صورة الحياة في فضاء “صاحب المواكب”
كتب أحمد يسري فهيد
ستظل صورته في ذهني؛ ذلك الشارد الحالم الذي يهيم في فضائه حاملاً في قسماته الرصينة آثار هموم آلاف التساؤلات والرؤى، بعيدًا يستعذب تحليقه فوق رؤوس القطيع، خارج المواكب، يقف «جبران خليل جبران»، متأملاً حال السائرين في تلك الحياة، ومن تتلاعب بهم أصابع الدهر، ثم تكسرهم.
إن القارئ المتأمل لما يكتبه جبران، وخاصةً من الشعر، ليشعر بذلك الاضطراب والتنازع في كثير مما كتبه ذلك الأديب الذي تلاعبت به الأقدار؛ ما بين غربة في صباه في الولايات المتحدة، وما بين انتزاع الموت لأقرب الناس إليه؛ أمه وأخته وأخيه بداء السل، الذي توفي جبران به أيضًا؛ ذلك التنازع الذي أخذ يبدل نظرته للحياة شيئًا فشيئًا.
لقد أخذ يبدل نظرته للموت من العداء إلى التقبل، ثم الحب؛ نعم الحب، فلقد رأى فيه الفناء في عشقه، ومقربًا لأحبته، ولكنه ظل محبًا للحياة، يعتبر كلاً من البقاء والفناء وجهين لعملة واحدة، فلا عجب أن يقول في (دمعة وابتسامة):
“قد أحببت الموت مرات عديدة، فدعوته بأسماء عذبة وتشببت به سرًا وعلنًا، ولئن لم أسلُ الموت ولا نقضت له عهدًا، فإنني صرت أحب الحياة أيضًا، فالموت والحياة قد تساويا عندي في الجمال”
ولعلنا نلحظ ارتباط نظرته للموت والحياة بالمرأة والجمال، وهذا ما أفاض الباحثون في دراسته وتفنيده، كما أشاروا للتشابه الكبير بين حياة جبران وحياة الأديب الأمريكي «إدجار آلان بو»؛ فكل منهما قد شكل الموت جزءًا من تجربته الإبداعية، فلقد تسبب السل والفقر في فقدان «بو» لزوجته، بينما يعد هذا التشابه سطحيًا إذا ما قارنا النتاج الأدبي لكل منهما، وإن أكبر دليل على ذلك يأس «بو» من خلاص روحه المعذبة.
في حين يغلب على جبران التفاؤل رغم حبه للموت الذي يساوي حبه للحياة، بالإضافة للتنازع النفسي عنده، والذي يبدو واضحًا في قصيدة المواكب على سبيل المثال؛ فالصوتان المتعارضان في القصيدة، لا يحمل أحدهما فقط وجهة نظر «جبران»، بينما يمثل الآخر دور المعارضة فحسب؛ بل إن الصوتين ليمثلان ما يجيش في نفس جبران من تنازع بين نظرة تشاؤمية ترى:
الخير في الناس مصنوعٌ إذا جُبروا
والشرُّ في الناس لا يفنى وإِن قبروا
والدين في الناسِ حقلٌ ليس يزرعهُ
غيرُ الأولى لهمُ في زرعهِ وطرُ
من آملٍ بنعيمِ الخلدِ مبتشرٍ
ومن جهول يخافُ النارَ تستعرُ
فالقومُ لولا عقاب البعثِ ما عبدوا
ربًّا ولولا الثوابُ المرتجى كفروا
وأخرى تشع بالتفاؤل ترى أنه..
ليس في الغابات حزنٌ لا ولا فيها الهمومْ
فإذا هبّ نسيمٌ لم تجئ معه السمومْ
ليس حزن النفس إلا ظلُّ وهمٍ لا يدومْ
وغيوم النفس تبدو من ثناياها النجومْ
ولكن ما يؤكد أن الاثنين يمثلان نفس جبران التي تموج بالحيرة، خيط رفيع متين يربط بين الطرفين المتنازعين؛ ألا وهو الرؤية الواضحة للحقائق، فكل منهما واثق من إيمانه ونظرته للحياة، وإنما أراد جبران أن يعبر في تلك القصيدة عن وجهتي نظر اعتنق كل واحدة منها في وقت ما من حياته بمنتهى الثبات والإيمان، وإنما يكمن الإبداع في الاحتواء والقدرة على التعبير بالقوة والقدرة نفسها على العرض لمتناقضين.
وإذا كانت المرأة قد ارتبطت عند جبران بالموت متمثلاً في أمه وأخته؛ فإنه لم يكن من العجيب أن تتحول المرأة عند جبران إلى رمز يقترب من التقديس، متساميًا عن أي علاقة جسدية؛ لذا فقد انتهت كل علاقات جبران العاطفية بانفصال أو فراق، في حين لم تنتهِ أي علاقة بالزواج.
وسواءٌ أسلمنا بارتباط ذلك الأمر بعقدة (أوديب) أو غيرها من أسباب، تتبقى لنا حقيقة ثابتة؛ هي أن جبران لم يكن ليحطم صنم المرأة الذي يقدسه، والذي يعد محور الحياة في نظر جبران، وحوله يدور الموت وبداية الحياة الأبدية بعد الفناء فيه؛ ولعل هذا ما أغرى بعض الباحثين في اتهام جبران بالاعتقاد في التناسخ، وأيد ذلك بعض أشعاره مثل:
والموتُ في الأرض لابن الأرض خاتمة
وللأثيري فهو البدء والظفر
ومن يعانق في أحلامه سحرًا
يبقى ومن نام كل الليل يندثر
ومن يلازم تربًا حال يقظته
يعانق الترب حتى تخمد الزهر
فالموت كالبحر من خفت عناصره
يجتازه وأخو الاثقال ينحدر
وكذلك من خلال بعض كلماته في رسائله لحبيبته «مي زيادة»، والتي تعبر مثل تلك الأبيات عن رمز أكثر مما تعبر عن اعتقاد بالتناسخ والعودة إلى الحياة مرة أخرى، ولكننا إن أردنا أن نثبت اعتقاده ذاك دون دراسة موضوعية ربما لن يعجزنا ذلك على الإطلاق، أما إن أردنا مزيدًا من تحري الصدق، فيمكننا أن نحمل تلك النصوص على نحو ما نحمل تلك الرسالة التي أوصى أن تكتب على قبره، على حسن الظن به:
“أنا حي مثلك، وأنا واقف الآن إلى جانبك؛ فأغمض عينيك والتفت؛ تراني أمامك”.