كتاب “الجيب” اسهم بنشر الثقافة بين الجميع ثم اختفى كسائر المطبوعات الورقية
منذ سنوات قليلة كان المشهد داخل وسائل المواصلات مختلفة بعض الشىء؛ حيث تجد أغلب الجالسين يحملون في أيديهم كتيبًا صغير الحجم يشبه كف اليد، ويمضون أوقاتهم في القراءة، ومن لم يحمل في يده كتاب الجيب، تجده يقرأ الصحف والمجلات، فكانت القراءة عادة، ولكن مع التطور التكنولوجي الهائل تبدلت الكتب بالهواتف الذكية؛ للتواصل عبر الواقع الافتراضي، بالعودة إلى الخلف قليلًا، سنكتشف أن كتب الجيب كان تمثل تطورًا مذهلًا في نقل الثقافة والمعرفة بالعالم كله، بل وكان لها دور حيوي في كثير من الثورات.
الظهور الأول لـ”كتاب الجيب”
كانت البداية في بلجيكا، حيث لجأ الناشرون في عام 1830 إلى طبع كتبهم بحجم صغير، متأثرين بثقافة الكنيسة التي كانت تطبع “كتاب الصلوات” بهذا الحجم، هربًا من الرقابة المشددة على المطبوعات آنذاك، والتي كانت تضرب بيد من حديد عليهم بأمر من النظام الملكي المستبد.
واستفاد من هذه الفكرة الثلاثي الفرنسي جير فيشار بونتيي، ولويس هاشيت، وميشيل ليفي، حيث أصدروا كتابًا بحجم صغير بمبلغ زهيد، وحقق ذلك انتشارًا كبيرًا عام 1938، حيث أصبحت كتب الجيب مصدر جذب للناشرين والكتاب الباحثين عن فرصة جديدة، حتى صارت أهم وسيط ثقافي مع اختراع الطباعة في القرون الوسطى.
مميزات كتب الجيب
هناك العديد من الأسباب التي ساعدت على انتشار كتب الجيب، كصغر حجمها وسهولة حملها ولغتها السهلة والواضحة وقصصها الشيقة، وكانت تدخل ربحًا كبيرًا لدور النشر بسبب ورقها الأقل تكلفة، ويعتبر سعرها في متناول الفقير الذي يسعى إلى القراءه والمعرفة، فنافست الكتب والروايات، محققة تجربة ونقله فريدة من نوعها حتى الآن.
كتاب الجيب والثورات
لعبت هذه الكتب دورًا سياسيًّا عبر التاريخ؛ لسهولة حملها وبساطة لغتها، فاستخدمها القادة حول العالم في نشر الأفكار الثورية، كما هو الحال في الثورة الفرنسية والثورات البلشفية والصينية والإيرانية وغيرها، بالإضافة إلى الثورات الثقافية، ونجد أيضًا أن هذه الكتيبات لم تقتصر على الجانب الأدبي والثقافي والترفيهي، حيث استخدمها القائمون على الجانب الديني بإصدار كتب الجيب التي تتناول الدين والرسول والصحابة والحجاب وغيرها من القضايا.
أعلى مبيعات في العالم
كانت آخر إحصائية عن توزيع سلسلة “ماذا أعرف؟” لدار “هاشيت” الفرنسية هي 165 مليون نسخة بـ43 لغة، بمعدل وصل إلى 400 عنوان سنويًّا، وذلك خلال الفترة من 1941 وحتى 2015م، وسلسلة “كتاب الجيب” الفرنسية التي بلغ سحبها مليار نسخة، مما جعل فرنسا هي رقم واحد في مستوى نشر كتاب الجيب.
انتقال التجربة إلى مصر
ظهرت هذه الكتب في مصر على يد الكاتب عمر عبد العزيز أمين، بإنشاء دار نشر تحت عنوان “روايات الجيب”، تقوم بترجمة الروايات الأجنبية، منها “البؤساء” لفيكتور هوجو، “الفرسان” لألكسندر دوماس، الروايات البوليسية لأجاثا كريستي، وتبع ذلك صدور عدة مجلات، منها سوبرمان والرجل العنكبوت، وظهرت المحاولات من جانب الكاتب محمود سالم في أدب المغامرات للأطفال؛ حيث أصدر سلسلة “المغامرون الخمسة”، والتي نالت شهرة واسعة في مصر والوطن العربي، وهي سلسلة مغامرات بوليسية، وكانت أول سلسلة من كتب الجيب على غرار المترجمة، وقام ببطولة السلسلة خمسة أولاد تتراوح أعمارهم بين التاسعة والرابعة عشرة، وهم: نوسة ولوزة وتختخ وعاطف ومحب وكلبهم زنجر.
واستمرت المحاولات إلى أن تبنى الناشر حمدي مصطفى، صاحب المؤسسة العربية الحديثة للنشر، عام 1984 سلسلة روايات الجيب، التي حققت انتشارًا واسعًا. وفي التسعينيات تم الإعلان عن تجربة جديدة موجهة للشباب تحت عنوان “روايات مصرية للجيب”، وتقدم عدد كبير من الكتاب للمسابقة، إلى أن وقع الاختيار على الكاتب شريف شوقي، الذي قدم سلسلة «المكتب رقم 19»، ثم الدكتور نبيل فاروق مقدمًا أشهر سلاسل كتب الجيب، من بينها: «رجل المستحيل، ملف المستقبل»، والكاتب أحمد خالد توفيق «فانتازيا، ما وراء الطبيعة».
نجح الناشر حمدي مصطفى في تسويق الكتيبات من خلال الأغلفة المختلفة والجذابة، التي أنجزها الرسام المصري إسماعيل دياب، وكان سعرها أيضًا مغريًا للجميع، فهو لا يتعدى 100 قرش مقابل الكتب والروايات التي كانت تزيد على 20 جنيهًا وقتها.
وذكر الروائي عبد الرحمن منيف، في «سيرة مدينة»، أن “روايات الجيب كانت خبزًا يوميًّا للكثيرين، وكان من جملة أسباب رواجها أنها يمكن أن تستبدل لقاء فارق بسيط».
وفي كتاب “خطوات على الطريق” يقول المؤرخ الأردني سليمان موسى “أقبلت على قراءة سلسلة روايات الجيب التي تصدر في مصر، وهي تراجم عن روائع الأدب العالمي، كنت أقرأ رواية في اليوم الواحد، بل حدث أنني قرأت روايتين في يوم، ورويدًا رويدًا وجدت نفسي أميل إلى قراءة كتب التاريخ والشعر والأدب”.
لماذا اختفت كتب الجيب؟
أخذت كتب الجيب تختفي شيئًا فشيئًا، مع ظهور الكمبيوتر والإنترنت والهواتف المحمولة، حيث إنها أسرع وأرخص وأيسر.
كما أن دور النشر توقفت عن تكرار هذه التجربة، والكتاب أصبحوا يفضلون الكتب والروايات عليها، لتبقى كتب الجيب متواجدة فقط في المكتبات وعلى الأرصفة، وتباع في وسائل المواصلات العامة.