قراءة اخرى لعراب “الحرب الباردة” الراحل بريجينسكي
وافت المنية مؤخرا زبغنيو بريجينسكي أحد أهم أعمدة الحرب الباردة وسياسة المواجهة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي وبعده روسيا التي كان أكثر ما يخشاه اجتياحها دول البلطيق.
ويجمع الخبراء لدى بحثهم في الحرب الباردة، على أن عراب السياسة الأمريكية ومستشار الديمقراطيين والجمهوريين طيلة النصف الثاني من القرن العشرين بريجينسكي، لم يتوسط الرؤوس التي تعمدت النفخ في نار الحرب الباردة فحسب، بل كان بطرك الحرب ومديرها بامتياز لأكثر من خمسة عقود.
بريجينسكي، مات وهو يهذي بروسيا التي لم يتحدث أو يكتب عنها يوما إلا ووصفها بأشد العبارات، وهوّل من خطرها وسطوتها على أوروبا والعالم، حيث قال في واحد من تصريحاته: “الكابوس الذي يؤرقني باستمرار، هو اجتياح روسيا في يوم من الأيام ريغا عاصمة لاتفيا، وتالين عاصمة إستونيا لتحتل في غضون 24 ساعة الجمهوريتين العاجزتين عن ردعها”.
وأضاف: “الجميع في أعقاب هذا الاجتياح سوف يتسابقون في التعبير عن امتعاضهم مؤكدين أن روسيا قد ضربت بجميع القوانين والأعراف الدولية عرض الحائط، ليذعنوا في نهاية المطاف ويرضخون للواقع. واشنطن من جهتها، سترسل سفنها الحربية إلى شواطئ البلطيق وتشرع في إنزال تاريخي على غرار نورمندي، الأمر الذي سينتهي في نهاية المطاف بحرب نووية مدمرة”.
بريجينسكي، كان مؤمنا كل الإيمان بأن “الهدف الرئيس لواشنطن يتمثل في العمل على إضعاف روسيا بشتى السبل، وبرع في محاولات جر الاتحاد السوفيتي إلى أي حرب أو نزاع، حتى كتب بعد اجتياح القوات السوفيتية أفغانستان أن موسكو قد حصلت أخيرا على فيتنامها”، أي غرقت في أفغانستان كما غرقت واشنطن في الحرب الفيتنامية.
وكتب في الروس كذلك، “أنهم إذا ما كانوا حمقى إلى درجة أن يفكروا في بعث امبراطوريتهم، فإنهم سوف يتعثرون بنزاعات ستكون حربا الشيشان وأفغانستان نزهة بالنسبة إليها”.
الورقة الرابحة الثانية التي حاول بريجينسكي لعبها لإضعاف روسيا بعد مبادرته لخلق “القاعدة” و”طالبان” التي كتب عنها بلا حرج في مؤلفاته، كانت أوكرانيا التي عششت فكرة “ثورة ميدانها” في مخيلته طيلة عقود من الزمن.
فقد دوّن في واحد من مؤلفاته بهذا الصدد: “أوكرانيا فضاء جديد وهام على رقعة شطرنج أوراسيا، وتحتل مركزا جيوسياسيا كبيرا يجعل منها وهي دولة مستقلة، أداة تساعد في تحوّل روسيا التي لا يمكن لها أن تبقى امبراطورية أوراسية بمعزل عن أوكرانيا”.
أحلام بريجينسكي تجاه أوكرانيا تحققت جزئيا، حيث اعتبر وصول بترو بوروشينكو إلى السلطة والانقلاب على الحكم في كييف بعد ثورة “الميدان” نصرا شخصيا له، وزار كييف مرارا في أعقاب ذلك وألقى فيها الخطابات الطويلة والكلمات الرنانة التي كرسها لشيطنة روسيا والتجييش ضدها.
ورغم اعتبار الطغمة الحاكمة في كييف بريجينسكي “بطلا قوميا مدافعا عن أوكرانيا”، كان يجاهر الأخير بأن أوكرانيا بالنسبة إليه “ليست سوى أداة تستخدم لإضعاف روسيا بما يتيح انفراد الولايات المتحدة وهيمنتها على العالم بلا منازع”.
زبغنيو بريجينسكي من مواليد بولندا لعام 1928، خبير سياسي أمريكي وأخصائي في علم الاجتماع ورجل دولة في الولايات المتحدة.
عمل مستشارا للرئيس الأمريكي جيمي كارتر لشؤون الأمن القومي، وبروفيسورا في مدرسة البحوث الدولية التابعة لجامعة جونز هوبكنز الأمريكية، وحظي بعضوية الأكاديمية الأمريكية للعلوم الإنسانية، وحاصل على وسام الولايات المتحدة الرئاسي لعام 1981.
ألّف جملة من الكتب والمقالات السياسية والتحليلية بما فيها كتاب “رقعة الشطرنج العظمى”، وله باع طويل في تقديم الاستشارات السياسية لأقطاب السياسة الأمريكية بين ديمقراطيين وجمهوريين.