كيف ومتى ولماذا بدأ الناس في توجيه التحية لبعضهم بعضاً

«التحية عبر العصور» كتاب صدر حديثاً عن وزارة الثقافة السورية، للدكتورين عمر وبشر الدقاق, وهو عبارة عن دراسة تاريخية اجتماعية وأدبية لأدب المصافحة والسلام عند مختلف شعوب العالم وأشكالها وأنواعها حسب المناسبات والأشخاص وتطورها عبر الزمن إلى يومنا هذا، ويقع الكتاب في 254 صفحة من القطع الكبير.

لقد عاشت البشرية في سالف الحقب عهوداً مديدة من الركود والهمود، وفي ظل تجمعات بدائية كانت أشبه بقطعان من الظباء والوعول والذئاب وسواها من أنواع حيوانات البر والبحر والجو, ثم ما لبثت أن خضعت لسنة التطور حيناً بعد حين وأخذت تتمخض عن انبثاق ظواهر وإرهاصات تنم على بدايات ملامح حضارية جديدة خلال مسيرة الحياة البدائية عبر العصور.

وكان في طليعة ما انطوت عليه التجمعات البشرية ظاهرة التحية، تحية الفرد للآخر وتحيته لما حوله وما يلوذ بعيشه في حاضره وماضيه وسائر علاقاته المتنامية في حياته المتطورة، وفي ضوء هذا الواقع التاريخي الغابر تجلت التحية معلماً بشرياً متميزاً اختص به الإنسان وحده وتفرد به من دون سائر مخلوقات الله، وبذلك نشأت التحية مع نشوء العلاقات الاجتماعية بين البشر، ثم تطورت وتنوعت مع توالي الأزمان وتعدد الأماكن وغدت التحية سمة إنسانية واجتماعية ونفسية وحضارية معاً تنم على بلوغ الإنسان القديم درجة متقدمة في تكوينه المتنامي والمتجدد.
ومع أن عنصر التحية أو السلام في طليعة مقومات الحياة الاجتماعية لدى الإنسان وأقربها إليه وألصقها بذاته فإنها لم تحظ باهتمام الدارسين على النحو المنشود، ويغلب على الظن أن البواكير الأولى لظاهرة التحيات إنما نشأت في رحاب المعتقدات الغابرة وضمن مناسبات دينية معينة، قبل أن يتبدى بزمن طويل مفهوم التحية الفردية، وذلك من خلال طقوس تعبدية جماعية اقتضتها المناسبات الروحية والنزعات الغيبية لدى أولئك الأقوام الماضين.

ماذا عن الكتاب؟
وأوضح الباحث محمد قجة في مقدمة الكتاب أن المؤلفين اعتمدا التوثيق والتبويب والبحث المنهجي العلمي والتحليل الأكاديمي مع رصد المادة الفكرية بما يرفدها من نصوص القرآن الكريم والحديث الشريف وقصائد الشعراء إلى جانب رصد حالات المجتمعات من أتراح ومناسبات وأعياد، مشيراً إلى تميز الكتاب بأسلوب أدبي مشرق وعبارة جميلة رشيقة فضلاً عن استناده لأهم المصادر والمراجع.
ويسرد المؤلفان في كتابهما بواكير التحيات عند البشر موضحين أنها نشأت ضمن مناسبات دينية معينة قبل تبلور مفهوم التحية الفردية لينتقل بعدها إلى تبيان التحيات الفرعونية في وادي النيل وتحية ملوك العرب السالفين ثم توضيح معنى التحية في اللغة.
وأضاف قجة إن اللافت في الكتاب هو قدرة المؤلفين على تناول الموضوع في ارتباطاته الفكرية والدينية والعرقية بشيء ظاهر من التوازن والاحتراز، وتمكنا من الابتعاد عما يمكن أن يتولّد هنا أو هناك من حساسية الهوية فكرياً أو قومياً أو دينياً، وهو أمر يحسب لهما باقتدار وامتياز.

السلام في اللغة
الفصل الأول جاء بعنوان التحية- السلام، ويسرد فيه المؤلفان بواكير التحيات عند البشر موضحين أنها نشأت ضمن مناسبات دينية معينة قبل تبلور مفهوم التحية الفردية لينتقل بعدها إلى تبيان التحيات الفرعونية في وادي النيل وتحية ملوك العرب السالفين.
ومن ثم وضح الكتاب معنى التحية في اللغة فذكر أن السلام من أسماء اللـه تعالى لسلامته من النقص والعيب والفناء، والسلام هو التحية عند المسلمين والعرب، وهو أيضاً تحية أهل الجنة، وفي ذلك قال تعالى في كتابه الكريم: «تحيتهم فيها سلام»، ودار السلام الجنة، ونهر السلام دجلة وبه سميت بغداد مدينة السلام، والسلامة العافية والبراءة من العيوب والآفات، والسّلم بالفتح مؤنثة وهي الصلح أي خلاف الحرب.
وبين الكتاب نشأة التحية في الإسلام وتاريخها حيث شهد العالم القديم في ضحى القرن السابع للميلاد انعطافاً كبيراً في تاريخ الشرق حين ظهر دين الإسلام على يد محمد بن عبد اللـه النبي المختار مبشراً بعقيدة التوحيد، وذلك في رحاب مكة المكرمة والكعبة المشرفة، وكان هذا الحدث العظيم إيذاناً بقدوم عهد جديد في حياة العرب وتحولاتهم في كثير من مفاهيمهم الفكرية وحياتهم الاجتماعية وعاداتهم السالفة، وكان في جملة ذلك عزوفهم عن التحيات السائدة من مثل «أبيت اللعن» وسواها من التحيات التي تنطوي على الاستكانة والتذلل للآخر، وترسخ التفاوت الطبقي، وكان البديل من كل ذلك تحية السلام والوئام ونبذ نزعات الكراهية والخصام.

التحية هوية
أما الفصل الثاني فتناول فيه الباحثان «أنواع التحيات» واختلافها تبعاً للأزمنة والأمكنة وتعدد الأقوام وتفاوت البيئات وتنوع الثقافات، فهي من الممكن أن تقتصر على كلمة أو غمزة أو إشارة أو جملة من الألفاظ والحركات، كما يضيء هذا الفصل على طرائق التحيات ومنها الملامسة، والتحية بالمكاتفة، والمؤانفة، والمعانقة، والتحية بالتربيت.
التحية رابطة اجتماعية وقومية تشد أواصر الشعب الواحد بعضها إلى بعض وتشكل بالإجمال أحد عناصر هويته ومقومات شخصيته، الذي يؤكد ملامح الهوية للجماعة أو الأسرة أو الطبقة.
وخصوصياتها مثلاً في حياتنا الحاضرة أن يقول أحدهم «السلام عليكم» فهي التحية العربية الإسلامية لمعظم الناس، على حين نسمع تحيات أخرى مغايرة في الوقت نفسه تتفوه بها شرائح اجتماعية أخرى مثل قولها «سعيدة» أو «سعيدة مباركة»، وهي سائدة لدى المسيحيين في بلاد الشام أي في سورية ولبنان وفلسطين وهذه الكلمة اختصار أو بديل من ليلتك سعيدة، وهناك فئات متفرنجة تؤثر في الوقت نفسه كلمة «بون جور»، أي نهارك طيب أو طاب يومك، وكذلك قول بعض الصغار واليافعين تحيات مجلوبة مثل هاي، باي، تشاو… حتى إنه لينطبق على هؤلاء وأولئك قولنا سيماهم في تحياتهم، اقتباساً من قوله تعالى في آيته الكريمة «سيماهم في وجوههم».
ويعتبر المؤلفان أن التحية هي هوية تميز الشعوب عن بعضها حيث ذكرا أن: «لما كانت التحية ظاهرة اجتماعية كان من الطبيعي أن تحمل بصمات الأمم منذ القدم مثل السجود وتقبيل الأرض وهذا ما درجت عليه أمم عديدة في الماضي ومازالت أشكالها ماثلة في الهند واليابان وعدد من شعوب الشرق الأقصى، إذ أصبحت جانباً من تقاليدها الباقية، في تحيات مركبة أشبه بطقوس معينة قوامها الانحناء المتكرر وطأطأة الرأس، مع ضم راحتي الكفين الواحدة لصق الأخرى وجعلها أمام الصدر.. كذلك شاعت في مجتمعات الغرب عادة تبادل التحيات بميل الرأس جانباً، وحني الجذع إلى الأمام، مع ابتسامة خفيفة على الفم، فضلاً عن رفع اليد إلى أعلى، والانحناء في نظر علماء الحيوان والبيولوجيا ترجع جذوره إلى ظاهرة التقوقع عند الحيوان حين يجد نفسه ضعيفاً مغلوباً تجاه الخصم، فيجمع جسده بعضه إلى بعض ويخفض الرأس والنظر، وكذا الإنسان فإن رفع الرأس ينم على الاعتداد.

تحيات العشاق
ويخصص الكتاب في فصله الثالث جزءاً لتحيات المنازل والأديار والأوطان والعشاق والمحبين ومخاطبة الليل ومناجاة الريح والتحيات بالسقيا وتحية الطيف وغير ذلك.
ويبين المؤلفان في تحيات العشاق والمحبين أن استقراء أجمل أشعار العرب، قديمها وحديثها يبين بجلاء أن للتحية في قصائد الغزل والنسيب حيزاً بارزاً لا يضارعه شأن إلا ما كان من شعر كثير في الوقوف على الأطلال وبكاء الأحبة ووصف المنازل والديار، وقد راق شعراء العرب هذا الموضوع العاطفي الجميل وهفت إليه أنفسهم، وراحوا يستهلون به شعرهم ولاسيما في مطالع قصائدهم.
ومن جميل هذه المطالع قول بشامة بن الغدير أحد شعراء ديوان الحماسة يحيي إحداهن ويأمل أن تبادله التحية المنتظرة:
إنا محيوك يا سلمى فحيينا
وإن سقيت كرام الناس فاسقينا.

التحيات العسكرية
وتناول في الفصل الرابع التحيات المستحدثة كالتحية من صميم القلب وتحيات التصفير والتصفيق وتحيات المدافع والشهب والتحيات العسكرية والكشفية والتدشينية والمناديل البيض وثوب الحداد وتحية البساط الأحمر وتحية النصر.
وتعتبر التحيات العسكرية هي الأشهر لدى جيوش العالم، وهي ليست قديمة قدم الجيوش نفسها، ولكنها سادت بعدئذ ضمن تطور أنظمة التعبئة وأصبحت موحدة الطابع والأسلوب إلى حد كبير لدى مختلف الدول، ومع ذلك عمدت منظمات خاصة ذات طابع سياسي أو اجتماعي إلى اصطناع تحيات مشابهة للتحية العسكرية كان أشهرها الحزب النازي الذي ظهر بقوة في ألمانيا في أعقاب الحرب العالمية الأولى التي انجلت عن هزيمة دول المحور أي ألمانيا وإيطاليا واليابان أمام دول الحلفاء بريطانيا وفرنسا ثم الولايات المتحدة الأميركية، وقد ابتدع الفوهرر أدولف هتلر التحية الخاصة للحزب النازي وهي مدّ الذراع الأيمن إلى الأمام بحيث يكون مشدوداً بقوة ومشكلاً زاوية نصف قائمة مع الجسد، وتؤدى هذه التحية بطابعها العسكري مقترنة بالتحية المنطوقة «هايل هتلر» أي يحيا هتلر، وذلك على نحو فردي أمام الأعلى رتبة أو جماعية لدى مسيرة كتائب الحزب واستعراضاته، ويتم ذلك كله تحت رايات الحزب الخاصة أيضاً والمتميزة التي تتجلى في إبراز الصليب الأسود المعقوف الذي ابتدعه هتلر واتخذه رمزاً لألمانيا الجديدة.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى