الصراع الخليجي وانهيار طموحات حلفاء الحرب على سورية

كذبت أحداث الأيام القليلة التي تلت قمة ما سمي بصفقة القرن الأميركية السعودية، كل تنبؤات محللي الإعلام العربي المدعوم بالمال الخليجي عن الثمن المتوقع للصفقة، والذي تراوحت التحليلات حوله، بين توقع تدخل أميركي حاسم يغير موازين القوى في ساحة المعركة السورية، وبين تصعيد أميركي بوجه إيران وصولا إلى حد توجيه ضربة عسكرية لها حسب أشد التمنيات الإعلامية الخليجية الهوى تفاؤلاً، لكن التصعيد السعودي الإماراتي المفاجئ بوجه قطر، والذي تلى قمة الرياض مباشرة، واستعان فيه نظاما الرياض وأبو ظبي بمخترقي المواقع الالكترونية لاختلاق ذريعة التصعيد، أجاب بوضوح عن ثمن خوة الـ460 مليار دولار التي ضختها السعودية في الاقتصاد الأميركي، وأعطى دليلا قاطعا على الانخفاض الكبير الذي طرأ على سقف طموحات أطراف الحلف الذي أدار ومول ودعم الحرب الإرهابية في سورية فما الذي جرى؟
يمكننا أن نعتبر أن اللعبة الإعلامية الأخطر التي تمكنت آلة الإعلام الضخمة الوالغة في الدم السوري من تمريرها، حتى في بعض أوساط مؤيدي الدولة السورية، كانت لعبة الفصل بين داعش وبين إرهابيي الثورة السورية، سواء من صنفوا منهم على أنهم معارضة مسلحة أم من صنفوا أنهم من إرهابيي جبهة النصرة، فحقائق الميدان تشير إلى أن داعش هي القوة الضاربة الرئيسية لما يسمى الثورة السورية، فهي التنظيم الأكثر عقائدية وانسجاما مع الذات بين كل التنظيمات التي تحارب الجيش العربي السوري، وبالتالي هي القوة الأكثر قدرة على بذل الدماء والأكثر خطرا، وداعش اليوم يتداعي وينهار في سورية والعراق، وبالتالي تنهار معه آمال وطموحات الدول التي رعت الحرب.
لقد أدارت الولايات المتحدة العدوان الإرهابي على سورية على أمل القضاء على محور المقاومة عبر إسقاط قلبه السوري، وعندما بدأت التنظيمات الإرهابية السورية تدخل طور الهزيمة عقب سلسلة معارك تحرير بابا عمرو والقصير ويبرود، تم ضخ دماء الدعم السعودي التركي القطري الإماراتي، في شرايين التنظيم القديم الذي كان يسمى بالدولة الإسلامية في بلاد الرافدين لتلافي الانهيار العسكري الشامل للتنظيمات المسلحة التي تقاتل على الأرض السورية، ومر كل ذاك بلا شك بإشراف ورضا واشنطن الكاملين.
لاحقا وضمن المعركة الانتخابية الرئاسية الأميركية، تم تسريب تسجيل صوتي لوزير الخارجية الأميركي جون كيري يتحدث فيه أثناء لقاء مع قادة الجماعات المسلحة السورية، ويعترف أن إداراته كانت تراهن على داعش لإسقاط دمشق، قبل أن تفاجأ بالتدخل العسكري الروسي المباشر في سورية، لذلك لم يعد أمام تنظيمات المعارضة السورية المسلحة إلا خيار الحوار مع الحكومة في دمشق، كما قال كيري.
هكذا تلاشى حلم إسقاط الدولة السورية تماما أمام حقائق الواقع، لكن الرهان الأميركي على داعش لم يتوقف، وانتقلت مراكز صنع القرار في واشنطن إلى محاولة تطبيق إستراتيجية الفصل بين العراق وسورية، من أجل منع اكتمال التواصل بين دول محور المقاومة، وهو أحد أهم الأهداف الإستراتيجية الأميركية التي صممت من أجل الوصول إليها الحرب الإرهابية في سورية، هكذا فرضت الدولة العميقة في واشنطن على الرئيس الأميركي دونالد ترامب تشذيب خطته التي وعد بها جمهوره أثناء حملته الانتخابية والمتعلقة بمحاربة داعش، وتحويلها إلى مجرد طرد داعش من الرقة إلى البادية السورية، ما يؤمن إطالة أمد الصراع في سورية، ويضمن في الوقت ذاته نصراً معنوياً للإدارة الأميركية على الإرهاب.
لكن سقف الطموحات الأميركية عاد لينخفض مجدداً أمام حقائق الميدان، فقوات الحشد الشعبي العراقي الحليفة بشكل كامل لمحور المقاومة وصلت إلى الحدود السورية، والجيش العربي السوري يحرر كل يوم مساحات كبيرة من البادية السورية، على حين التنظيم العسكري لداعش أصبح في حالة انهيار شامل ضمن النطاق الجغرافي لسورية والعراق، بحيث أصبح من العبث الرهان على بقائه لأكثر من أشهر قليلة، والولايات المتحدة ليست في حالة تسمح لها بمجرد التفكير بإرسال قوات كافية لتغطية الحدود السورية العراقية البالغة الطول، أو قوات تصطدم بريا مع الطرفين العراقي والسوري، وهكذا أصبحت الرهانات الأميركية في الملف السوري محصورة بإقامة شبه دولة كردية مقطعة الأوصال في الشمال السوري، تحتفط فيها بنفوذ يمكنها من لعب دور في مستقبل سورية، ولكن هذا الرهان يشكل تهديدا وجوديا على وحدة تركيا الحليف الأهم الذي ساعد واشنطن على إشعال النار في سورية.
وبالمثل انخفضت طموحات الأنظمة الإقليمية الشريكة لواشنطن في الصراع السوري، فبينما كان الحلف التركي القطري يراهن على الامساك بالعالم الإسلامي عبر تنظيم الإخوان المسلمين الذي وصل فعلا لسدة الحكم في تونس ومصر وليبيا والمغرب، قبل أن يتوقف المشروع أمام العقدة السورية ومن ثم يتداعى وينهار، حتى أصبح الهم القطري اليوم يقتصر على مجرد الحفاظ على الوجود، هذا بينما وصل هلع أنقرة أقصاه أمام مشهد إقدام الولايات المتحدة على بناء جيش شبه نظامي من الأكراد على حدودها، وهي التي لم تنس آلام صراع سنوات التسعينيات الدامية مع ميليشات يشكل 20 مليون مواطن تركي بيئة حاضنة لها، كما تشاهد حكومة العدالة والتنمية في الوقت ذاته حليفها القطري التي شكل البنك المساند لنشاطها السياسي في طول العالم الإسلامي وعرضه، ومصدر تمويل حملات الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الانتخابية الرئيسي، وهو يغرق من دون أن تتمكن من تقديم أي عون ذي قيمة له.
على التوازي انخفض الطموح السعودي من حلم الإطاحة بمحور المقاومة وبدور إيران الإقليمي، من أجل نيل الرضا الأميركي الصهيوني، وضمان زعامة كاملة على العالم الإسلامي، إلى مجرد الحلم بالخروج من مستنقع اليمن بأقل الأضرار، وإلى تصفية امتداد المحور الإخواني التركي ضمن مجلس التعاون الخليجي والمتمثل بقطر، لتحقيق نصر يؤمن الشرعية اللازمة ضمن العائلة الحاكمة كي يرث ولي ولي العهد محمد بن سلمان الحكم من أبيه، بدل عمه ولي العهد نايف بن عبد العزيز، وهكذا تحول الجبير للحديث عن قطر عوض التصريحات التي كان يتحفنا بها كل حين عن أيام الرئيس بشار الأسد المعدودة.
وفي سبيل تحقيق إنجاز إسقاط الدور القطري، تعرت السعودية تماما فنقلت علاقاتها مع إسرائيل للعلن، والعلاقات العلنية مع تل أبيب هي المثلبة الميزة التي كانت الدوحة تتميز بها عن باقي أتباع واشنطن من أعضاء مجلس التعاون الخليجي، وهي ما أنقذ نظام الأمير الأب حمد بن خليفة عام 1995 في وجه تدخل عسكري سعودي في قطر كان يهدف لإعادة الأمير الجد خليفة بن حمد، إلى جانب ذلك، دفعت السعودية خوة مالية هائلة للولايات المتحدة على حين الاقتصاد السعودي في عز أزمته المالية، التي تسبب بها التورط في اليمن وحروب أسعار النفط التي شنتها الرياض للضغط على حلفاء دمشق، فكانت أكبر المتضررين من نتائجها، ولا يمكن فهم سر ذلك اللهاث السعودي المجنون وراء نصر خارجي، إلا ضمن سياق الصراع بين فرعي أسرة آل سعود على وراثة الحكم.
لا شك أن نظام قطر وقع في مأزق وجودي، ولكن على الرغم من ذلك يبقى من الصعب حتى الآن تخيل أن يؤدي ذلك إلى انفتاح قطري على إيران، الطرف الوحيد القادر على إنقاذ قطر، كما يتوقع المتفائلون، فمشيخات الخليج أنظمة وظيفية بنيت على التبعية الكاملة للغرب وعلى تخديم مصالحه الإستراتيجية، وهي لا تملك قراراً بحجم تغيير إستراتيجي في التحالفات، بالمقابل يعطينا تفجر الصراع داخل محور داعمي الحرب على سورية، مؤشراً واضحاً ودليلاً كافياً على أن تلك اللعبة الدموية قد شارفت على النهاية بعد أن استنفدت أغراضها.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى