الموسيقار محمد القصبجي.. حالفه الفن وعاكسه الحظ
لم يكن والده يعطيه وهو صغير مالًا يكفي لشراء عود، فلجأ إلى نجار الحي ليتبرع له بقطعة من الخشب طولها 16 سنتيمترًا ذات رقبة تشبه رقبة العود، وثبت عليها رزتين خلعهما من «تختة» المدرسة، وكان كلما انقطع وتر من عود والده تلقفه وشده على قطعة الخشب.. هكذا بدأت علاقة «القصبجي» بالعود.
تتلمذ على يديه عمالقة أمثال «أم كلثوم» وأسمهان ومحمد عبدالوهاب وسعاد محمد وفتحية أحمد ونجاة علي، وتأثر به محمد فوزي ومنيرة المهدية وليلي مراد ونور الهدى، هو سيد عازفي العود في القرن العشرين – في رأي كثير من المتخصصين – برغم أن زمنه شهد عتاولة العزف على العود، منهم السنباطي وفريد الأطرش وجميل بشير.
رغم ذلك، بقي محمد علي إبراهيم القصبجي، في الظل، بينما اشتهرت ألحانه حتى فاقت شهرته هو شخصيًا، فقليلون من يعلمون مثلًا أنه ملحن «أنا قلبي دليلي» لليلى مراد، «امتى حتعرف امتى» لأسمهان، «ما دام تحب تنكر ليه» لأم كلثوم.
عندما سُئلت أم كلثوم عن القصبجي، وسبب خفوته رغم تأثير وعظمة ألحانه، قالت إنه لا يوجد سبب محدد يفسر ذلك، لكنه مُقدّر للغاية بين المتخصصين، لأنه كان عالِمًا موسيقيًا بحق، متطورًا و «سابق عصره»، كذلك نسبت إليه أنه أول من استعمل السولوهات في التلحين.
المؤرخ «فكتور سحاب» تناول بالتفصيل سيرة القصبجي في كتابه «السبعة الكبار في الموسيقى العربية المعاصرة»، وحاول تفسير سبب عدم شهرته على عكس ألحانه، فقال:
“إن ذلك ربما يعود إلى الثقافة العربية التي تهمل المؤلف والملحن وتجعل المغني وحده يحصد الشهرة، ولم يفلت من ذلك الفخ سوى «الملحن المغني»، فعندما غنّى سيد درويش والسنباطي وزكريا أحمد حظوا بشهرة، أما القصبجي فغناؤه كان قليلًا للغاية، كذلك ربما يعود السبب إلى محنة التراث في الإذاعات العربية ومؤسسات التربية الفنية، فعلى حين تنشأ أجيال أوروبا الموسيقية على مؤلفات «بيتهوفن»، و«باخ»، و«برامز»، نادرًا ما يحدث ذلك في التربية الموسيقية العربية، فلو كانت الموشحات والأدوار والأغنيات القديمة يُعاد تقديمها بأصوات مغنين جُدد لربما أُعيد للملحن والمؤلف حقه في الشهرة بجانب المطرب”
ابن الوز عوام
وُلد القصبجي في 15 نيسان 1892، ونشأ في بيئة اجتمعت فيها سلالات أصيلة من الفن العربي، فكان أبوه الشيخ «علي إبراهيم القصبجي» -المنشد والمقرئ المعروف في حي عابدين- يكتب النوتة الموسيقية لمؤلفي عصره ومغنيه، وكان عوادًا فذًا وملحنًا غنى له «عبده الحامولي»، و«صالح عبدالحي»، و«زكي مراد» (والد ليلى مراد)، و«محمد السنباطي» (والد رياض السنباطي).
تخرج القصبجي من مدرسة عثمان باشا، حفظ القرآن وتعلم أصول تجويده، وساعدته النشأة الفنية على إتقان الموسيقى العربية التي اتخذ علمها من منبعها الأول «التجويد والموشحات».
تقول رتيبة الحفني، في كتاب «محمد القصبجي.. الموسيقي العاشق»؛ «بدأ القصبجي منذ عام 1917 في تجديد نكهة الغناء العربي وإدخال التعبير عليه، وتطوير اللوازم الموسيقية وجعلها جزءًا مهمًا في البناء الموسيقي لا يمكن الاستغناء عنها»، وسلّط فكتور سحاب الضوء على دوره في تجديد الموسيقى العربية، بصحبة رفيقه سيد درويش، فيقول:
“إن القصبجي أدخل الهارمونيا والبوليفونيا على الموسيقى، دون أن يشوه مزاجها أو يفقدها شخصيتها، فاستخدم الفنون التقنية الغربية في الموسيقى العربية واحتفظ بروحها العربية الأصيلة، فجذوره كانت ضاربة في عمق التراث العربي الموسيقي، وهو واحد من ثلاثة عباقرة، بجانب درويش وعبدالوهاب، استخدموا أساليب غربية في تطوير اللحن والتوزيع الموسيقي، لكنهم ظلوا ينطقون لغة موسيقية عربية”
وأهم تجديد موسيقي للقصبجي ذلك الذي أحدثه في شكل المونولوج (نوع موسيقي ظهر في الغناء العربي عام 1915) الذي أرسى ملامحه بشكل نهائي عام 1928 في أغنية «إن كنت أسامح وأنسى الأسية» – التي باعت أسطوانتها ربع مليون نسخة – ثم تطويره شكل الطقطوقة، خاصة في الأغاني السينمائية التي غنتها ليلى مراد وأسمهان.
وأشار فكتور سحاب إلى أن موسيقى القصبجي تشعر وكأنها مكتوبة لفرقة كبيرة بحيث يتعذر على التخت الصغير القدرة على القيام بأعبائها التعبيرية، لذلك لم تبالغ أم كلثوم في توصيفها له بأنه «موسيقي سابق لعصره».
وفي كتاب «أعلام الموسيقى والغناء العربي»، يقول «فكري بطرس» عن ألحان القصبجي:
“تميزت بطابع خاص عُرفت به بين جميع ألحان معاصريه أمثال كامل الخلعي وداود حسني وزكريا أحمد، فجمعت ألحانه بين المدرسة الموسيقية القديمة والقالب الحديث المتطور”
وللموسيقي الكبير محمد فوزي شهادة خاصة في أحد ألحان القصبجي فيقول: إن «لحن قلبي دليلي ليس لحنًا من عام 1947 إنه لحن من عام 2000»، في إشارة إلى عظمة اللحن.
تجديد القصبجي للموسيقى العربية لم يقتصر على دوره المباشر، فتقول رتيبة الحفني إنه كان «يهدي ألحانه مجانًا للمطربين الجدد»، حيث تخرج من مدرسته جيل كامل من أساتذة الموسيقى العربية في القرن العشرين، أمثال عبد الوهاب ورياض السنباطي ومحمد فوزي ومحمد الموجي، وفي لبنان تأثر به زكي ناصيف وتوفيق الباشا الذي وصفه بأنه أستاذ النغم بكل تعقيداته لقدرته على اكتشاف مجالات جديدة في التعبير الموسيقي.
تراث ينطق بالعظمة
لا يوجد تحديد رقمي دقيق لأعمال القصبجي، هو نفسه في أحد اللقاءات الإذاعية النادرة قال إنه لحّن ما بين 300 – 400 أغنية، غير أن محمود كامل أحصى في كتابه «محمد القصبجي.. حياته وأعماله»، 360 أغنية موزعة على عدة أشكال من التلحين: 182 طقطوقة، 91 أغنية في 38 فيلمًا سينمائيًا، 43 مونولوجًا، 30 قصيدة، 13 دورًا، وموشح وحيد بعنوان «مر عيش هان».
يعتبر هذا العدد كبيرا جدًا إذا ما أخذنا في الحسبان مدى جودة الألحان. ويعتبر لحن «مليش مليك في القلب غيرك» لزكي مراد، أول ألحان القصبجي عمومًا، أما أول ألحانه لأم كلثوم فهو «إن حالي في هواها عجب» عام 1924.
ومن أشهر ألحانه «رق الحبيب» لأم كلثوم 1944، وهو نموذج للمونولوج الذي لا تتكرر فيه أي ألحان، ذلك المولونوج المطلق الذي ينطلق فيه اللحن من نقطة فلا يعود إليها، وهي أغنية تستحق الدراسة في شكلها ومقاماتها وتوزيعها الموسيقي، وظهرت فيها أم كلثوم بشكل متطور بفضل عُمق اللحن.
القصبجي والعود.. علاقة خاصة
للعزف على العود مؤهلات ثلاثة: المقدرة التقنية، الإحساس الوجداني، الخيال التأليفي في التقسيم، وكلها تميز بها القصبجي الذي يحظى باعتراف المتخصصين بأنه الأستاذ فيه. ويقول فكتور سحاب إنه على الرغم من أن تسجيلات عود القصبجي شبه نادرة، فإن ذلك ليس مقلقًا، فالعود الذي نستمع إليه في كل أغنيات أم كلثوم حتى وفاته عام 1966 هو عوده.
وكان للقصبجي مجموعة كبيرة من الأعواد في بيته، لا لحبه للتحف فقط، بل لأنه كان باحثًا نظريًا وعمليًا في الموسيقى، وأخذ العِلم عن والده وصديق والده الموسيقي «كامل الخلعي»، الذي علّمه أيضًا الموشحات. فلم يكن غريبًا أن يكون للقصبجي آراء في صناعة العود، فنصح ألا يزيد طول وتره على 60 سنتيمترا، كما استدعاه معهد فؤاد الأول للموسيقى العربية في القاهرة مرارًا للاستماع لآرائه في المقامات العربية وعلاقتها ببعضها.
سيد العود، الذي كان يخشى أن ينشذ العود وهو في حضنه، كان يُعلّم الفنانين أن يخشوا الفن وأن يحترموا المُستمع، فيقول عازف الكمان الشهير أحمد الحفناوي: «أشعرني تواضعه برهبة أمام العزف، تلك المهمة الخطيرة».
تعلّم منه عزف العود أحد مجددي الموسيقى العربية، محمد عبد الوهاب، فكانت بصماته واضحة في أغنيات «اللي يحب الجمال»، «بلبل حيران»، «أهون عليك»، كما أقر عبدالوهاب بأنه أول من أدخل الهارمونيا في الموسيقى العربية، وهذه شهادة تاريخية مهمة.
أم كلثوم.. غصة في قلب القصبجي
سمعها القصبجي للمرة الأولى عام 1923 وهي تنشد قصائد في مدح الرسول، فأعجب بها، وفي العام التالي قدّم لها طقطوقة “قال حلف ميكلمنيش”، فكانت انطلاقة لثنائي نادر، أطربا العرب، على امتداد عقدين، ورأس فرقتها الموسيقية، إلى أن قالت له ذات مرة: «يبدو يا قصب أنك محتاج إلى راحة طويلة»، بعدها توقفت عن الغناء له بعد تسع وستين أغنية، آخرها أغاني فيلم «فاطمة» عام 1948.
عن هذا الانقطاع، يقول فكتور سحاب إن أم كلثوم كانت ترى أن إلهامه قد نضب، لكنها لم تكف في الظاهر عن تشجيعه على معاودة التلحين لها، غير أنها لم تقتنع بالألحان الجديدة التي كان يقدمها إليها، ورغم ذلك لحّن القصبجي أغنية في تكريمها بمعهد الموسيقى العربية عام 1949، وبعد «الراحة الطويلة» ومحاولات القصبجي غير المُجدية في العودة إلى التلحين، ثم عزله عن رئاسة فرقتها الموسيقية، تحول إلى عازف فاستمر يعمل عوادًا في فرقتها إلى آخر يوم في حياته.
كثيرة هي الكُتب والدراسات والمقالات التي تطرقت لخصوصية علاقة أم كلثوم والقصبجي، سأكتفي في هذا المقال بالإشارة إلى واقعة تُبين – في حالة صحتها – مدى غرابة العلاقة، الواقعة ذكرها الناقد الفني طارق الشناوي في كتابه «أنا والعذاب وأم كلثوم»، استنادًا إلى مذكرات الملحن محمود الشريف، الزوج الأول لكوكب الشرق، فيقول:
” كان وقع خبر ارتباط أم كلثوم بالشريف قاسيًا على القصبجي، فحمل مسدسًا واقتحم منزل أم كلثوم، وكان معها محمود الشريف مهددًا إياهما بالقتل قبل أن يسقط المسدس من يده أمام نظراتها الغاضبة، لكن هذا لم يشفع حيث قدم فيه محمود الشريف بلاغًا للشرطة يتهمه بالشروع في قتله وأم كلثوم”
توفي «محمد القصبجي» في 26 اذار 1966، لتمتنع أم كلثوم عن إعطاء مكانته لأحد خلفها على المسرح، فظلت فرقتها بلا عود حتى اضطرت إلى ضم عبد الفتاح صبري إلى فرقتها عام 1970، لأن مقدمة «اسأل روحك» التي لحنها الموجي تضمنت انفرادًا بالعود.