فلسطين ومداد الذاكرة القاني
بقلم : علي ابراهيم/ القدس
لا تمتلك أمة ذاكرةً حيّة مثلما تمتلك أمتنا وشعوبها المكلومة، حتى أصبح ذلك التشوق للماضي حالةً معيشة، وجزءً من واقع مبهم قد غربت فيه شمس التأثير، وغلب عليه المحن والفتن، فمن مغرب الأرض إلى مشرقها، ذكريات تنهمل عن ماضٍ تليد، غيبته سرابيل الغلبة والقهر، ولكن أصحابها آثروا حياتها على حياتهم، وظلوا متمسكين بها وظلت ماثلة بهم وفيهم.
وللذاكرة الفلسطينيّة شجنٌ مختلف وعبق أثير، فهو حنين مزدوج لأرضٍ ولزمان، وما فيهما من تفاصيل عن جدران القرية ونمط العيش، وعن تلك المدن العامرة البهيّة التي خلت من عاميريها في لحظات شديدة القهر والحساسيّة، وعن أغراب احتلوا الدور وكسروا غصن الزيتون، وعاثوا في البلاد تغييرًا وتهويدا.
حنين الفلسطيني يظهر جليًا في عدد من المشهديات، فبعد ما يربو عن 60 عامًا من عمر هذه النكبة، ما زال الفلسطيني محافظًا على لهجته ولكنات البلاد التي قدم منها، ولتلك البقاع قصة أخرى من روابط القرابة والمروءة والتعاضد، ولم يكن احتفاظ كبار السن بمفاتيح بيوتهم إلا ضربًا من الحفاظ على الهوية والجذور، والانتظار الذي تطاول كل هذه السنوات لعودة مأمولة، ولم يحتفظوا بالمفاتيح فقط بل احتفظوا أيضًا بعادات الفرح والحزن، واللباس والعيش، وإنك لتجد من يحدثك عن الناصرة أو اللدّ أو حيفا، ويسرد دقائق تفاصيل المكان، يهيم حديثه بين جنات الأرض وعبق التراب، عن أبطال ومواقف، لكأنها ماثلة أمام عينيه، وهو من ولد في مخيمٍ على شاطئ البحر في عكار، أو قرب دمشق.
حديث اللحظات الأخيرة هو الأصعب على النفس، وأذكر تمامًا ذلك العجوز الذي يغيب عنه – لكبر سنه- اسم بعض بنيه، ولكنه لم يغيّب في أوراق العمر وصف الأراضي الريانة في بلده، وعن عمل الزراعة الذي فيه “البركة”، ووالدته صاحبة العزم والاجتهاد والتدبير فهي الحاذقة “الشاطرة”، وعن قوة والده وشجاعة القروي الأصيل، وعن أخيه الشهيد الذي هبّ لتلبية نداء الحق والواجب، وعن أولئك الرجال الأشداء الذين حاربوا المحتلّ البريطاني والتغلغل الصهيوني، ولكنه عندما يصل لتلك اللحظة الفاصلة التي انتقل عبرها من الفتوة إلى عمر الرجال، يتهدج صوته ويعبق بألمٍ مكتوم وهو من خرج بدابةٍ فقط دون أهله وقومه، ووصل إلى لبنان منفردًا ومن هنا قصة أخرى وتقلب في الأزمان والأوطان…. أحاديث وأحداث، بل قصص عمر ممتد، عقله يقص ما مضى، وقلبه ما زال هناك في “صفوريّة”…
لم تكن ذاكرة الفلسطيني وحدها التي تعبق بآلاف الصور عن بلاد الخير، وتلك الأستاذة المسنّة التي قاربت سن التقاعد من طرابلس الفيحاء، تتكلم عن ذكرى عزيزة عليها، عن ترددها مع والدها إلى مدينة القدس قبل احتلالها عام 67، وعن ذكريات رحلتها الأسبوعية إلى جنبات المدينة، وكيف يستقلون القطار من طرابلس والهدف صلاة ظهر الجمعة في رحاب الأقصى، تتحدث عن طفولة نشأت على حب المسجد، لم يكن الأقصى قريبًا أكثر من اليوم، ولكن القلوب كانت ترنو إليه قبل الأجسام..
هاتان الأمثولتان وعلى الرغم من بساطة الذكرى وعظم الحنين، تحكي ذاكرة شعب كبير، لا يحدد جغرافيته بفلسطين فقط أو بالفلسطينيين سكانًا فحسب، بل بعموم العرب والمسلمين الذين ارتبطوا وجدانيًا وحياتيًا بهذه الأرض العبقة بدماء الأجداد وتضحياتهم، فمن المغاربة الذين سكنوا قرب الأقصى وبقيت حارتهم حتى بعيد احتلال المدينة بقليل، إلى مماليك بني أيوب وسلاطينهم، وأوقاف الترك العثمانيين، وأخلاط الأعراق والشعوب التي مرت وسكنت في ربوع فلسطين، وعلى ثراها الحبيب.
صابر الفلسطينيون الانتظار كل هذه السنوات، وقد كان انتظارهم للعودة أكبر من الصبر وأوسع من المستحيل، ولكن الذاكرة الحيّة التي أبت الاضمحلال والنسيان، ستظلّ قادرة على إذكاء الروح من جديد، وما “الانتماء” إلا تعلقٌ بـ “ذكرى”.