محشورون في غرفة.. أورويل

” وفكر ونستون في شاشة الرصد التي لا تنام لها عين أو تصمّ لها أذن، فهم يتجسسون عليك ليل نهار ولكنك إذا احتفظت بوعيك يمكنك أن تخدعهم. ورغم كل ما لديهم من مهارات، فإنهم لم يتمكنوا من فك رموز السر الذي يفتح لهم نافذة على ما يجول بخاطر الإنسان. وربما تقلّ صدقية هذا القول حينما يقع المرء في قبضتهم، فلا أحد يعلم ما الذي يجري داخل أقبية وزارة الحب، وإن ظل بوسع المرء أن يتكهن بذلك: صنوف من العذاب وعقاقير هلوسة وأجهزة دقيقة تحصي عليك ردود فعلك العصبية وإنهاك تدريجي لقواك بالحرمان من النوم والوحدة والاستنطاق المتواصل. وفي كل الأحوال لا يمكن إخفاء الحقائق عنهم لأنهم يستطيعون استخلاصها بالتحقيق معك أو انتزاعها منك بالتعذيب…”.

تعد ” الرقابة ” من أهم الموضوعات التي تتناولها رواية(1984 ) للكاتب البريطاني جورج أورويل الصادرة عام 1949 وخاصة في القسم المتعلق بوزارة الحقيقة، حيث تعدل الصور وتعاد كتابة السجلات العامة لمحو ” اللاأشخاص”، أي أولئك الذين اعتقلوا وقرر الحزب محوهم من التاريخ. ويعلن الحزب على شاشات الرصد الموجودة في كل مكان، إحصائيات مختلفة عن الإنتاج لتوحي باقتصاد مزدهر، لكن الواقع عكس ذلك. أما رؤية الحزب للمستقبل فهي: “سوف يندثر الفضول، سوف تختفي المتعة من الحياة. سنقضي على كل اللذات المتناقضة. ولكن لا تنس يا ونستون، ستظل نشوة السلطة لن تغيب البتة، بل ستزاد وتخفى على العامة. سترى دائما حشودا تحتفل بنصر ما، تنتشي بسحق العدو المغلوب على أمره. إذا أردت تصور المستقبل، تخيل حذاء  يدهس وجها بشريا للأبد..”.

ونستون عضو في الحزب الخارجي، ويسكن في غرفة واحدة دون طعام سوى خبز القمح والوجبات الصناعية والنبيذ، ويعمل في وزارة الحقيقة، وهي تابعة للحزب الداخلي، كمحرر مسؤول عن مراجعة التاريخ. تتحكم وزارة  الحقيقة في المعلومات والأخبار والتعليم والفنون، يعيد ونستون كتابة الوثائق لتتفق مع كل ما يقوله زعيم الحزب أو ما يسمى الأخ الأكبر، ويعدم الوثائق الأصلية في ثقوب ذاكرة مخصصة لذلك. حين يخلو في غرفته، وفي غفلة من شاشة الرصد، يبدأ في كتابة مذكراته وانتقاد الحزب والزعيم، وهي جريمة في نظر الحزب حيث العقوبة إذا اكتشفتها شرطة الفكر هي الإعدام. ويتم الإيقاع بونستون، ليتعرض لأبشع أنواع التعذيب كي “يشفى من جنونه”، أي كراهيته للحزب. يعترف ونستون بجرائم ارتكبها وجرائم لم يرتكبها، فيرسل إلى الغرفة رقم101 المرعبة في وزارة الحب لإعادة تأهيله، يوضع وجهه في قفص حديدي مليء بالجرذان الجائعة.. وكان جائعا جدا.. بعد خروجه من السجن، أدمن الخمر ليهرب من ذكرياته، واعترف بحبه للأخ الأكبر.

الترويض.. ترويض المواطن الحالم ليدخل في قفص القطيع.

يقول المروض لتلاميذه في” النمور في اليوم العاشر” لزكريا تامر: عليكم ألا تنسوا في أي لحظة أن معدة خصمكم هدفكم الأول”.. ويشير إلى النمر الجائع.. : سترون كيف سيتبدل فالرأس المرفوع لا يشبع معدة فارغة… سيصبح بعد أيام نمرا من ورق. في اليوم الثامن، قال المروض للنمر: سألقي مطلع خطبة، وحين سأنتهي، صفق إعجابا. قال النمر: سأصفق. أيها المواطنون.. سبق لنا في مناسبات عديدة أن أوضحنا موقفنا من كل القضايا المصيرية، وهذا الموقف الحازم الصريح لن يتبدل مهما تآمرت القوى المعادية، وبالإيمان سننتصر. وعندما قال النمر بأنه لم يفهم ما قيل، قال المروض” عليك أن تعجب بكل ما أقول وأن تصفق إعجابا به.. وفي اليوم العاشر: اختفى المروض وتلاميذه والنمر والقفص، فصار النمر مواطنا، والقفص مدينة(بعد تجويعه وإذلاله).

يقول محمد الماغوط في كلمة الغلاف في” النمور في اليوم العاشر”: عندما يأتي القارئ إلى نهاية هذا الكتاب العجيب، يشعر بأنه محاصر كالقلم في المبراة، وأنهه عار من كل شيء في أقسى صقيع عرفه القدر، ولا يملك شيئا سوى راحتيه يستر بهما وسطه، وهو في وقفته الضالة والمخجلة تلك على رصيف المائة مليون أو أشبه، لا ينقصه إلا إطار في قاعة محاضرات، وبحاثة في علم “بقاء الأنواع” يشير إليه بطرف عصاه أمام طلابه ويقول: كنا ندرس يا أولادي من قبل كيف يتطور المخلوق البشري في مناطق كثيرة من قرد إلى إنسان. والآن سندرس كيف يتطور المخلوق البشري في هذه المنطقة من إنسان إلى قرد. وأهله وحكامه يتفرجون عليه من النافذة وهم يضحكون “.

يقول هنري ميللر في كتابه” رامبو وزمن القتلة” في حديثه عن الشاعر رامبو:” ليس ثمة مكان لشخص مثله أنّى ذهب. العالم لا يريد الأصالة. يريد المطابقة.. العبيد.. العبيد.. والعبيد. المجاري مكان العبقري حيث يحفر التنوات.. مكانه مقالع الحجر.. حيث لا تستخدم مواهبه. إن أكثر المناظر حزنا في العالم، منظر عبقري يبحث عن عمل”. وفي النهاية يقول رامبو”أترك الأمر وأعود أدراجي إلى البيت، جائعا دوما. في كل ارتحالاتي وأوباتي كنت جائعا”.

هذا الزمان ليس زمانك. إنه زمن القهر، والأمعاء الخاوية، وإلغاء العقول، وكسر الأقلام، وبالتالي كسر الإرادة.

 يوقظون الكوابيسَ في نوم أطفالنا

يولمون لأعدائنا من ضلوع دمشقَ

يشربون عصير الشِعارِ

بجمجمةِ الشارع المتناثرِ

في عصفِ ريحِ الخناجرِ

يشربون الدماءَ

على نخب مقصلةٍ

نُجِرَتْ من يباس الضمائرِ

(الشاعر هادي دانيال/ ديوان: عندما البلاد في الضباب والذئاب)

وأخيرا..

يقول أورويل: في أزمنة الخداع العالمي، فإن قول الحقيقة هو فعل ثوري.

 

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى