ما قالته أنّا عن العبقري دوستويفسكي

لعل أجمل ما في مذكرات أنّا غريغوريفنا، زوجة فيودور دوستويفسكي، أنها تثير الدهشة التي افتقدتُها سنين طويلة، دهشة من بساطة أسلوبها الغني بما كشفته من معاناتها ومعاناة زوجها في حياتهما من مرض زوجها والديون المتراكمة من نشر كتب دوستويفسكي ، والدائنون، والتشرد، ووشايات” الأصدقاء” الذين انقلبوا عليه..إلخ . تقول في مقدمة مذكراتها التي ترجمها خيري الضامن(2015):” لم أفكر يوما في كتابة المذكرات، فأنا أفتقر إلى الموهبة الأدبية. وكنت طوال عمري مشغولة بإصدار مؤلفات الراحل زوجي، فلا وقت عندي لأمور أخرى. إلا أن صحتي تدهورت في عام 1910 فعهدت إلى آخرين بمتابعة طبع مؤلفاته، وانزويت بعيدا عن العاصمة بطرسبورغ أعيش في وحدة مطبقة. وكان لا بد أن أملأ فراغ أوقاتي، وإلا فلن يطول بي العمر. أعدت قراءة يوميات زوجي ويومياتي، فوجدت فيها تفاصيل هامة تستحق أن يطلع عليها الناس. ثم أمضيت خمس سنوات1911 – 1916 في إعداد هذه المذكرات”.

لم يكن دوستويفسكي قد نشر بعد أيا من رواياته، حين اطلع الناقد الكبير بيلينسكي عام 1846 على مخطوط روايته الأولى” الفقراء”، قال:” سيأتي على روسيا روائيون كثيرون، وستنسى روسيا معظمهم، أما أنت فلن تنساك روسيا أبدا، لأنك روائي عظيم، المجد والشرف للشاعر الشاب الذي تُحب آلهة وَحْيِهِ سكان السقوف والأقبية وتقول عنهم لأصحاب القصور المذهبة: هؤلاء بشر أيضا، هؤلاء إخوانكم”.

وتشير الكاتبة في مذكراتها إلى أبطال روايات زوجها وأحداث كثيرة استقاها دوستويفسكي من واقع حياته، وهم أبطال موجودون في واقع حياتهم، كما في رواياته: المقامر، الأبله، الجريمة والعقاب، أو لوحات أعجب بها، تركت أثرا في نفسه فانعكست في أبطال رواياته كما هي لوحة لرفائيل “يوحنا المعمدان في الصحراء”، ولوحة هانز هولبن”جسد المسيح الميت في الكفن” التي تركت شعورا بالانسحاق الفظيع في نفسه، كما تقول أنّا، وانعكس ذلك في روايته” الأبله”. تتحدث أنّا عن اللوحة المعروضة في متحف بازل وهما متوجهان إلى جنيف. وتصور اللوحة السيد المسيح وقد أنزل عن الصليب وأسلم للتحلل والعفن. ” وجهه مغطى بالجراح الدامية وقد بدا مفزعا. اللوحة تركت انطباعا هائلا على زوجي، ولقد توقف أمامها كما لو أنه مصعوق. بعد أن عدت إليه بعد ما يقارب الخمس عشرة إلى عشرين دقيقة، وجدت زوجي لا يزال واقفا أمام اللوحة كما لو أنه مربوط بها. بدت على وجهه المهتاج تلك الملامح المفزوعة التي اعتدت أن أراها في اللحظات الأولى السابقة لنوبات الصرع التي تداهمه. أسرعت بإمساكه من تحت ذراعه وأخذته إلى غرفة أخرى… هذه اللوحة كانت تشكل البنية الأساسية لكتابة دوستويفسكي لرائعته الخالدة”الأبله”.”

لا أريد أن أسفسط كثيرا. لكن هناك مشهدا يستحق الرواية. ففي عام 1880 أقيم أكبر مهرجان تشهده روسيا لتكريم ذكرى أمير شعرائها”بوشكين” حيث وجد فيه أكبر تجمع للمثقفين الروس منذ فترة طويلة. كان السؤال الأساسي المطروح على الاحتفال: من هو بوشكين بالنسبة للأدب الروسي، وهل يجسد في شخصه العبقرية الروسية أم العبقرية الأوروبية، ناهيك عن الكونية؟ كان طلاب جامعة موسكو والعديد من الحضور الهائل، ينتظرون من أدبائهم الكبار جوابا عن هذا السؤال. في البداية أعطي حق الكلام لتورجنيف الذي كان قد عرف بوشكين في حياته، ويعتبر نفسه أحد تلامذته والمعجبين به، لكن خطابه كان معتدلا ورزينا جدا… لكن أقواله لم تشبع الحضور، وانتظروا حتى اليوم التالي حين يصعد دوستويفسكي المنصة.

” وفجأة، ظهر على المنصة شخص غريب الشكل، يكاد جسده النحيل المتهدم يتهاوى من شدة الإعياء والتوتر وسنوات الحرمان الطويلة. وبدا وكأن لباسه هو الذي يحمله، ويجعله يتوازن، وليس هو الذي يحمل لباسه. كان وجهه الأصفر وعيناه الغائرتان ولحيته الكثيفة تخلع عليه هيئة أولئك الممسوسين الذين طالما تحدث عنهم في رواياته. أخذ يتكلم بصوت أجشّ مبحوح لا يكاد يسمع في البداية. ثم شيئا فشيئا راح الصوت يتضح ويقوى حتى سيطر على القاعة كليا. تجمع جمهور ضخم وخيّم على الجميع صمت رهيب. وأخذ العصاب الجنوني يؤجج في داخله نار العبقرية، فراح يكسف الخطباء جميعا كما تكسف الشمس النجوم الصغيرة في وضح النهار. ما الذي قال دوستويفسكي في هذا الخطاب الشهير الذي توّج حياته الأدبية والذي يعتبر بمثابة الوصية التي تركها للأجيال القادمة؟

قال بما معناه(وهذا التعقيب على هامش متن المذكرات): من هو بوشكين؟ إنه تجسيد للروح القومية الروسية في كل ما تمثله من قدرة على هضم واستيعاب عبقريات الأمم الأخرى. إنه تعبير عن روسيا فيما تحمله من رسالة كونية إلى البشرية. وروسيا هذه التي طالما تغنى بها كانت ولا تزال مسؤولة عن قيادة العالم على درب التقدم الأخلاقي. وهو لا يقل أهمية بالنسبة لنا عن شكسبير بالنسبة للإنجليز؛ فالشخصيات الإيطالية التي يستخدمها شكسبير في مسرحياته تتحدث وكأنها إنجليزية. وهذه سمة العبقرية، فهي تصهر وتهضم عندما تنقل عن الآخرين. وبالتالي فلا يعود النقل خيانة للذات القومية. وهذا ما فعله بوشكين أيضا، فقد كان إسبانيا في كتابه دون جوان، وإنجليزيا في كتابه عيد أثناء الطاعون، وألمانيا في كتابه مقطع من فاوست، وعربيا في كتابه التأثر بالقرآن الكريم، وروسيا في كتابه بويرس غودونوف، كان كل ذلك دفعة واحدة. ولأنه كان كل ذلك، لأنه عرف أن يكون كل ذلك، فإنه روسي حقيقي، لا معنى للإنسان الروسي إن لم يكن أوروبيا وعالميا في آن معا، كأن تكون روسيّا حقيقيا، أن تكون روسيّا بالكامل يعني أن تكون أخا لكل البشر.

ما إن انتهى دوستويفسكي من كلامه، حتى دخل الجمهور في حالة هستيرية. التصفيق المتطاول الذي لا ينتهي كان يختلط بشهقات الزفير والنحيب، وزغردات النساء كانت تختلط ببكاء الرجال. والطلاب هجموا عليه على المنصة لكي يلمسوه والطالبات أخذن بتقبيل يديه كيفما اتفق، وسقط أحد الطلاب مغمى عليه.. وراح المتخاصمون من سلافيين ومستغربين يتعانقون بعد أن نجح دوستويفسكي في مصالحة شطري روسيا. وحتى تورجنيف هجم عليه لكي يعانقه مستسلما أمام عبقريته التي لا تقاوم.. وأما تولستوي الذي رفض الحضور بإصرار، فقد صدقت توقعاته، والواقع أنه ما كان سهلا عليه أن يشهد كل هذا التبجيل لمنافسه الأوحد على عرش الأداب الروسية.”

سيرة سيدة أرغمها والدها على أخذ دورة “اختزال”(ربما كان عرّافا يقرأ الغيب) كما تقول أنّا، حيث كان دوستويفسكي يبحث عمن يجيد الاختزال ليملي عليه روايته الجديدة” المقامر”.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى