الصهيوغربي فارسي لتقسيم وتقاسم الاقطار العربية على اسس طائفية وعرقية ومناطقية وقبلية وغيرها .
بالاصولية البعثية لا نضمن فقط فولاذية بنية الحزب بل ايضا نقدم للامة العربية بكل قطر فيها اداة ثورية لاتقهر تحفظ هويتها القومية بكافة مكوناتها ونضمن الوحدة الوطنية في كل قطر ونعززها ونوفر جهازا ثوريا مقاتلا عسكريا مثلما هو بنّاء ومبدع في الثقافة والفن والعلوم والتكنولوجيا ، وهذه السمات هي ما تحتاجه الامة العربية لمواجهة التحديات المميتة والتغلب عليها . ولدينا الدليل الواضح وهو تجربة البعث في العراق والتي قدمت انموذجا لنظام وطني عراقي وقومي عربي واشتراكي تقدمي اعتمد الشريعة الاسلامية كمصدر رئيس للتشريع في ان واحد وبانسجام طبيعي لم يهدده الا الغزو الخارجي ، وكانت قاعدة قوة النظام الوطني هي اجتثاث عوامل التشرذم بالمنجزات المادية والروحية التي ازالت مصادر التشرذم وهي الفقر والامية والتمييز فكان طبيعيا ان تتجمع ضده كل قوى الشر .
البعث بتميزه عن غيره من التنظيمات القومية والوطنية بانه منتشر في اغلب الاقطار العربية ويلعب دورا مهما واحيانا اساسيا في تطور الاحداث فهو الاقدر من غيره على توحيد التيارات المناهضة للشرذمة خصوصا بوجود الانضباط العالي للتنظيم البعثي وهو ما يمكنه من تجاوز المحن وعمليات الاجتثاث ويواصل النضال من اجل توحيد الامة وحماية وحدة القطر الوطنية . ولعل ادوار البعث التاريخية خير دليل حيث انه بادر بمقاومة صهينة فلسطين عند بدأها بانخراط البعثيين في مقاتلة المهاجرين اليهود ووحد العرب في عام 1956 عندما وقع الاعتداء الثلاثي على مصر فخرجت الملايين تدعم مصر وناصر وهو من رفع هتاف ( من المحيط الهادر الى الخليج الثائر لبيك عبد الناصر ) ، وتطوع رفاق بعثيين في الثورة الجزائرية ، وكان احد الطرفين الرئيسيين في تحقيق وحدة مصر وسوريا عام 1958 وكان البعثيون في فلسطين من بين مؤسسي فتح والمقاومة الفلسطينية .
والبعثيون ثوار تموز هم الذين اقاموا النظام العربي الوحيد الذي نجح في انهاء الفقر والامية واعاد بناء الانسان في ظل رفاهية انتاجية وليس استهلاكية وانشأ جيش العلماء والمهندسين واقام اقوى الجيوش العربية عدة وخبرة واسس الصناعات الثقيلة واحيا الزراعة لتحقيق الاكتفاء الذاتي في الغذاء ، وانتقل للاختراعات العلمية والتطوير التكنولوجي وحقق انجازات ارعبت اعداء الامة العربية ومن بينها اختراع طريقة ثالثة لتخصيب اليورانيوم وصنع قمرا صناعيا ودبابة بابل ومدفعية ثقيلة وبنى مشروعا نوويا دمر وهو في طور النشوء . بأختصار حول البعث العراق الى انموذج يفتخر به كل عربي يزوره وكل انسان يراه ، وهذه الانجازات هي السبب الحقيقي لغزوه وتدميره والذي كان الحل الوحيد للقضاء على قدرة نظام عربي على احباط مؤامرات متواصلة لقوى عظمى وكبرى ووسطى لعدة عقود ومنعه العوامل الرئيسة لشرذمة العراقيين والعرب ببدائله الاصيلة ، بينما نجحت الصهيونية الامريكية في تصفية نظام ناصر من داخل مصر لانه كان بلا حزب قومي توحيدي رغم وطنيته وقوميته وصدقه .
واذا نظرنا للواقع الميداني الان سنرى المقاومة العراقية للغزو الامريكي والايراني وهي احدى اهم انجازات البعث من حيث الاعداد المسبق والتنفيذ ، ونرى انبعاث البعث مجددا رغم كل الضربات المدمرة التي وجهتها له الصهيونية الامريكية واسرائيل الشرقية ووصلت حد استشهاد اكثر من 170 الف بعثي ، وهو رقم مذهل يزيد على عدد الاعضاء الاحياء لمجموع الاحزاب العراقية واكثر من اعضاء اي حزب عربي ، فشهداء البعث وحدهم حزب جماهيري لا نظير له وهو حزب يمنح البعث ، المتسم بالانبعاث والتجدد الدوريين ، قدرات هائلة على الصمود ومواصلة المقاومة بكافة اشكالها حتى تحقيق التحرير الكامل للعراق من كافة غزاته .
الان كل القوى العراقية واغلب القوى العربية والاقليمية والدولية تحاور البعث او تحاول ذلك بعد 14 عاما من الغزو والعزل والاجتثاث وما تعرض له من كوارث لم يتعرض لها حزب اخر ، فما السر في تجدد البعث وانبعاثه كلما اغتيل ؟ ولم غيرت اغلب القوى مواقفها منه ؟ السر هو العقيدة القومية الاشتراكية مقرونة بالتنظيم القومي العضوي واللذان يشكلان مصدر ديمومة البعث وخلوده .
الاصــوليــة البعثيـــة مــــاذا تعنــــي ؟ (1)
لو نظرنا الى عالم مابعد انهيار الاتحاد السوفيتي لوجدنا ان ابرز سماته سمة تفكيكية تعيد العالم بقاراته ودوله وهوياته التقليدية للوصول الى وحداته التكوينية الاصغر ، انها الشرذمة المبرمجة مخابراتيا للامم والدول والديانات والهويات القومية وللكتل البشرية . العالم وبنظرة خاطفة نرى انه عالم الصراعات المتداخلة والعوامل المتناقضة والاهداف الخفية ، ونحن العرب نكاد نكون الشعب الاكثر تعرضا لفخاخ هذا العالم ونزوعه التشرذمي وهو ما نراه واضحا في العراق وباقي الاقطار العربية . ولعل ابرز ما ترتب على تنفيذ خطة الشرذمة هو العودة المخططة ، المتسلسلة والمتتابعة، من الاكبر الى الاصغر وصولا للخلية الاصغر ثم التحصن في اصول الحلقة الاصغر وهي ما يسمى ب ( الاصوليات ) التي بنيت عليها كافة التكوينات الحديثة .
كيف تؤثر هذه الظاهرة على البعث وهو الحزب القومي التوحيدي الذي يقاتل التشرذم بكافة اشكاله ؟
اولا وقبل كل شيء لنتناول الاصوليات التي انبعثت وتعملقت بصورة اصطناعية خصوصا منذ نهاية السبعينيات بظهور خميني و ( المجاهدين ) الافغان :
1-الاصولية الرأسمالية : اصل المشروع الرأسمالي في مرحلته الصناعية مثله شعاره الاشهر ( دعه يمر دعه يعمل ) ، فلكي تصدر امريكا فائضها الصناعي والزراعي الضخم كان يجب جعل العالم مفتوح الحدود ، وعندما نهضت اوربا الغربية من كبوة الحرب العالمية الثانية لحقت بامريكا بل ان المانيا نافستها ، وفي اسيا ظهرت اليابات قوة تجارية هائلة الامكانيات فشهدت الثمانينيات ظاهرة اختلال الميزان التجاري بين امريكا من جهة والمانيا واليابان من جهة ثانية لصالح الاخيرتين في تحول خطير بالنسبة للرأسمالية الامريكية وكانت تلك اشارة وتحذير لامريكا بان عصر تفوقها اخذ يتراجع .
الضغوط الامريكية على اليابان والمانيا في الثمانينيات كانت اول بوادر الردة الرأسمالية الامريكية نحو اصل الرأسمالية التجارية وهو الحماية التجارية تحت غطاء حماية المنتوج الوطني ، ولكن بقيت الرأسمالية تعتمد على مبدأ حرية التجارة وهذا ما دفع لانشاء منظمة التجارة العالمية التي كانت مؤشرا على ان العالم يدخل مرحلة الاحتكار الرأسمالي المتركز بيد شركات اقل واغنى منعت وضع قيود على سلعها .
ولكن عندما تعاظمت الازمة البنيوية للرأسمالية الامريكية واخذت تتفوق عليها دول ساعدت هي في نهضتها وبناء اقتصادها كالمانيا واليابان والنمور الاسيوية ثم ظهرت الصين كعملاق هائل اقتصاديا كسكانها ومساحتها لتصبح التهديد الاول لتربع امريكا على عرش الاقتصاد العالمي بعد ان اصبحت الاقتصاد الثاني في العالم وتسير بخطى سريعة لتزيح امريكا من عرشها وتتربع عليه ، كان حتميا على امريكا ان تفكر بالتراجع نحو حالة الاصل وهي التخلي عن اقتصاد السوق اي حرية التجارة وقواعد العولمة التي فرضتها هي واللجوء للحماية التجارية من جهة وبتعزيز دور الدولة وتحويلها الى دولة بوليسية تدريجيا من جهة ثانية ، كوسيلة للبقاء ومنع الانهيار ، ووصول ترامب كان اعلانا صريحا لبدء مرحلة الحماية التجارية مجددا وهي تعني العودة للاصولية الرأسمالية ولكن بصورة مبتذلة وفجة . هذا اول واخطر تحد لنا نحن العرب .
2-الاصولية الدينية : الجبهة الفكرية والسياسية لم تكن افضل حالا من الجبهة الاقتصادية فلقد ادركت العقول الامريكية بان الايديولوجية الرأسمالية لا جاذبية لها في حين ان المنافس لها وعدوها الاخطر الماركسية – اللينينية تتمتع بجاذبية حتى في اوربا وامريكا ذاتها ، وكان اختيار المجابهة في جبهة الايديولوجيات اسبق من تقييد التجارة الحرة بعقود حيث تبنت امريكا في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي خطة بريجنسكي القائمة على احياء الاصوليات الدينية في العالم لتكون الخصم الايديولوجي القوي للشيوعية وحركات التحرر في العالم .ولهذا فان التاريخ الحديث سجل ان الحروب الحديثة بين الاديان والطوائف والقوميات بدأت في عهد جيمي كارتر- بعد ان قامت مخابراته بتنصيب خميني حاكما وزرع المجاهدين الافغان – واخذت تتعاظم مع كل رئيس جديد .
ف ( الاصوليات الدينية ) ، طبقا للتعابير الامريكية ، الاسلامية – الشيعية والسنية – والمسيحية واليهودية والهندوسية ، اضافة لتحريك الاصوليات الاثنية وتغذيتها …الخ هي التي تشكل مصدر التناقضات والصراعات بما في ذلك الارهاب بكافة اشكاله .والاصوليه الدينيه ليست الدين بل الشكل المشوه له ، لانها تقوم على المطالبة بالعوده الى اصول الديانات الاقدم والتي ظهرت في فترات تاريخية محددة سادت فيها بيئة محددة زالت ولم تعد موجودة بغالبية مكوناتها وهي لذلك ، وطبقا للمخطط الامريكي، مستحيلة التطبيق لانها لاتناسب عصرنا مما يؤدي الى ظهور تناقض حاد بين الواقع الجديد والدعوات للعودة الى الاصول فتنبثق تلقائيا واصطناعيا حروب وصراعات معقدة جدا تهدم بنيان الامم والدول باصطناع او تغذية نزعات عدائية شديدة بين الناس .
وكانت خطة امريكا المركزية هي تحقيق انقلاب ستراتيجي جذري في العالم يقوم على استبدال الصراع بين الاشتراكيه وحركات التحرر في العالم الثالث وبين الراسماليه بصراع بين الاديان والطوائف والاعراق .واخذت تتجلى في اولى خطواتها في ظهور ما يسمى ( المجاهدون الافغان ) في افغانستان ونظام خميني في ايران بعد اسقاط نظام الشاه . وهكذا راينا اكبر واخطر تحول ستراتيجي في العالم بعد الانتصار على النازية تمثل في استبدال الهويات الوطنية والقومية ومبدأ المواطنة بهويات فرعية مثل الطائفية او الاثنية او المناطقية .
هذا التطور ادى الى تصدي الاصوليه الدينيه للحركات التحررية الوطنيه والاشتراكيه نيابة عن الغرب وبدعمه المكشوف وبروح انتحارية افتقرت اليها البورجوازيات والجيوش الغربية، ولهذا كانت التيارات الاسلاموية هي احد اهم اسباب تهديم الاتحاد السوفيتي ، وهو مافعله ( المجاهدون الافغان ) ، كما كانت هي سبب تحويل الصراع الرئيس في الوطن العربي من صراع بين حركة التحرر الوطني العربية من جهة والصهيونية والاستعمار الغربي من جهة ثانية الى صراعات بين المسلمين وهو ما فعله خميني .
الاصولية الدينية اذا قدمت لنا نسختين من التهديد الوجودي للعرب وهويتهم القومية وهما الخمينية والداعشية بكافة الوانهما .
3-الاصولية الطائفية : ولم تتوقف عمليه التشرذم عند الديانات وصراعاتها بل امتدت لتشمل الطوائف فالدين الواحد انقسم الى طوائف والطوائف انقسمت الى كتل وميليشيات متناحرة دمويا فهناك الان عشرات الفصائل السنية والشيعية في العراق وسوريا وغيرهما وهي في حالة تناقضات دموية غالبا ، السني يقتل السني والشيعي يقتل الشيعي !!! والطائفية في جوهرها مذهب ايديولوجي ادت التطورات المصطنعة الى تمسك البعض باصوله القديمة التي زالت او ضعفت في فترات النضال الوطني والقومي وقبلها في فترات التسامح الديني والطائفي ، لكن تغذية خميني للطائفية بجعل دستور جمهوريته ينص على ان مذهبها الرسمي هو المذهب الشيعي الاثنا عشري وتدشينه عملية تدخل شاملة في كافة الدول تحت غطاء ( نشر الثورة الاسلامية ) او ( حماية الشيعة ) في كل مكان وبدعم مباشر صهيوامريكي جعل الظاهرة الطائفية تطفو ويظهر لها انصار .
4-الاصوليات العنصرية : وصلت عملية العودة للاصول الى قلب الرابطه القوميه بالتحول من التمسك بالرابطة الوطنية المنفتحة المتجاوزة لعوامل العرق والاصل الواحد الى تمسك البعض بمكونات القوميه الاصلية خصوصا العنصر او العرق ، فاصبح هو الخيار عند الدفاع عن النفس بعد ان ظهرت التحديات الكبيره ،وهذا ما شاهدنا في يوغسلافيا اولا و نشات عنه صراعات دمويه قسمتها الى عدة دول . ثم انتقلت الى تشيكوسلوفاكيا وانقسمت الى تشيكيا وسلوفاكيا ، ثم انتقلت العدوى الينا بتصعيد الدعايات العرقية او تلفيق نظريات مزيفة حول اصول بعض العرب كالامازيغ والدفع نحو خلق تناقضات مصطنعة بينهم وبين بقية ابناء الشعب ، وزادت حدة التحريض والدعم للاكراد في العراق وسوريا …الخ ولجنوب السودان وفي موريتانيا بين السود والسمر . وفي هذه الحاله وجدنا انفسنا امام مشاريع كيانات صغيره تعمل على الانشقاق عن الاطار الوطني العام بتشجيع من الغرب والصهيونية .
5-الاصولية القبلية : وتوسعت عمليه التشرذم وشملت الحلقه الاضيق من المدينه والريف و هي حلقه القبيله فبما ان الصراع قد نشب بين الديانات و الطوائف والاعراق فان البعض من البشر وجد ان بقاءه وحمايته في القبيله فنقل العلاقات البشريه من علاقات شموليه وطنية وقومية الى علاقات جنسيه مجهريه.
6-الاصولية المناطقية : ومن لم تحميه قبيلته وطائفته وديانته واثنيته لجأ الى المنطقه او الجهه التي يسكن فيها من اجل حمايته وهذه المره كانت المناطقيه او الجهوية هي الخيار التشرذمي المباشر.
7-الخيار المافيوي : والاشد خطورة هو ان التشرذم وصل الى حد ان بعض الناس لم يجد اي رابطة تحميه سوى المافيات فظهرت المافيات او الميليشيات او العصابات في مناطق معينه كي تستقطب بعض البشر وتحولت الى نظام شبه اجتماعي تتغذى منه المجاميع البشريه وتكتسب منه الحمايه .
اذا : العامل الرئيس في انبعاث الاصوليات التكوينية هو الشعور بتزايد احتمالات الزوال او التعرض لكوارث اشد اذى وهذه مشاعر اختلقت ومن زرعها هو الرأسمالية الامريكية عبر الكوارث والازمات وبمشاركة رأسماليات اوربية غربية تواجه ازمات بنيوية لا يمكن حلها او السيطرة على اثارها الا بتغيير قواعد الصراع عالميا وفرض انماط منه تعطل سقوط الرأسمالية او تطيل عمرها عبر تزويدها بدم العالم الذي يستخدم كغرفة انعاش للرأسمالية الامريكية . وهذه الضرورة التقت بضرورة صهيونية وهي شرذمة الاقطار العربية .
الردة نحو الاصوليات هي اداة الغرب للهيمنة على العالم : فلكي يهزم النزعات الوطنية والتحررية والاشتراكية التي كانت تتقدم وتنتصر كان على الرأسمالية والاستعمار ان يقوما بتطبيق واسع النطاق لواحدة من اهم قواعد عملهما وهي ( فرق تسد ) وذلك بشرذمة الامم والقوى الاجتماعية والدينية والاحزاب وكل كتلة كبيرة وبصورة متسلسلة لتسهيل السيطرة على الجميع . بشرذمة الكتل الاجتماعية التي تشكل حاضنة للتقدم والتحرر والاشتراكية تجبر القوى المناهضة للاستعمار والاستغلال الى مواجهة ازمات حادة اخطرها تشرذم الناس على اسس دينية وطائفية وعنصرية وايقاظ النزعات الانانية لدى عامة الناس في ظل بؤس مصطنع نتيجة الحروب والازمات الطاحنة وغيرها وهكذا تجد قوى التقدم نفسها بلا حواضن شعبية كبيرة كما كانت في مرحلة النضال الوطني مما يجعلها تقاتل منفردة تقريبا فيصعب ذلك مهماتها .
في ضوء ما تقدم يصبح طرح السؤال التالي ضرورة لابد منها : هل تشكل الاصول التكوينية للبعث قاعدة متينة كفيلة بالقضاء على التشرذم بأشكاله كافة ؟
(يتبع)