أدلَجَةُ ” الثّورة ” البائسة.. والفرضيّة الثقافيّة
بقلم: د. بهجت سليمان/دمشق
تُعوّل قطعانُ الأدواتِ الإرهابية و المجرمين ، الذين تغوّلوا في سورية ، مع صانعيهم و مموّليهم ، على استدامة الحرب و أسبابها ، للإجهاز على ما تبقّى من معالم الحياة في سورية.
و يفسّر العمل على استدامة هذه الحرب من قبل المجرمين الفجرة ، من وجهة سياسيّة ، خضوعهم التّمثيليّ لاتّجاه التّفاوض. . هكذا ينبغي أن نفهم مسلسلات ( جنيف ) و ( الأستانة ) و ( موسكو ) و غيرها ، و ليس على أساس شعورهم بالمسؤوليّة التّاريخيّة أو احترامهم رغبة الشّعب السّوريّ أو لوقف نزيف الدّم السّوريّ .
و يمكن القول إنّ غياب ” مشروع سياسيّ” للإرهابيين و خلفيّاتهم السّياسيّة ، و عدم قدرتهم على طول مشروعهم الدّمويّ من امتلاكهم ” برنامجاً سياسيّاً “، بما فيهم المعارضة المأجورة المرتزِقة على موائد ممالك و إمارات الكاز والغاز ؛ كان وراء وحشيّتهم” الثوريّة”.
عندما فقدت الفصائل الإرهابيّة ، و المعارضة المزعومة ، مبكّراً في الحرب السّورية ، أيّة قدرة على تسويق ” شرعيّتها ” أمام الرّأي العام المحلّيّ و الإقليميّ و الدّوليّ ، قامت بتوجيهات من المموّلين و الدّاعمين ، باستعمال إضافات جديدة أخرى لتسويغ ” شعبيّتها ” الضّحلة في المجتمع العربيّ السّوريّ.
لا يُفسّر هذا الواقع فقط ، كميّة و حجم الحرب الإعلاميّة المرافقة للقتل و الإرهاب ، و إنّما أيضاً ما يمكن أن نسمّيهِ ” الفرضيّة الثّقافيّة ” لمشروع الإرهاب ، التي تمثّلت بجرّ بعض الشّخصيّات السّوريّة و العربيّة المحسوبة على السّياسة أو الثّقافة ( و الفنّ! ) ، كبعضِ الموظّفين القدامى – و منهم ضبّاط و عسكريون – في مفاصل معتبرة في ” الدّولة ” أو ممّن كانوا قد سوّقوا أنفسهم في ( سورية ) في الإعلام و السّياسة ، لانضمامهم إلى حلفِ الإجرام ، مع بعض أسماء فنيّة مغمورة لممثّلين و مغنّين ، و ” دكاترة ” جامعات ، و بخاصّة منهم من وجد أنّ ” المناسبة ” تسمح له بالشّهرة السّياسيّة ، ليعمل على طموحاتٍ مفترضةٍ في مدارك و آفاق وهميّة ، محدودة و بائسة.
كانت هذه الظّاهرة مرافِقَةً ، بالتّوازي ، للجرائم الإرهابيّة ، في صيغةِ ” المعارضة السّياسيّة و الثّقافيّة “، لتعويم الحرب الوحشيّة المسلّحة على عناصر و مقوّمات الدّولة و المجتمع ، تعويماً ثقافيّاً ضاغطاً بِبُعدٍ رسميّ في المحافل الدّوليّة ، يجعل من مشهد الجريمة الدّمويّة مشهداً مدعوماً بشعبيّة مزيّفة و مدعوماً أيضاً بالثّقافة و السّياسة و الدّبلوماسية ” المحرجة ” للحقيقة التي يتبنّاها عالمٌ واسعٌ من الأصدقاء لسورية على مدار العالم.
رافق تلك ” الفرضيّة الثّقافيّة ” البائسة للإرهاب المجرم ، على طول زمن الحرب السّوريّة ، مفرداتٌ متّصلة بالثّقافة العولميّة الفارغة ، من قبيل ” الحرّيّة ” الاجتماعيّة و السّياسيّة و ” حقوق الإنسان ” و ” حرّيّات ” التّعبير و ” الإصلاح ” و تغيير ” النّظام ” و مصطلحات رنّانة أخرى ممّا يُطرَبُ له الرّأي العامّ العالميّ السّاذج ، الذي تربّى على السّطحيّة الأيديولوجيّة التي غزت أفكار الشّعوب بعد ” أفكار الحداثة ” المزيّفة و التي انتهت إلى عولمة الجهل و استهلاك الثّقافة و المحفوظات.
و لقد كُلّف هؤلاء ” المرتزِقةُ الثّقافيّة ” و ” الموظّفون ” السّابقون بمهمّات معروفة للجميع ، لصناعة ” خطاب ” مزوّرٍ يُعنى بتلميع ” الشّعارات ” المتعلّقة بـ ” التّسامح ” و ” السّلميّة ” و ” الّلاعنف ” و ” التّعدّديّة ” و ” المظلوميّات ” المختلفة ، فيما كانت ” الجيوش ” الإرهابيّة تفتك بالمواطنين الأبرياء من مدنيين و عسكريين بدون تمييز أو وازعٍ ، و كذلك بجميع عناصر الحياة الإنسانيّة و الاجتماعية و الاقتصاديّة على الأرض ، في شكل ممارسات مسلّحة متوحّشة متطرّفة و عنيفة و همجيّة ، مقنّعة بالثّقافة و الخطاب ” الّليبيراليّ ” و ” الدّيموقراطيّ ” الذي سانده إعلامٌ ” عربيّ ” و ” إسلاميّ ” و ” دوليّ ” عميل و سفّاح و مأجور.
و أمام التّحدّي الذي انفرض على الدّولة و الجيش و قوى الأمن الأخرى ، للدّفاع عن المواطنين ، و حماية مقوّمات العيش و الحياة الضّروريّة ، ارتفعت أبواقُ ” التّغيير ” و شائعاتٌ صبيانيّة أخرى تتّصلُ بانتقال الحكم و ” إسقاط النّظام “.
بدأ الخطاب المعارض و الإرهابيّ متفاوتاً ما بين شعار ” ربيع دمشق ” أو ” الرّبيع العربيّ ” و ” الثّورة “.
و عندما بدأت الصّورة تتّضح و تتّضح معها طبيعة ” المؤامرة ” الشّاملة و مؤامرة الحرب الّلئيمة الهادفة إلى إسقاط الوطن جملةً.. بدأت معها ” الثّقافة ” التي تموّل الإرهاب تمويلاً رمزيّاً ، و تدعمه و تحافظ على استدامته ، بالتّحوّل ” الثّقافيّ ” أيضاً من اعتماد شعارات ” الرّبيع ” العربيّ و ” الرّبيع ” السّوريّ ، إلى سُفورِ نفاقٍ تاريخيّ لا حصر له بتكريس شعار ما سمّي بـ” الثّورة السّوريّة “، لتأليب جميع ما تبقّى من غرائزَ و شعبوية مسلّحة بسلطاتٍ تاريخيّة حاكمة في المجتمع ، و بالعواطف الانتقاميّة و الأعراف الثّأريّة.. إلخ .. و ” تعبئته ” في جيوش الإرهاب و الجريمة التي اتّسعت و امتدّت حتّى اليوم.
وإذا أغفلنا هذا الواقع ” الثّقافيّ ” سنكون عاجزين عن فهم ” سرّ ” الاستمرار المديد للطاقة الوحشيّة التي تعضدُ الجموع الإرهابيّة التي تستبدّ في غاياتها الدّمويّة ، و لو أنّها تقود نفسها عَبْرَ ذلك إلى انتحار أكيد.
على كل حال ، يجب ألّا نقلّل من أهميّة هذه ” الفرضيّة الثقافيّة “، لاسيّما أنّها تفعلُ فعلها بسهولة و يُسرٍ ، و لو على نحو تراكميّ و حثيث ، و بدون إمكانيّة مواجهتها مواجهة مسلّحة ، لأنّ أدواتها هي عدوّ نفسيّ ملتبِس في أسلحة الحرب علينا ، و خفيّ التأثير ، استطاع بالفعل التأثير في مجريات الصّراع بواسطة شكواه و تباكيه الدّائمين ، محرّضاً الحلف الأميركيّ – التّركيّ – الخليجيّ – الصّهيونيّ ، ليساهم في تغيّر مشهد الحرب باستمرار ، و ليفيدَ، بالتالي ، من إيقاعات العبث.
من جانب آخر ، يجري اصطناع الخطاب الثقافيّ لـِجَحِيميّةِ ” الثورة ” السّوريّة المزعومة ، في نبرةٍ ” متواضعةٍ ” و حتّى ” وضيعة ” أحياناً تُبرزُ ” مظلوميّة ” كاذبة كبيرة ، بينما يعتمد هذا ” الخطاب ” على ” عاطفيّة ” شعوبنا العربيّة الإسلاميّة ، و منها المجتمع السّوريّ.
هذه هي ” الأدلجة ” التي عملت عليها أدوات ” الحرب “.
يقولُ ( محمود الوَهَب ) أحد المؤدلجين الكثر ل ” الثّورة ” السّوريّة المضادّة : ” قد لا يكون للثورة السورية برنامجها السياسي ، لكنّ ذلك لم يلغِ أبدًا جوهرها ، أو يطمس معالمها ، والأهم أنه لم يقلل من ضرورتها الموضوعية “.!!!
و لكن كيف تكون ” الثّورة ” التي لا برنامج لها ، ” ثورة ” ؟ إنّها ، بالأحرى هي الجريمة الجنائيّة المجرّدة ، عينها ، و التّخريبُ الشّامل و الفظيع .
و أيضاً كيف يمكن لثورة ” اجتماعيّة ” سلميّة أو غير سلميّة ، أن تحقّق أهدافاً ” اجتماعيّة ” أو ” سياسيّة ” غير منصوصٍ عليها في ” برنامج سياسيّ “؟
لقد كان من الواضح ، منذ أوّل تفجير هذه ” المؤامرة ” المسلّحة ، على سورية ، أنّها تتّجه إلى حربٍ شاملة ، ضد الدولة و ضد الاقتصاد و ضدّ السياسة و ضدّ المجتمع..
و لكنّ عنفاً بربريّاً موجّهاً إلى كلّ ذلك ، لا يمكنُ أن يكون وطنيّاً و لا يمكن لحامله أن يُشكّل ثورةً بالمطلق.
و إذا كان هذا واضحاً للكثيرين ، إلّا أنّ الأمر يختلط على أصحاب ” العواطف ” المُبيّتة عندما تمتزجُ بالبكاء و النّواح الصّادرين عن ” أسماءٍ ” قد يراها البسطاءُ رنانةً و نجوميّةً بين النّاس ، و وراءهم عصاباتٌ من الإعلاميين المطبّلين المزمّرين بالأكاذيب و التّزوير.
والأنكى أنّ هذا ” المؤدْلِج ” ينظرُ إلى ما حدثَ على أنّه حتميّة تاريخيّة ! و يعبّرُ ذلك عن ” القرار ” الثّقافيّ و الأيديولوجيّ الخطر لناشطي الإجرام و الإرهاب ، بتدمير الحياة السّوريّة فحسب.
يقول : ” إنه من أجل أن تعود الحياة إلى سيرورتها الطبيعية ؛ سيرورتها المنبثقة من موت ما أصابها ، على نحو أو آخر ، في عمق المجتمع السوري وروحه الإبداعية ، كان لا بد من حدوث ما حدث”.
و من الملاحظ على صياغة هذا الدّاعية محدود الموهبة ” الثّقافيّة ” ـ كباقي جميع دُعاة وأدعياء الثورة المضادّة ـ أنّه يخلطُ مصطلح ” الإبداع ” بنسيج ” الجريمة ” الّلغويّ الذي يُحيكه بخبث و انحلال ؛ و كأنّه يترنّم بالقتل و الجريمة و يتمتّع بالدّمار الذي ” يجبُ ” ( كما يصوّر للعالم ) أن يسبق الرّوح الإبداعيّة التي ستشكّلها الحرب.. !!؟
ترى هل تترك الحربُ ، العلنيّة منها و الصّامتة ، التي تخرّب ” الحياة ” على مدى عاصفة الحرب ، كما عبثت بها في سورية ، هل تترك أو هل ستترك هذه ” الحرب ” أيّة إمكانيّة لروحٍ إبداعيّة أو ثقافيّة على المدى القريب أو المنظور ، في مجتمع يترنّحُ و يتخبّط في الدّماء.. ؟
يستحدثُ ” الإرهاب” له في كلّ يومٍ ” خطاباً ” في التّزييف ، يُدخله في مكوّن أيديولوجيا ” الثّورة الثّقافيّة ” الرّجعيّة و الارتداديّة و النّكوصيّة الواسعة بين الأغبياء و الموتورين – و هم كُثُر – التي نجمت عن هذه ” المجزرة ” التّاريخيّة المصنّعة بإتقان!
و إذا كانت مجازرُ ” الحداثة ” في أورُبَّا ، ممّا يُعتبرُ مناسَبةً من مناسبات الثّورة الفرنسية عام ( 1789 ) على نظام ” المَلِك ” الإله ، و ” تجاوزهم ” له سياسيّاً و ” ثقافيّاً ” و ” أنسنيّاً “، و إذا كان ذلك قد حقّق تقدّماً تاريخيّاً ؛ فإنّه لم يلبث حتّى صار مباشرةً – في حينه – محلّ رفض و انشقاقِ ” الثوّار ” الفرنسيين أنفسهم ، إبّان أحداث الثّورة ، في ما أدّى إلى انقسامهم بين ” يعاقبة ” و ” جيرونديين ” ، فماذا ينتظرُ السّوريّون من ” قطعان ” الإرهابيين و ” مثقّفيهم ” سوى الدّمارِ و مزيدٍ من الدّمار و الخراب و القتل؟